لسنوات قليلة ماضية، كنا نقول إن الخلاف السياسي مع الدولة في المشرق العربي، سواء كانت قطرية أو قومية، يجعل منك معارضاً سياسياً يستوجب عقابه بالسجن تحت تهمة الخيانة، أما الخلاف الفقهي مع الشيخ فيجعل منك خارجاً عن الملّة، يستوجب قتله تحت تهمة الكفر.
كان المنحوس من المعارضين هو ذلك الشخص الذي يجمع بين المعارضة السياسية والمعارضة الدينية أو الفقهية. وكان هذا النحس من نصيب المعارضات اليسارية ذات الفكر الماركسي تحديداً، من شيوعيين ومَن دار في فلك أفكارهم.
طوال التاريخ القريب، كان التكفير من مهمّة الجماعات الإسلامية، وكان التخوين من مهمة الجماعات القومية، ولم يتم تبادل الأدوار أو تشاركها إلا مؤخراً.
لم يحدث، مثلاً، أن تدخّل الفقيه، أو الشيخ، أو زعيم فصيل الإسلام السياسي، في الشأن أو الفكر السياسي للأفراد. أعني أن فصائل الإسلام السياسي لم تكن تطلق أحكاماً تخوينية على المختلفين سياسياً، بل كانت تكتفي بالتوصيف الديني للفرد أو الجماعة المختلفة، وتخرجه أو تخرجها من الملة.
طوال التاريخ القريب كان التكفير من مهمّة الجماعات الإسلامية، وكان التخوين من مهمة الجماعات القومية، ولم يتم تبادل الأدوار أو تشاركها إلا مؤخراً
لم يكن الوطن مادة للجدل، ولا مساحة سياسية عند الجماعات الإسلامية، إلا بما يخدم القضية المركزية لهذه الجماعات، ألا وهي إقامة الخلافة، فكلّنا، أو على الأقل المتابعون لتصريحات زعماء هذه الجماعات، يتذكّرون ما قاله المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، في تصريحه الشهير عام 2006 وهو: "طز في مصر واللي في مصر واللي جابوا مصر"، ورغم إنكار الجماعة والمرشد آنذاك، إلا أن مجلة "روز اليوسف" التي كانت قد نشرت التصريح كجزء من مقابلة أجرتها هي مع المرشد، استطاعت أن تثبت الحادثة بالفيديو.
لم يقل المرشد هذا الكلام كزلّة لسان بالطبع، ولا لأن مصر لا تعنيه في تلك اللحظة، ولا لأنه غاضب من النظام أو من الشعب، بل لأن مصر أقل بكثير من المشروع الكبير للإخوان.
يوسف ندا، القيادي في الجماعة، هو الآخر وصف مصر بالزريبة، وذلك ضمن مقابلة له على قناة "الجزيرة".
القيادي في حركة حماس محمود الزهار، قال في عام 2019: "إن فلسطين بالنسبة لنا (يقصد جماعة الإخوان) مثل الذي يحضر مسواكاً وينظف أسنانه، فهي غير ظاهرة على الخريطة".
الكثير من التصريحات المنسوبة لقادة في الجماعات الإسلامية أو لعناصر من الصف الثاني والثالث، تؤكد أن المسلم في باكستان أهم لها ولمشروعها من المسيحي في بلادها، وأن الانتماء لمشروع هذا الباكستاني أو التركي أو الماليزي، يتفوق على انتماء المواطنة الذي قد يجمع المسلم مع المسيحي أو اللاديني في المساحة الجغرافية المسماة وطناً.
الكثير من التصريحات المنسوبة لقادة في الجماعات الإسلامية أو لعناصر من الصف الثاني والثالث، تؤكد أن المسلم في باكستان أهم لها ولمشروعها من المسيحي في بلادها
ما سبق يتوافق مع الجانب النظري في أدبيات الجماعات الإسلامية عن مفهوم الوطن، كما ويتوافق مع الصراع الفكري مع مفهوم الدولة المتحققة على مساحة جغرافية محدّدة ومعرّفة بالحدود السياسية. فـ "حدود الوطن هي العقيدة"، كما يقول مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، في كتابه "الرسائل".
الموضوع إذن لا يتعلق فقط بأن الحاكم في الدولة المعنية ظالم أو لا يطبّق الشرع الإسلامي، بل يتعلق بفكرة الوطن نفسه. فما هذه الحدود بين أبناء الديانة الواحدة إلا لتمزيق الأمة الإسلامية الممتدة، وهي بالتأكيد من صنع سايكس بيكو وليس من صنع المسلمين أنفسهم. بالإضافة إلى أن "مفاهيم الوطنية والقومية والتفرّعات المستمدة منها، لا أثر لها في الإسلام"، كما ينقل المفكر فالح عبد الجبار عن أدبيات الأصوليين والسلفيين.
ويمكن التأكيد أن القرنين الماضيين كانا محكومين بالصراع بين فكرة القومية العربية، بما تستدعيه من وحدة الدول القطرية على أسس ثقافية، وبين فكرة الأمة الإسلامية بما تستدعيه من وحدة الشعوب على أسس دينية.
كيف لنا أن نفهم اللغة التخوينية التي برزت مؤخراً في تصريحات الحركات الإسلامية، حين يتعلق الأمر برأي سياسي مخالف هنا، أو رؤية وطنية هناك؟
لم تتحقق لا هذه ولا تلك، وكل ما تحقق هو تحول الصراع من شكله الفكري إلى الشكل المسلح بعد موجة الربيع العربي، وربما قبلها بقليل. فبدل أن تتوحّد الدول القطرية العربية، صار الهدف الآني والملحّ عند القوميين، هو أن لا تتفتّت الدولة القطرية نفسها إلى دويلات محكومة من إثنيات أو طوائف. وبدل أن ينتصر الإسلام بشكله الإخواني السائد، فرّخ هذا الشكل عشرات التنظيمات المتصارعة في كل قطر.
بعد هذه المعطيات كيف لنا أن نفهم اللغة التخوينية التي برزت مؤخراً في تصريحات الحركات الإسلامية، حين يتعلّق الأمر برأي سياسي مخالف هنا، أو رؤية وطنية هناك؟ ولماذا حلّت هذه اللغة محل لغة التكفير التي كانت دارجة قبلها، وكانت كسيف مسلّط على رقاب المفكرين تحديداً. أي لماذا خفّ الضغط، إن جاز التعبير، على المختلفين فقهياً ودينياً، مقابل الزيادة الملحوظة على المختلفين في الرؤية السياسية؟
أعتقد أن هناك سببين مهمين لذلك؛ الأول هو ما قامت به الحداثة والعلم والتكنولوجيا من تأثير على الشباب العربي، ما جعل الفكر المختلف والبعيد في متناول اليد، ونتيجة لذلك، فقد زاد بشكل ملحوظ عدد اللادينيين والملحدين العرب، وصار من غير المجدي متابعة كل هذه الأعداد وتكفيرها والنيل منها.
أما السبب الثاني فيتعلق تحديداً بالفشل الذي جنته هذه الحركات بعد طول فترة النضال أو الدعوة لإنجاز مشروعها، أي أن ما جرى يُعدّ نوعاً من الردة، من مشروع الخلافة إلى مشروع الدولة. ففي حين كانت الدعوة موجودة داخل دولة متحقّقة، كان على هذه الدعوة أن تختار هدفاً أعلى من الدولة نفسها، وهو الخلافة. وفي الخلافة أنت بحاجة إلى رعايا مؤمنين، ولذلك فأنت تلاحق المختلف دينياً، أما بعد تفتّت الدول فقد صار الهدف هو الإمساك بمفاصل الحكم، وهذا يستوجب مواطنين صالحين، ولذلك فالملاحقة تصبح من نصيب المختلفين سياسياً.
لا عجب إذن من انتشار لغة التخوين لدى الحركات الإسلامية مؤخراً، وهو إن دلّ على شيء، فلا يدلّ إلا على الإحساس بفشل المشروع الجامع، وتراجع فرصه في عالم اليوم
يذكرنا هذا، إن صحّ، بالفترة التي أعقبت تفكّك الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن الماضي. فلقد كان رشيد رضا ومجلة "المنار"، يدعوان صراحة إلى إقامة الخلافة من جديد، لكن تلميذه حسن البنا، وبعد أن تحقّق من استحالة ذلك، بدأ الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية أولاً، وبعد ذلك فلنفكر بوحدة الدول الإسلامية تحت راية الخلافة.
لا عجب إذن من انتشار لغة التخوين لدى الحركات الإسلامية مؤخراً، وهو إن دلّ على شيء، فلا يدلّ إلا على الإحساس بفشل المشروع الجامع، وتراجع فرصه في عالم اليوم. ولأن لكل مشروع لغته ومصطلحاته الخاصة، فكلمة خائن، سيتم استخدامها بكثرة في قادم الأيام والسنين، وسيتم تراجع، وربما اختفاء، كلمة كافر من التداول.
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.