كيف نقع في الحب؟ وهل نحب بالفعل أم أن الأمر برمّته يكون في مخيّلتنا؟ وهل يتطلب منّا الأمر التضحية بحياتنا لنبرهن على صدق مشاعرنا؟ أم أن مشاعر الحب أبسط من ذلك؟ هذه كلها تساؤلات ستدور في رؤوسنا بينما نقرأ حكاية البطل الخيالي الحالم لرواية "منديل بالفراولة"، الذي يُذكّرنا ببطلي "الليالي البيضاء" لدوستويفسكي، و"دون كيشوت دي لا مانتشا" لميغيل دي ثيربانتس.
في روايته العاشرة "منديل بالفراولة"، الصادرة عام 2022 عن دارَي ضفاف للنشر ومنشورات الاختلاف، والواقعة في 248 صفحةً من القطع المتوسط، ينطلق الروائي السوري خليل الرز، من الميثيولوجيا الإغريقية، حيث كانت الفراولة رمزاً للنقاء والعفّة في العلاقات الغرامية، والكمال والاستقامة والصلاح حتى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، قبل أن تتحوّل لتكون رمزاً للعشق الشهواني لدى الرسام الهولندي هيرونيموس بوش، الذي جعل منها رمزاً للإغواء واللهو والملذات الحسية في ثلاثيته "حديقة الملذات الأرضية"، وكذلك الروائي الروسي نيكولاي غوغول، الذي ألصق بالفراولة المعنى الخليع، الذي جاء على لسان بطل روايته "النفوس الميتة".
ينطلق الروائي السوري خليل الرز من الميثيولوجيا الإغريقية، حيث كانت الفراولة رمزاً للنقاء والعفّة في العلاقات الغرامية، والكمال والاستقامة والصلاح حتى مطلع القرن السادس عشر الميلادي، قبل أن تتحوّل لتكون رمزاً للعشق الشهواني
وبدلاً من أن يسترسل الرز، في التقديم لنصه، فإنه يأخذنا مباشرةً إلى عمق أحداث روايته؛ حيث البطل الراوي الذي جعله بلا اسم واكتفى بالإفصاح عن كونه شاباً سورياً مهاجراً يعمل صحافياً ومترجماً في النسخة العربية لجريدة أنباء موسكو، والذي يقع في حب امرأة متزوجة من أذربيجان حلّت ضيفةً على شركائه الآذريين في السكن، وتُدعى رايا، والتي اقتحمت غرفته في غيابه لتترك له ورقةً بيضاء تدعوه فيها إلى موعد في الغابة القريبة، وتترك معها ثلاث حبات من الفراولة في طبق أبيض صغير، وذلك في مشهد يظهر فيه تأثّر الكاتب بمسرحية "عطيل" لويليام شكسبير، وتحديداً الجزء الذي أعطى فيه عطيل لزوجته ديدمونة، المنديل المطرّز بالفراولة ليضمن إخلاصها، لكنه سقط من يدها واستخدمه غريمه ياغو، فتسبب في نهايتها التراجيدية.
الانفصال عن الواقع والعيش بالخيال
منذ الصفحات الأولى للرواية، يؤسس الكاتب لعالم سحري معتمداً على أسلوب السرد التوليدي، ويتداخل بناء السرد بين عالمين، أحدهما خارجي والآخر داخلي، ويضمّ العالم الخارجي أمكنةً عدة في العاصمة الروسية موسكو، مثل البناية محل السكن ومقر عمل البطل والغابة والحدائق ومحطة القطار والمطعم، أما العالم الداخلي فيكمن في داخل البطل الغارق في خيالاته ومشاعره وتناقضاته؛ فنجده يسرد ما يدور في عالمه الخارجي من خلال عالمه الداخلي بصورة مختلفة، فمثلاً يناجي نفسه متحدثاً عن شخص لا يعرفه جالس أمامه على مقعد قطار الأنفاق، فيُخمّن له اسماً ويبتكر له وظيفةً، وربما تتطور خيالاته لتصل إلى تصوّر والدَي ذلك الشخص، ثم نجد البطل يُنهي أحاديثه مع نفسه بعد أن يغادر القطار في إحدى المحطات.
"إن كل شيء تقع عليه عيني يملك، بالنسبة لي، سيرةً شخصيةً لا علاقة لها بالتهيّؤات، فهي تحدث فعلاً في داخلي بكل تفاصيلها الحيّة، وأستطيع بسهولة، أن أقصّها على نفسي وقتما أشاء"؛ هكذا يصف بطل الرواية هذيانه وتخيلاته.
