في الجزء الثاني والأخير من هذا الحوار الذي أجريته في نهاية عام 1999 والذي يُنشر لأول مرة، يتحدّث الأستاذ طاهر أبو زيد، أحد أبرز رواد الإذاعة في مصر والوطن العربي، عن تجربته السياسية وبعض الحكايات التي عاشها خلال عمله الطويل في الإذاعة، وأتمنى أن يساهم هذا الحوار في إثراء المحتوى الخاص بتاريخ الإذاعة المصرية، ويساعد على تأمل مشوار وطريقة تفكير واحد من أبرز روادها، ما يمكن أن يستفيد منه بعض أبناء الأجيال الجديدة التي لا تعرف طاهر أبو زيد المذيع ولا طاهر أبو زيد الكابتن.
*****
ـــ أستاذ طاهر، من بين كل التجارب التي خضتها خلال عملك الطويل في الإذاعة، ما هي أبرز ذكرى تخطر على بالك، خصوصاً في فترة البدايات؟
ـــ والله، الإذاعة في مصر نشأت موفقة توفيقاً ربانياً عجيباً، ومن الدروس المستفادة التي تعلمناها في بداياتنا كمذيعين وأعتبرها درساً سياسياً وإنسانياً، هو أننا إذا كنا في حفلة خارجية يتم فيها إذاعة أغنية جديدة، لا يمكن أن نسمح بإذاعتها إلا إذا عُرِض علينا نص الأغنية، ونحن المذيعين نقدر صلاحية هذا النص للإذاعة، هذا ونحن في بداياتنا الأولى، أذكر أني كنت في حفلة لعبد العزيز محمود، وكنت أسمعه بشغف كغيري من المصريين وكان وقتها في عزّ مجده، سألت الأستاذ عبد العزيز: "حتقدم إيه دلوقتي؟"، فقال لي: "هاقدم أغنية جديدة"، قلت له: "هل معك نصّها، أريد الاطلاع عليها"، قال لي: "ليه، هو أنا هاقدم حاجة وحشة؟"، قلت له: "لأ، لكن أنا كمذيع لابد أن أطلع على كلمات الأغنية، أنت فنان على العين والرأس، لكن مسألة النصوص تختلف فيها الآراء"، قال لي غاضباً: "إنت بتكلمني كلام غريب عمر ما حد قالهولي، أنا راجل بقالي في الإذاعة كام سنة و..."، قلت له بتحذير أشدّ: "أستاذ عبد العزيز، سيبني أقرأ الأغنية لأرى مدى صلاحيتها، ولن أكون متعنتاً، فما فيش بيني وبينك ثارات وإذا لم تعطني الأغنية سأمنع الأغنية وألغي الحفلة"، قال لي غاضباً: "وريني شطارتك بقى"، وبدأ يخرج عن النصّ، وببساطة أمسكت الميكروفون وقلت: "أيها السادة انتهت الآن الإذاعة الخارجية ويعود بنا الميكروفون إلى دار الإذاعة، فإلي هناك"، وفي ثانية واحدة عاد البثّ إلى الإذاعة، وانصرفت وتم منع عبد العزيز محمود من الإذاعة ستة أشهر كاملة. كان هذا حوالي عام 1951 ولم يكن لي سوى سنة في الإذاعة، أو أقل من سنة، وشكروني على ذلك.
ـــ لا أستطيع منع نفسي من تخيل ما الذي سيحدث الآن لمذيع مخضرم ـ وليس حتى شاب، لو طلب من أي مطرب ربع كم نفس ما طلبته من عبد العزيز محمود في عزّ مجده. هل هناك موقف تتذكره فيما يتعلق بالتعامل مع السياسيين، خصوصاً أنك بدأت العمل في فترة كان يسمح فيها لكبار الزعماء السياسيين بالظهور في الإذاعة بشكل متكرّر؟
ـــ أول إذاعة خارجية لي كانت سياسية، كان مصطفى النحاس رئيساً للوزراء، والدولة تحتفل بعيد الجهاد، وكان ذلك بحضور جميع الأحزاب، وكانت أحزاباً حقيقية وليست ورقية، الوفد، والأحرار، والطليعة الوفدية، وجماعة أنصار السلام بتاعة يوسف حلمي الله يرحمه، والحزب الوطني، والحزب الوطني الجديد، والشيوعيين، والإخوان المسلمين، وكل حزب له لافتاته تعلن عن شعاراته، ولا زلت أذكر الزعيم مصطفى النحاس وهو يسير متكئاً على عصاه وسط هذه الجموع الحاشدة، ولا أحد يخرج على النظام.
