شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
بين التكفير والتخوين... شعرة فشل

بين التكفير والتخوين... شعرة فشل

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

لسنوات قليلة ماضية، كنا نقول إن الخلاف السياسي مع الدولة في المشرق العربي، سواء كانت قطرية أو قومية، يجعل منك معارضاً سياسياً يستوجب عقابه بالسجن تحت تهمة الخيانة، أما الخلاف الفقهي مع الشيخ فيجعل منك خارجاً عن الملّة، يستوجب قتله تحت تهمة الكفر.

كان المنحوس من المعارضين هو ذلك الشخص الذي يجمع بين المعارضة السياسية والمعارضة الدينية أو الفقهية. وكان هذا النحس من نصيب المعارضات اليسارية ذات الفكر الماركسي تحديداً، من شيوعيين ومَن دار في فلك أفكارهم.

طوال التاريخ القريب، كان التكفير من مهمّة الجماعات الإسلامية، وكان التخوين من مهمة الجماعات القومية، ولم يتم تبادل الأدوار أو تشاركها إلا مؤخراً.

لم يحدث، مثلاً، أن تدخّل الفقيه، أو الشيخ، أو زعيم فصيل الإسلام السياسي، في الشأن أو الفكر السياسي للأفراد. أعني أن فصائل الإسلام السياسي لم تكن تطلق أحكاماً تخوينية على المختلفين سياسياً، بل كانت تكتفي بالتوصيف الديني للفرد أو الجماعة المختلفة، وتخرجه أو تخرجها من الملة.

طوال التاريخ القريب كان التكفير من مهمّة الجماعات الإسلامية، وكان التخوين من مهمة الجماعات القومية، ولم يتم تبادل الأدوار أو تشاركها إلا مؤخراً

لم يكن الوطن مادة للجدل، ولا مساحة سياسية عند الجماعات الإسلامية، إلا بما يخدم القضية المركزية لهذه الجماعات، ألا وهي إقامة الخلافة، فكلّنا، أو على الأقل المتابعون لتصريحات زعماء هذه الجماعات، يتذكّرون ما قاله المرشد العام للإخوان المسلمين في مصر، في تصريحه الشهير عام 2006 وهو: "طز في مصر واللي في مصر واللي جابوا مصر"، ورغم إنكار الجماعة والمرشد آنذاك، إلا أن مجلة "روز اليوسف" التي كانت قد نشرت التصريح كجزء من مقابلة أجرتها هي مع المرشد، استطاعت أن تثبت الحادثة بالفيديو.

لم يقل المرشد هذا الكلام كزلّة لسان بالطبع، ولا لأن مصر لا تعنيه في تلك اللحظة، ولا لأنه غاضب من النظام أو من الشعب، بل لأن مصر أقل بكثير من المشروع الكبير للإخوان.
يوسف ندا، القيادي في الجماعة، هو الآخر وصف مصر بالزريبة، وذلك ضمن مقابلة له على قناة "الجزيرة".
القيادي في حركة حماس محمود الزهار، قال في عام 2019: "إن فلسطين بالنسبة لنا (يقصد جماعة الإخوان) مثل الذي يحضر مسواكاً وينظف أسنانه، فهي غير ظاهرة على الخريطة".
الكثير من التصريحات المنسوبة لقادة في الجماعات الإسلامية أو لعناصر من الصف الثاني والثالث، تؤكد أن المسلم في باكستان أهم لها ولمشروعها من المسيحي في بلادها، وأن الانتماء لمشروع هذا الباكستاني أو التركي أو الماليزي، يتفوق على انتماء المواطنة الذي قد يجمع المسلم مع المسيحي أو اللاديني في المساحة الجغرافية المسماة وطناً.

الكثير من التصريحات المنسوبة لقادة في الجماعات الإسلامية أو لعناصر من الصف الثاني والثالث، تؤكد أن المسلم في باكستان أهم لها ولمشروعها من المسيحي في بلادها

ما سبق يتوافق مع الجانب النظري  في أدبيات الجماعات الإسلامية عن مفهوم الوطن، كما ويتوافق مع الصراع  الفكري مع مفهوم الدولة المتحققة على مساحة جغرافية محدّدة ومعرّفة بالحدود السياسية. فـ "حدود الوطن هي العقيدة"، كما يقول مؤسس جماعة الإخوان المسلمين حسن البنا، في كتابه "الرسائل".

الموضوع إذن لا يتعلق فقط بأن الحاكم في الدولة المعنية ظالم أو لا يطبّق الشرع الإسلامي، بل يتعلق بفكرة الوطن نفسه. فما هذه الحدود بين أبناء الديانة  الواحدة إلا لتمزيق الأمة الإسلامية الممتدة، وهي بالتأكيد من صنع سايكس بيكو وليس من صنع المسلمين أنفسهم. بالإضافة إلى أن "مفاهيم الوطنية والقومية والتفرّعات المستمدة منها، لا أثر لها في الإسلام"، كما ينقل المفكر فالح عبد الجبار عن أدبيات الأصوليين والسلفيين.
ويمكن التأكيد أن القرنين الماضيين كانا محكومين بالصراع بين فكرة القومية العربية، بما تستدعيه من وحدة الدول القطرية على أسس ثقافية، وبين فكرة الأمة الإسلامية بما تستدعيه من وحدة الشعوب على أسس دينية.

كيف لنا أن نفهم اللغة التخوينية التي برزت مؤخراً في تصريحات الحركات الإسلامية، حين يتعلق الأمر برأي سياسي مخالف هنا، أو رؤية وطنية هناك؟

لم تتحقق لا هذه ولا تلك، وكل ما تحقق هو تحول الصراع من شكله الفكري إلى الشكل المسلح بعد موجة الربيع العربي، وربما قبلها بقليل. فبدل أن تتوحّد الدول القطرية العربية، صار الهدف الآني والملحّ عند القوميين، هو أن لا تتفتّت الدولة القطرية نفسها إلى دويلات محكومة من إثنيات أو طوائف. وبدل أن ينتصر الإسلام بشكله الإخواني السائد، فرّخ هذا الشكل عشرات التنظيمات المتصارعة في كل قطر.
بعد هذه المعطيات كيف لنا أن نفهم اللغة التخوينية التي برزت مؤخراً في تصريحات الحركات الإسلامية، حين يتعلّق الأمر برأي سياسي مخالف هنا، أو رؤية وطنية هناك؟ ولماذا حلّت هذه اللغة محل لغة التكفير التي كانت دارجة قبلها، وكانت كسيف مسلّط على رقاب المفكرين تحديداً. أي لماذا خفّ الضغط، إن جاز التعبير، على المختلفين فقهياً ودينياً، مقابل الزيادة الملحوظة على المختلفين في الرؤية السياسية؟
أعتقد أن هناك سببين مهمين لذلك؛ الأول هو ما قامت به الحداثة والعلم والتكنولوجيا من تأثير على الشباب العربي، ما جعل الفكر المختلف والبعيد في متناول اليد، ونتيجة لذلك، فقد زاد بشكل ملحوظ عدد اللادينيين والملحدين العرب، وصار من غير المجدي متابعة كل هذه الأعداد وتكفيرها والنيل منها.
أما السبب الثاني فيتعلق تحديداً بالفشل الذي جنته هذه الحركات بعد طول فترة النضال أو الدعوة لإنجاز مشروعها، أي أن ما جرى يُعدّ نوعاً من الردة، من مشروع الخلافة إلى مشروع الدولة. ففي حين كانت الدعوة موجودة داخل دولة متحقّقة، كان على هذه الدعوة أن تختار هدفاً أعلى من الدولة نفسها، وهو الخلافة. وفي الخلافة أنت بحاجة إلى رعايا مؤمنين، ولذلك فأنت تلاحق المختلف دينياً، أما بعد تفتّت الدول فقد صار الهدف هو الإمساك بمفاصل الحكم، وهذا يستوجب مواطنين صالحين، ولذلك فالملاحقة تصبح من نصيب المختلفين سياسياً.

لا عجب إذن من انتشار لغة التخوين لدى الحركات الإسلامية مؤخراً، وهو إن دلّ على شيء، فلا يدلّ إلا على الإحساس بفشل المشروع الجامع، وتراجع فرصه في عالم اليوم

يذكرنا هذا، إن صحّ، بالفترة التي أعقبت تفكّك الإمبراطورية العثمانية في بداية القرن الماضي. فلقد كان رشيد رضا ومجلة "المنار"، يدعوان صراحة إلى إقامة الخلافة من جديد، لكن تلميذه حسن البنا، وبعد أن تحقّق من استحالة ذلك، بدأ الدعوة إلى إقامة الدولة الإسلامية أولاً، وبعد ذلك فلنفكر بوحدة الدول الإسلامية تحت راية الخلافة.
لا عجب إذن من انتشار لغة التخوين لدى الحركات الإسلامية مؤخراً، وهو إن دلّ على شيء، فلا يدلّ إلا على الإحساس بفشل المشروع الجامع، وتراجع فرصه في عالم اليوم. ولأن لكل مشروع لغته ومصطلحاته الخاصة، فكلمة خائن، سيتم استخدامها بكثرة في قادم الأيام والسنين، وسيتم تراجع، وربما اختفاء، كلمة كافر من التداول.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

لا سلطان على الإنسان إلّا عقله

أُنزِلت الأديان رحمةً للعالمين، لكن هل كنّا نعلم أنّها ستُستعمل لمآرب متطرّفة لا تُشبه غايتها السامية؟ هل كنّا نعلم أنّها ستُستخدم ضدّنا، وعلينا، لتصبح خنجراً في الخاصرة، ليس بإمكاننا انتشاله كي لا يتفاقم نزفنا؟

بالإيمان الصوري، والتدين وجاهيّاً، والذكورية الصفيقة، والقداسة الموزعة "غبّ الطلب"؛ استعملت السلطات الدين، وسلّحته ضدّنا في العالم العربي، لتفريقنا، والسيطرة علينا وقمعنا.

"هذا ممنوعٌ وهذا مسموحٌ وذاك مرغوب، هذا حرامٌ وهذا حلال". لكن في رصيف22، شعارنا الوحيد هو "لا للعيش وفق تفسيرات الآخرين". 

Website by WhiteBeard
Popup Image