وعلى مدار صفحات الرواية، يتوهم بطلها أنه يخوض حرباً للدفاع عن حبه بعدما أُخذت منه حبيبته الآذرية وأُعيدت إلى زوجها في العاصمة الأذربيجانية باكو، ويخوض البطل مغامرات عاطفيةً لا تخرج في الأساس عن حدود خياله، لتكون معركته الحقيقية هي إعادة اكتشاف ذاته؛ فبينما يعيش حياته في مخيلته فحسب ويرسم حيوات مُختلقةً لكل ما تقع عليه عيناه من أشخاص يلتقيهم ونباتات وحيوانات وجماد كالدمى مثلاً، يتعلم البطل أنه مهما حاول الانفصال عن الحياة الواقعية فإنه لن يكون في مقدوره أن يعيش في داخله وتخيّلاته إلى الأبد.
"لقد تعلمت بحكم خبرتي الطويلة بالعيش في داخلي، أنني لا أنجو دائماً من منغصات عنيدة تتسرب إلي من الخارج رغماً عني أو من تحت ركام الحوادث والأيام في ذاكرتي نفسها"؛ هكذا يُحدّث البطل الراوي نفسه خلال رحلة اكتشاف ذاته.
ثالوث العشق الممنوع
منذ الصفحات الأولى لرواية "منديل بالفراولة"، التي تدور أحداثها في موسكو، نجد البطل يستمتع بلعبة ثالوث العِشق الممنوع؛ حيث يلعب دور العشيق للزوجة الجميلة التي عانقها وسرق منها القُبلات تحت المطر وواعدته سرّاً بضع مرات ذهبا خلالها إلى السينما أو المطعم أو إلى شقة صديقتها، ويتخيل افتضاح أمر علاقتهما لدى شريكه في السكن وصديق زوجها أبدول، الذي يصفه الراوي بأنه "رجل أذريٌّ بدين لا تغادر فمَه ابتسامتُهُ الدبلوماسية حتى حين تشي لك عيناه بأنه لا يطيقك. وكان قد فهم، قبل الكثيرين من حوله في تلك الأيام، أن الانتماء إلى الحزب الشيوعي السوفياتي سوف يصبح في القريب العاجل عبئاً على مستقبله، فانسحب من صفوفه وأعلن للمقرّبين من أصدقائه أنه قد تعمّد في إحدى كنائس موسكو"، في إشارة واضحة إلى كونه شخصيةً براغماتيةً انتهازيةً بلا مبادئ، ويكشف في موضع آخر عن تملّقه لزوج رايا، حبيبة البطل بسبب نفوذه وإتاحته لـ"أبدول"، فرصة الظهور التليفزيوني كناقد سينمائي.
وعلى النقيض منه جعل شخصية زوجته سارة، التي يقول إنها "كانت لطيفةً حقاً إلى درجة أنني كنت أشعر بغبنها كلما رأيتهما معاً. وكان يبدو لي، ويعزّيني ربما بعض الشيء، أنها كانت غالباً ما تضجر منه خاصةً حين كان يستميتُ أمام زائريه في تبرير تخلّيه المفاجئ عن معتقداته السابقة التي كان يُبَعبِع بها بمناسبة ودون مناسبة".
البطل المولع بتعذيب نفسه
ويتوهم البطل أن أبدول أبلغ الزوج المخدوع بعلاقته بالزوجة رايا، وأنه سيأتي من سفره للفتك به، لكنه لا يفعل، ثم يظن أن الآذريين سيأتون ليفتكوا به بسبب تلك العلاقة، ويُمعن في خيالاته لتعذيب نفسه، لكنه مع ذلك يترك محبوبته تفلت من بين يديه وتعود مُجبرةً إلى باكو دون أن يحاول فعل شيء.
ويقول البطل المولع بتعذيب نفسه بدافع تأنيب الضمير بسبب سلبيته وتخاذله: "كنت غالباً، من أجل مضاعفة إحساسي بالتضحية في سبيل رايا، أسافر إليها في قطارات كثيرة تنطلق بي في وقت واحد من موسكو ولينينغراد وريغا وفيلنوس وكييف وخاركوف وطشقند وألماتا، ومن مدن كثيرة أخرى لا أعرفها عملياً إلا على الخريطة. وكنت أصل إلى باكو في وقت واحدٍ أيضاً، وأحياناً في أوقات مختلفة فأصل بالقطار القادم من موسكو في منتصف الليل، ثم بعد عشرين دقيقةً أصل بثلاثة قطارات قادمة من كالينين ومن تالين ومن لينينغراد، ثم في الواحدة والنصف صباحاً أصل من تبليسي ويريفان. وفي بعض الليالي كنت أظلّ أصل إلى باكو، كل نصف ساعة تقريباً، حتى يبدأ الناس بالظهور في شوارع المدينة مع بدء انقشاع الظلام. وكان يسعدني، وأنا أتعدد في حشدٍ من عشاقٍ مذنبين يزحفون من كل جهات الخريطة إلى باكو من أجل رايا، أن أخترع لنفسي ما أمكنني من المتاعب التي لا تطاق في كل قطار من القطارات التي أركبها. وكنت أتعمد، في كل رحلاتي، أن أنسى تحضير بعض الساندويشات في البيت".