اختاروني يومها لنقل الحدث، كان الجمع في شارع سليمان باشا، وجرفني سيل الحماس فأخرجت قلبي على لساني وأنا أقرأ جميع اللافتات بكل خلية من خلاياي، بعد الانتهاء ذهبت إلى الإذاعة وجدت زملائي يحضنوني ويهنئوني، وتدريجياً ومثل هذه الممارسات اكتسبت قدرة أحمد الله عليها، هي الشفافية والقدرة على ترجمة الجو المحيط بي.
طاهر أبو زيد: إذا كنا في حفلة خارجية يتم فيها إذاعة أغنية جديدة، لا يمكن أن نسمح بإذاعتها إلا إذا عُرِض علينا نص الأغنية، ونحن المذيعين نقدّر صلاحية هذا النص للإذاعة
أذكر واقعة أخرى حدثت بعد دخولي الإذاعة بفترة بسيطة، وكنت أنا وصديقي وزميلي المرحوم عباس أحمد لنا آراء تقدمية، وكنا نحب السلام وندعو له برغم أن كلمة السلام وقتها قبل ثورة يوليو 1952 كانت لدى السلطات مرتبطة، كنوع من الجمود الذهني، بالشيوعية، وكنا نقوم بتغطية الاحتفال برأس السنة ولم نأبه لهذا، وتحدثنا في الميكروفون عن السلام وارتباطه بأجراس الكنائس، غير مكترثين لما يمكن أن يحدث لنا. كنا متأثرين بالجو السياسي الساخن الموجود حولنا، الأحزاب وقتها كانت تعقد اجتماعاتها في سرادقات في ميدان التحرير، تجد كل يوم فتحي رضوان وأحمد حسين وغيرهم من الزعماء والشباب يخطبون، كل هذا كان لابد أن نتأثر به.
ـــ وماذا حدث لك ولأبناء جيلك المتأثرين بالأفكار التقدمية بعد أن جاءت الثورة؟
ـــ بلا شك، كلنا مع الثورة وكلنا كنا نهفو لحدوثها. أذكر أنني كنت شاهد عيان على يوم حريق القاهرة في 26 يناير، كانت البلد تحترق والملك يحمل ولي عهده الرضيع ليقدمه للضباط، كانت مشاعرنا متأجّجة. كان معنا في هذا اليوم في الإذاعة مسؤول وحيد هو الأستاذ علي خليل، ولم يكن في البلد كلها مسؤول واحد. كان عبد الفتاح حسن يخطب في الجماهير التي تهتف: "أين السلاح يا نحاس"، والنحاس يعد الناس بتوزيع السلاح، والجنود لابسين الخوذات وعمّالين يهتفوا مع الجماهير، والنساء تزغرد في البلكونات وتلقى بالأزهار على الناس قبل أن يستفحل الأمر وتحترق القاهرة.
وظل حظر التجول قائماً لأكثر من شهر ونصف، وضاقت صدورنا جميعاً، وكانت البلد مهيأة للثورة وكانت فرحتنا بها عظيمة، ولم يكن ممكناً وقتها أن يقف أحد ضد الثورة، ليس خوفاً بل طواعية، وحدثت مجموعة إنجازات وقفنا كلنا معها وارتبطنا جميعاً، كإذاعيين وصحفيين ومواطنين، بالثورة، ولم يبتعد عنها سوى عدد قليل من الذين أخذت أراضيهم. أنا حضرت أول جولة لقادة الثورة، قام بها محمد نجيب في الوجه البحري، ورأيت الناس يرمون أنفسهم على سيارته، وكنت مع الأستاذ محمد فتحي نصف ما نراه.
أنور السادات جاء إلى الحكم راكباً على جهاز تلفزيون، وعبد الناصر كان يعتمد اعتماداً رئيسياً على الإذاعة كوسيلة رئيسية لنشر دعوته وخطبه.
ـــ المعروف أن جمال عبد الناصر كان شغوفاً بالاستماع إلى الإذاعة وكان متابعاً جيداً لها، هل جمعتك به أي مناسبات أو أحداث؟
ـــ كما قيل مرة، أنور السادات جاء إلى الحكم راكباً على جهاز تلفزيون، وعبد الناصر كان يعتمد اعتماداً رئيسياً على الإذاعة كوسيلة رئيسية لنشر دعوته وخطبه. أنا التقيت بعبد الناصر مرة واحدة بعد أن نجحت في انتخابات مجلس الأمة سنة 1957 مع الأعضاء الناجحين، كان ذلك في قصر القبة. أما الذي كنت ألتقي به كثيراً فهو أنور السادات، والذي عرّفني عليه كان الفنان والكاتب والإذاعي القدير المرحوم زكريا الحجاوي، وكان ذلك قبل الثورة.
السادات كان رجلاً متكلماً، وبعد الثورة كنت أجري معه لقاءات إذاعية، وكان هو قد تولى رئاسة الاتحاد الاشتراكي لفترة، ولما عملت برنامج "رأي الشعب" لأول مرة في الإذاعة، كان أول مسؤول استضيفه هو السادات، وكان الجمهور الذي يسأله من أقطاب البلد ومن كبار مثقفي البلد، ونجح التسجيل جداً. عندما كنت أجري معه تسجيلات كان يجب أن يستمع إليها بعناية، وكنت أذهب إلى منزله أحياناً ونستمع إلى التسجيل سوياً.
ـــ من الإذاعي الذي كان الأقرب إلى جمال عبد الناصر في جيلك؟
ـــ الذي كان قريباً جداً من عبد الناصر هو المرحوم جلال معوض، كان صوته جهورياً جداً وكان يقدم خطب عبد الناصر ولقاءاته بشكل جيد، وبعد موت عبد الناصر، أصيب جلال معوض بحسرة لأنه لم يجد لنفسه مكاناً، وكان يعشق الإذاعة كأنها قطعة منه، لدرجة أنني أنا لا أعشق الإذاعة كما عشقها جلال معوض.
بالمناسبة كان لي تجربة غير مباشرة مع الرئيس عبد الناصر، بعد أن انتخبت في مجلس الأمة، والحقيقة أن شهرتي الإذاعية ساعدتني كثيراً في دائرتي الانتخابية، وكان الناس يقولون لي لا تقدم نفسك فنحن نعرفك، في إحدى القرى واسمها "كفر دميرة"، وهي البلد التي نشأ فيها الكاتب الكبير أحمد حسن الزيات صاحب مجلة "الرسالة"، وكان عمدتها الشيخ عبد العزيز الدالي، وكان رجلاً جميلاً، وقال لي: إحنا عارفينك كويس، ولو عايز البلد دي تديك أصواتها في طلب واحد، إنك تطلع هنا وتقف قدامي وأعمل معاك حلقة في برنامج "جرب حظك" الذي كنت أقدمه وقتها وكان له شعبية كبيرة.
ضحكت من قلبي ولبيت الطلب، وفعلاً عمل معي حلقة وقعد يسألني كأنه مذيع محترف. أذكر مثلاً أن القطارات التي كانت تمشي كان سائقوها يطلقون صفارات على وزن هتاف شهير ذاع وقتها يقول: "يحيا الأستاذ طاهر" وكذلك الأتوبيسات، وكان نجاحاً مدوياً لعبت الإذاعة فيه دوراً كبيراً.
طاهر أبو زيد: كنت أنا والمرحوم عباس أحمد لنا آراء تقدمية، وكنا نحب السلام وندعو له برغم أن كلمة السلام وقتها كانت لدى السلطات مرتبطة بالشيوعية، وكنا نقوم بتغطية الاحتفال برأس السنة ولم نأبه لهذا، وتحدثنا في الميكروفون عن السلام وارتباطه بأجراس الكنائس
قبل إحدى جلسات المجلس، قرأت في الصحف عناوين تقول: "جلسة ساخنة في مجلس الأمة... أربعة من النواب يخرقون قواعد الدستور ويعودون إلى تلاعب الأحزاب القديمة"، كان وقتها ممنوعاً أن تكون عضواً في المجلس وموظفاً بأي جهة حكومية، شغل حر ممكن إنما في الحكومة لا يمكن، عندما نجحت كنت موظفاً في الإذاعة، وخيروني بين عضوية المجلس والإذاعة، واستقلت وكنت واثقاً في قوة 50 ألف صوت انتخابي ورائي، عندما ذهبت إلى المجلس وجدت الليثي عبد الناصر، شقيق الرئيس جمال عبد الناصر، يمرّ على النواب بورقة تطالب برفد 4 نواب أسماؤهم في الورقة، لأنهم عملوا في مديرية التحرير التي كان يرأسها مجدي حسنين، نائب دائرة قصر النيل. كان قد حدث نزاع وقتها بين مجدي حسنين وعبد اللطيف بغدادي الله يرحمه، وكان بغدادي سريعاً جداً في إنجاز أعماله، وكانوا يقولون إن لديه عصا سحرية لإنجاز مشروعاته، وكان يعمل كورنيش النيل ومشروعات كثيرة مهمة، وكان عايز يخلي حي معروف من السكان عشان يبقى قطعة من الحضارة الحديثة في قلب القاهرة، وثار السكان وذهبوا لنائبهم مجدي حسنين، وكان وقتها مديراً لمكتب عبد الناصر، ووقف مجدي حسنين ضد القرار وقال: "اللي عايز يطلع السكان دول بيجي لي الأول ويوريني"، واحتدم الصراع.
الدور الديمقراطي لعبد الناصر كان ضعيفاً، ولذلك منذ ذلك الوقت أصبح الشعب يعتمد على الدولة ويعتبرها أمه
كان من الأربعة المطلوب رفدهم، الدكتور محمود القاضي رحمه الله، ألمع نائب معارض ظهر حتى اليوم، وكان صديقاً عزيزاً، كان أيضاً منهم أحمد شفيق أبو عوف ومجدي حسنين ونائب رابع من الإسكندرية.
كانت تربطني بالليثي عبد الناصر علاقة جيدة، حيث كنت أعرفه من أيام الإسكندرية، وكان صاحب مدرسة خاصة هناك، كانت التحرّكات التي يقودها الليثي تهدف إلى رفد النواب الأربعة، ولم يكن ذلك قانونياً، ولم أستجب لهذه المساعي بل وقفت وأعلنت رأيي الرافض لهذه الخطوة، مذكراً بعدم قانونيتها، وكان تحركي سبباً في إيقاف هذه المساعي، وقد علمت فيما بعد أن عبد الناصر كان يتابع ما يدور في الجلسة في منزله، وأنه كان عازماً على المجيء إلى المجلس ليوقف التحركات التي يقوم بها شقيقه، وأن ما جعله يعدل عن المجيء هو متابعته لما قلته من اعتراضات قانونية وسياسية أدت إلى فشل التحركات المدبرة ضد النواب الأربعة.
ـــ أستاذ طاهر، هل أنت مع من يرون أن مصداقية الإذاعة المصرية تراجعت بعد هزيمة الخامس من يونيو عام 1967، خاصة أنها ساهمت في تضليل الناس ورسم صورة غير صحيحة عن وضع مصر العسكري؟
ـــ لا أريد أن أخوض كثيراً في هذه النقطة التي تتعدّد فيها الاجتهادات، لكن باختصار نحن كمذيعين كنا وطنيين ومع أي حكومة وطنية، هناك مثلاً من أتهم جلال معوض بأن حبه لعبد الناصر جعله يعجز عن أداء نفس الدور مع السادات، لكن في الحقيقة نحن وطنيون ولسنا مع شخص بذاته، عبد الناصر كان له أخطاء ولكنه بالنسبة لنا كان رمزاً من رموز الوطن.
طاهر أبو زيد: كنت أريد أن ألعب دوراً في حياة بلدي، عبد الناصر استطاع أن يجعل الولاء لمصر وحب مصر على ألسنة الناس جميعاً
ـــ ما الذي جعلك تقرّر احتراف العمل السياسي والتخلّي عن دورك كمذيع؟
ـــ كنت أريد أن ألعب دوراً في حياة بلدي، عبد الناصر استطاع أن يجعل الولاء لمصر وحب مصر على ألسنة الناس جميعاً، كنت ألتقي في برنامج "جرب حظك" بناس حافظين الميثاق كله من أول كلمة لأخر كلمة، الحديث عن الاشتراكية والتبشير بالمساواة والعدالة وجدت استجابة لدى الناس جميعاً. وكنت أحلم بتحقيق هذا. استمررت عضواً في المجلس لغاية حصول الوحدة مع سوريا، وجمعنا عبد الناصر في قصر عابدين وقال لنا: "انتو عارفين إحنا دخلنا في وحدة ولا يصح أن يكون برلمان الدولة الواحدة متجزئاً، ولذلك نحن نوقف جلسات المجلس لغاية ما نشوف نواب سوريا وندرس كيف نتصرف"، وطالت المدة أكثر مما توقعنا، حوالي 5 أو 6 شهور، وبعدين اختاروا نواب من سوريا من أعضاء المجلس اللى كان موجود، وعدنا ثانية تحت مسمى مجلس الوحدة، وحدث الانفصال سريعاً وتوقف المجلس، وهكذا انتهى دوري السياسي، وتم استدعائي إلى الإذاعة وكنت أعمل بالقطعة، وعملت برنامج "رأي الشعب" الذي كان في الحقيقة برلماناً آخر أردت نقله إلى الإذاعة. ونجح جماهيرياً، وهو أبو البرامج الجماهيرية الموجودة الآن كلها في الإذاعة والتلفزيون. ثم نقلته إلى شاشة التلفزيون وصار أنجح بكثير، واستمر لغاية نكسة 1967، وأنا الذي أوقفته ولم يطلب أحد مني إيقافه، لأن الناس ضيوف البرنامج بعد 67 ماكانوش بيتكلموا كانوا بينفجروا، انفجارات فوق طاقة البرنامج أن يتحملها ولذلك أوقفته.
ـــ أوقفته أنت أم أوقفته الرقابة؟
ـــ أوقفته أنا من باب "بيدي لا بيد عمرو".
ـــ أعرف أنك لا تفضل الدخول في جدل سياسي، لكنني لا أستطيع تجاوز أن الإذاعة كانت صوت الحكم في عهد عبد الناصر، في مصر والوطن العربي بأكمله، واعتبر الناس بعض مذيعيها رموزاً للسياسات التي أدت بنا إلى الهزيمة، خاصة مع ارتفاع نبرات الطنطنة والنفخة الكذابة، بعد الهزيمة كيف شعرت وأنت أحد الرموز الإذاعية البارزة؟
ـــ شعوري بعد النكسة كان بشعاً، خاصة أنها جاءت بعد أيام من مؤتمر عمله عبد الناصر وكنا مرتفعين في السماء، ثم فوجئنا بأننا منكفئين على وجوهنا جميعاً. لكني لم أنكسر إبداعياً وواصلت نشاطي الإذاعي بتفوق، وإن كنا كلنا انكسرنا سياسياً.
الخطأ الآخر لعبد الناصر هو فشل عبد الناصر في إبعاد المشير عبد الحكيم عامر بعد أن أخفق في سوريا، وبعد أن أجمع كل الضباط على ضرورة رحيله
ـــ وهل بدأت تراجع موقفك من عبد الناصر، خاصة وقد كنت السياسي المتحمّس لأقصى حد؟
ـــ نعم. بدأت أراجع موقفي من أشياء كثيرة. عبد الناصر صنع ثورة وفق آمال الشعب، ولكنها لم تكن بالشعب، وإنما بمجموعة من القادة الوطنيين أُعدّ لها في غرف مغلقة، ونجحت الثورة لأن شجرة الملكية كانت قد تعفّنت ولم تكن تحتاج سوى لهزة بسيطة لكي تسقط. الدور الديمقراطي لعبد الناصر كان ضعيفاً، ولذلك منذ ذلك الوقت أصبح الشعب يعتمد على الدولة ويعتبرها أمه التي تحمله على كتفيها.
الخطأ الآخر لعبد الناصر هو فشل عبد الناصر في إبعاد المشير عبد الحكيم عامر بعد أن أخفق في سوريا، وبعد أن أجمع كل الضباط على ضرورة رحيله، واتفق معهم عبد الناصر على ذلك، لكنه كان خائفاً من الجيش ونفوذ عبد الحكيم عامر فيه. وعلي رأي موشي ديان الزعيم الإسرائيلي، أن عبد الناصر لو كان قد أدرك أنه هُزم في حرب 56 عسكرياً في سيناء لكان استطاع دراسة أسباب الهزيمة وأخذ يطوّر نفسه، لكنه لم يفعل، ودخلنا في متاهات الكبائر، أكبر قوة ضاربة في الشرق الأوسط والاستعراضات العسكرية وكذا وكذا، والحقيقة كانت أقل من ذلك بكثير.
ـــ بعد رحيل عبد الناصر الله يرحمه، جاء أنور السادات الذي كان لك علاقة جيدة به، كيف سارت الأمور معه خاصة في ظل التغييرات التي حملها عهده؟
ـــ علاقتي بالسادات كانت جيدة شخصياً، أما سياسياً فقد كانت غير موجودة. أذكر أنه بعد موت عبد الناصر كانت طوائف الشعب تذهب إلى قصر الرئاسة لتبايع السادات، وكنت في الوفد الإذاعي. انتحي بي السادات جانباً وهمس في أذني ببعض عبارات فهمت منها أنه يريد اختصار مدة الحداد الإذاعي، والذي كان يقضي بإذاعة القرآن الكريم والأغاني الوطنية فقط دون أي أغاني عاطفية، وكان الحداد قد استمر لفترة طويلة، ومن أجل هذا الموضوع كان قد اجتمع مسؤولو الإذاعات مع وزير الإعلام، بعد وفاة عبد الناصر، واتفقنا على إقرار هذا الحداد لمدة طويلة، والحقيقة أنني أرى الآن أن ذلك كان خطأ، لأنه أياً كان فالحياة فوق الموت ولابد أن تستمر الحياة.
طاهر أبو زيد: شعوري بعد النكسة كان بشعاً، خاصة أنها جاءت بعد أيام من مؤتمر عمله عبد الناصر وكنا مرتفعين في السماء، ثم فوجئنا بأننا منكفئين على وجوهنا جميعاً. لكني لم أنكسر إبداعياً وواصلت نشاطي الإذاعي بتفوق، وإن كنا كلنا انكسرنا سياسياً
المهم أنني فهمت من حديث السادات أنه يريد لإذاعة الشرق الأوسط التي كنت رئيسها أن تبدأ بكسر الحداد، وقلت له إن هذا الموضوع متفق عليها بين الإذاعات وتم إقراره، ولم يشرح لي رأيه وقتها، لكن ما قلته أحدث فجوة كبيرة بيني وبينه من ناحيته، لأنه كان يتوقع حين يصبح المرشح لرئاسة الجمهورية ويبقى فاضل 48 ساعة ويحلف اليمين أنني لا بد أن أستجيب لرغبته فوراً.
بعد هذا بدأ البعض يوقعون بينه وبين عدد من الإذاعيين بعد أحداث مايو 1971، كنت أيامها أخضع لفترة علاج، وعندما تمّ عرض اسمي ضمن المطلوب استبعادهم من القيادات الإذاعية، هو في الحقيقة قال: "لأ.. ده طاهر ما كانش موجود في الفترة دي"، إنما تم استبعاد صلاح زكي وسعد لبيب وعباس أحمد وغيرهم، حوالي 75 من قيادات الإذاعة، بعضهم تم استبعاده من الإذاعة من مايو 71 وحتى اليوم، عاد منهم بعض أصحاب الخبرات، ولكن الأغلبية راحوا الخليج واشتغلوا هناك.
ورغم أن السادات رفض إبعادي وأعادني إلى عملي، إلا أن بعض قيادات الإعلام وقتها كانوا لا يحبوني، وبدأوا يدسّون لدى السادات ضدي، إلى أن نجحوا في إبعادي عن إذاعة الشرق الأوسط سنة 72، في هذه الفترة ذهبت إلى إذاعة مونت كارلو، كأول عربي يتولى منصب مدير راديو مونت كارلو، وعندما رجعت من مونت كارلو ظللت مستبعداً حتي عام 76، عندما جاء جمال العطيفي وزيراً للإعلام، وعمل حاجة اسمها "الندوة السياسية"، وطلبني لكي أقدمها وأديرها، وقال لي: "مش عايزين نثير بعض الناس في الإذاعة ضده عشان كده.. مش هاخليك تدير الندوة على طول. أخليك تقدم الأول وناس من الخارج يديروا، وبعد كده تديرها".
بعدها وقعت أحداث 18 و19 يناير 1977 وتم اتهام الإعلام بأن دوره كان سيئاً، خاصة أن الصحافة أدت دورها ببراعة في تغطية الأحداث، بعد وقوع المظاهرات وجدت نفسي مستبعداً من جديد. وظللت بعيداً عن الإذاعة حتى أوائل التسعينيات، وإن كنت خلال تلك الفترة الطويلة أستضاف أحياناً، وكان يتم إعادة إذاعة بعض برامجي في الإذاعات المختلفة.
ـــ كيف استطعت طيلة هذه الفترة أن تتعايش مع الظل وأنت رجل تعود على العيش تحت الأضواء وكانت لديك شعبية هائلة؟
ـــ كانت كثير من إذاعات البلاد العربية تستفيد من خبراتي في هذه الفترة، خصوصاً في فترة رمضان، كما كانوا يعرضون علي الخرائط الإذاعية وأشاركهم الرأي فيما يجب عمله وما لا يجب، وأحياناً كانوا يكلفوني ببعض البرامج لعملها في القاهرة. لذلك فعملي الإذاعي استمر مع الدول العربية، ولم أكن أشعر أن شيئاً ينقصني الحقيقة، واستقبال العرب لي في كل دولة بالأحضان كان يجعلني أشعر بالسعادة.
ـــ منذ مطلع التسعينيات، ظهرت سياسة العودة للاستعانة بكبار الإذاعيين في الإذاعات المصرية، وهي خطوة حميدة بالتأكيد، لكن البعض عدها نوعاً من الهروب من الإفلاس الإذاعي الناتج عن التدهور الإذاعي ولم يعتبروها كميزة حقيقية؟
ـــ لا، أنا آسف، هي ميزة حقيقية وصاحب الفضل فيها هو عمر بطيشة رئيس شبكة البرنامج العام، وهو لديه قدر كبير من الشجاعة والجرأة والمقدرة على تقييم الناس، وقد وجد أن ريادة البرنامج العام وهو البرنامج الأم تستدعي الاستعانة برواد الإذاعة، فبدأ يستعين بنا كضيوف لبعض الفترات، خاصة في ذكرى ميلاد الإذاعة. واجتمعنا مرة أنا والأساتذة فهمي عمر وعلي خليل وصلاح زكي وعواطف البدري، وعملنا ندوة كبيرة، وحكى لنا وللمستمعين فيها أستاذنا علي خليل تفاصيل يوم افتتاح الإذاعة، ونجحت الندوة جداً، ثم بعد ذلك عمل برنامج "يوم له تاريخ"، وأعطى كلا منا فترة ليملأها، أنا والزميلة صفية المهندس والزميل صلاح زكي.
أعتقد أن الحكم على هذه التجربة أفضل من يمكن أن يمنحه هو جمهور الإذاعة، وكل استطلاعات الرأي والدراسات التي أجريت تقول إن رأي الجمهور إيجابي جداً في التجربة، وسيتوقف الأمر على قدرتنا على تقديم شيء جديد يحبه الجمهور، لأن الناس ربما تستمع إليك مرة أو مرتين، من باب التقدير للعشرة القديمة والخبرة العريضة، لكنها لن تكرّر الاستماع إليك إذا لم تقدم لهم الجديد الذي يمتعهم ويفيدهم، وهذا ما أرجو أن أوفق أنا وزملائي في فعله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...