اختفاء الحبيبة الشبح
تبدو معشوقة البطل في كثير من مواضع الرواية وكأنها كانت طيفاً لا أكثر، إذ نجده لا يُمعن في وصفها ولا يعرف الكثير عن شخصيتها وماضيها، بقدر ما يتخيل المواقف التي تجمعه بها أو يواجه فيها المتاعب بسبب حبها، ونجده يتساءل هو يحبها فعلاً أم أن ما يكنّه لها مجرد مشاعر رجل تجاه امرأة جميلة؟!
وخلال السرد والحوارات القليلة التي جمعت البطل بحبيبته، نتبيّن أن رايا امرأة جميلة من أذربيجان متزوجة من رجل صاحب نفوذ ويبدو أن علاقتها به ليست على ما يرام، لذا جاءت بإرادتها إلى موسكو، لتقيم في شقة أبدول، صديق زوجها وزوجته سارة.
وتكشف رايا عن كونها كانت واقعةً في حب رجل قَبِل زواجها لكنه توفي، ونعرف أنها مُحبة للقراءة والشعر والأدب ومُطّلعة على الثقافة العربية، كما نكتشف أنها مريضة بالصرع إذ تداهمها نوبات تفقدها الوعي، وسرعان ما تختفي الحبيبة الشبح بعدما تفقد الوعي ويحملها الأذريون بعيداً، ليعلم البطل بعدها أنها سافرت إلى باكو، ولا يقوم بفعل شيء لمنعها ويكتفي بتعذيب نفسه.
ونجده بينما يجلس في مكتبه مستمعاً إلى زميله، يسبق في خياله حبيبته رايا في الوصول إلى مدينة باكو، لمرات عدّة يركب خلالها في كل مرة قطاراً مختلفاً، معطياً نفسه في كل مرة عذراً مختلفاً لكيلا يرافق معشوقته في رحلتها.
تبدو معشوقة البطل في كثير من مواضع الرواية وكأنها كانت طيفاً لا أكثر، إذ نجده لا يُمعن في وصفها ولا يعرف الكثير عن شخصيتها وماضيها، بقدر ما يتخيل المواقف التي تجمعه بها أو يواجه فيها المتاعب بسبب حبها
"كان يُشعرني بالراحة الشديدة ونكران الذات، حتى حين أتناول عشائي كالعادة في موسكو، أن أكون في الوقت نفسه جائعاً جداً في كل القطارات الذاهبة بي إلى باكو، فيما لا يتوقف جيراني المسافرون معي عن التلمظ بالطعام اللذيذ طوال الطريق. كانوا يلحّون عليّ طبعاً، من وقت إلى آخر، أن أقبل منهم سندويشة مرتديلا أو فطيرة ملفوف أو قنينة بيرة على الأقل، لكنني ما من مرة قبلت منهم شيئاً من هذا القبيل لكيلا أفسد على نفسي إحساسي بمتعة أن أصل إلى باكو متضوراً من الجوع في أنصاف ليالي الشتاء الباردة قدر الإمكان. كأن الجوع والبرد، في رحلاتي، كانا يجعلانني أكثر إخلاصاً لحب رايا وأكثر جدارةً به"؛ هكذا يقول البطل.
دفن العِجل البدائي الغشيم
ولا تخلو الرواية من نزعة رومنطيقية تهكّمية، ومن تراجيديا هزلية، يمتزج فيها ما هو خيالي بما هو غير حقيقي، كما تشوبها مشاعر الحيرة والشكوك والوساوس والأوهام والمخاوف، وتصارع الأفكار والقيم والمشاعر، وهي غنية بالمعلومات الثقافية وأسماء الكتب والأدباء والفنانين.
وعلى مدار الأحداث تتعدد الشخصيات التي يقابلها بطل رواية "منديل بالفراولة"، أو تربطه بها علاقات متنوعة مثل: أبدول وسارة ورايا ونونّا وسالم وماكسيم فاديميتش وغيرهم، لكننا نستشعر كونها علاقات سطحيةً، فالبطل شخص سلبي جبان ومتشكك، بجانب كونه خيالياً يُفضّل الغياب والسهو في حضور الآخرين، وممتلئاً بحيوات وقصص يؤلفها ويحياها في داخله فحسب.
بعد كل تخيلاته وصراعاته الداخلية يخسر حبيبته رايا، وتنتهي علاقتهما مع نهاية الرواية، إلا أنه لا يخسر نفسه؛ فعندما تتأزم الأمور نجده يستعد لمواجهة زوج عشيقته متحسباً من الوقوع في العنف وأن يُسيطر عليه العِجل المقيم في أعماقه والذي لا يعرف متى يستيقظ؟ عن طريق إبعاد كل أدوات القتل الممكنة عن متناول يديه، والتي جمعها وألقى بها مع القمامة، لكيلا ينزلق، في لحظة مفاجئة إلى التفكير في القتل أو الشروع فيه، قائلاً: "عجلي البدائي الفظ الغشيم سوف يبقى مطموراً إلى الأبد في أعماقي المشينة، تحت الكتب والأفلام والمسرحيات واللوحات".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون