بعد أيام من اندلاع الحرب الأهلية في السودان، بقيادة جنرالات لا يبالون بشبح انهيار الدولة ويريدون تحقيق نصر زائف والسيطرة على مواقع الثروة، جاء الفيلم السوداني "وداعاً جوليا" إلى مهرجان كان السينمائي السادس والسبعين (16 ـ 27 أيار/مايو 2023). مشاركة الفيلم بالمهرجان كأنها إجابة سلسة عن أسئلة تتردد بأسى: لماذا دخل السودان دائرة حمقاء تنتهي بالخراب والدمار؟ لماذا اختار أبناء الوطن أن ينقسموا ويخوضوا حروباً يخسرها الأطراف كلها؟ ما تفسير إطالة الصراعات الأهلية في السودان لتستمر عابرة للأجيال منذ الخمسينيات؟
"وداعاً جوليا" هو الفيلم الأول لمخرجه محمد كردفاني الذي أغواه الإخراج السينمائي فترك الهندسة. وبهذا الفيلم يشارك السودان للمرة الأولى في مهرجان كان، ويكون من أجمل مفاجآت المهرجان ومسابقة "نظرة ما" التي سيطرت السينما العربية على جوائزها، فاستأثرت بثلاث من ست جوائز، إحداها "جائزة الحرية" التي نالها هذا الفيلم.
مشاركة الفيلم بالمهرجان كأنها إجابة سلسة عن أسئلة تتردد بأسى: لماذا دخل السودان دائرة حمقاء تنتهي بالخراب والدمار؟ لماذا اختار أبناء الوطن أن ينقسموا ويخوضوا حروباً يخسرها الأطراف كلها؟
بعمق هادئ، كتب كردفاني فيلمه، واختار فترة شديدة الخصوصية والأهمية، بين عامي 2005 (بعد مقتل الزعيم الجنوبي جون قرنق نائب الرئيس السوداني السابق عمر البشير) و2011 حيث انفصل جنوب السودان. بين التاريخين يروي كردفاني بسرده الممتع كيف انفصل الجسد، الوطن أو أهله، وتمزقت العلاقات الإنسانية حتى بين الأزواج، وذلك من خلال أسرتين إحداهما شمالية مسلمة ثرية والأخرى جنوبية مسيحية فقيرة تم طردها من بيتها؛ بضغوط من الجيران.
يبدأ الفيلم في بيت "منى" (الممثلة إيمان يوسف)، وهي مغنية معتزلة، تطاردها كوابيس دائمة، رغم ثراء البيت والزوج "أكرم" (نزار جمعة). منى لا تشعر بالأمان ولا السلام النفسي، وتغادر البيت الذي يبدو مؤمّناً كثكنة عسكرية، خوفاً من أحداث شغب عقب مقتل قرنق. قتال وحرائق وجثث تحترق، مظاهر الدمار في كل مكان، وهي في سيارتها مشتتة الذهن شاردة، تصدم طفلاً، وتظنه مات، فتهرب بسيارتها مذعورةً، في حين يطاردها أبوه بدراجته النارية. تصل إلى بيتها، وتحتمي بزوجها فلا يتردد في قتله بسلاحه الخاص، ثم يهدئ من روع زوجته التي تخفي عنه سبب مطاردة الرجل الجنوبي لها.
بنفوذ الزوج الثري يتم تسجيل الحادث دفاعاً عن النفس من الجنوبي (الخطير). تشعر منى بالذنب وتسوء حالتها النفسية، وتقرر أن تتبع المحضر، لتساعد أسرة القتيل. تصل إلى أرملته "جوليا" (سيران رياك)، وتعطف عليها وعلى الصبي، ثم تأتي بهما إلى بيتها، وبصعوبة تقنع زوجها بالموافقة على أن تصبح خادمتها. يقتنع بعد أن يقع في حب الصبي.
ثم تتقارب المرأتان، كلتاهما تكتشف الأخرى، فتتحرر من سجنها الخاص. بالفضفضة مع خادمتها الجنوبية، تتعافى منى من أوجاعها، إذ اعتزلت الغناء استجابة لأوامر زوجها المتجهم دائماً، ذي النزعة الذكورية. تعيش معه متظاهرة بالحب والسعادة وهي تفتقر إلى كليهما. تشجعها جوليا على العودة إلى الغناء، وتساعدها منى على التعليم، وتتحرران من القيود.
لكن جوليا -التي تتعلق بثوري يناضل من أجل استقلال الجنوب- مثقلة بعُقد تاريخية تتمثل في العنصرية والفساد والاستعلاء من الشماليين. ومع ذلك لا يريدنا المخرج أن نفقد الأمل. يغلف المأساة بشيء من الرومانسية، ولو بموسيقي تبث شجناً، خاصةً الأغنية السودانية للراحل سيد خليفة "جاري وانا جاره، لي متين أزور داره، بتمناله الجنة واتعذّب في ناره، أقرب زول لقلبي ضيعني بسماره".
سيناريو الفيلم شديد الذكاء والحساسية، يشير إلى استدلال خاطئ بالإسلام في المجتمعات العربية، لتسويغ العنصرية.
أسأل المخرج كردفاني عن خلفيته وطبيعة دراسته فيقول إن أباه أصر أن يدرس تخصصاً يدر المال، فاختار هندسة الطيران، وفي السنة الجامعية الأولى بدأ يكتب قصصاً قصيرة، ثم تعلم التصوير الفوتوغرافي، المونتاج، ثم قرر تحويل قصصه القصيرة "التي لم تحظ بالقراءة إلى أفلام، عسى أن تجد من يشاهدها"، والتحق بدورة تعليم صناعة الفيلم المستقل، وكان لا بد أن يصور مشهداً احترافياً في موقع تصوير واحد مدته لا تزيد على دقيقتين، وبممثلين اثنين فقط، "حتى أحصل على الشهادة"، وكان يعمل مهندس طيران في البحرين، فحصل على إجازة، وأخذت بعض مدخراته، وسافر إلى السودان، ليصنع أول أفلامه القصيرة، "لم يكن جيداً، ولكني تحمست لصناعة فيلمي الثاني "نيركوك" الذي فاز بجوائز من عدة مهرجانات" وهناك تعرف إلى المخرجين المنتجين أمجد أبو العلا ومحمد العمدة منتجي فيلم "وداعاً جوليا"، والمصور خالد عوض شريكه في شركة إنتاج أسستها بالسودان، "وتركتُ هندسة الطيران".
من هناك بدأتْ بداية الرحلة التي كان مهرجان كان أحد محطاتها. وجاء خبر اختيار الفيلم للمشاركة في المهرجان قبل اندلاع الحرب بيوم واحد، ليعرض الفيلم متزامناً مع دوران المأساة. تزامن الحرب الأهلية مع عرض الفيلم بالمهرجان أثار شجناً وحزناً على وطن مزقته الحروب. الفيلم يبدو كقصيدة هادئة تحاول أبياتها تفكيك عُقد مزمنة وتاريخ من التعصب والعنصرية والاستعباد. فيلم أحبه صناعه، وكان ذلك جلياً على الشاشة بالأداء الرائع لممثليه، خاصة النساء: إيمان يوسف التي نجحت في ترجمة أحاسيس مرتبكة بوجهها المعبر، وسيران رياك التي اختزلت بعينها مشاعر القهر.
في الفيلم تيمة تبدو تحليقاً خاطفاً إلى عنان الرومانسية، كما يقول كردفاني في تصريحاته إلى رصيف22، وبعد التحليق يصدم المشاهد بالواقع المرير: "هذه التيمة محاولة مني لرسم الفارق بين ما يمكن أن يحدث إذا ما تركنا العنصرية والقبلية ووجدنا طريقا للمصالحة والعيش المشترك، وبين ما سيحدث إذا لم نفعل ذلك".
العنصرية والتمييز الديني أو العرقي، وعدم تقبل الآخر، آفة بشرية، لا تقتصر على مجتمعاتنا العربية فقط. لا يزال الغرب يعاني آثارها، وإن كان يحسب له الانتباه أخيراً ومحاولة التكفير عن خطايا تاريخية.
يروي كردفاني بسرده الممتع، كيف انفصل الجسد، الوطن أو أهله، وتمزقت العلاقات الإنسانية حتى بين الأزواج، وذلك من خلال أسرتين إحداهما شمالية مسلمة ثرية والأخرى جنوبية مسيحية فقيرة تم طردها من بيتها، بضغوط من الجيران
لكن سيناريو الفيلم شديد الذكاء والحساسية، يشير إلى استدلال خاطئ بالإسلام في المجتمعات العربية، لتسويغ العنصرية، فحين تستنكر منى تعالي زوجها على الجنوبيين، يحسم نقاشه بأن العبودية غير مكروهة في الإسلام الذي لم يحرّمها، وأن الجنوبيين أدنى درجة. كما يشير بخبث إلى علاقتها بجوليا: "جوليا خادمتك وليست صديقتك!".
خرجتُ من الفيلم متعاطفة مع الجنوبيين، ورغبتهم في الانفصال. ورغم محاولات المخرج/المؤلف، في سرده المؤلم والعذب، تقديمَ رؤية متسامحة متفائلة لا تنحاز إلى أي من الجانبين، فإنني أشعر بتعاطفه مع الجنوبيين، من خلال مقارنة لا شعورية بين العائلتين الشمالية والجنوبية.
لكن كردفاني يقول: "ما قصدته هو رسم شخصيات بأفعال سيئة، ولكنها ليست بالضرورة شريرة في المطلق، ينطبق ذلك على الجانبين الشمالي والجنوبي، فأحداث الشغب العنيفة قام بها الجنوبيون، أعقبها طرد جوليا من المنزل. وجريمة القتل قام بها شماليون، والهدف في النهاية هو تمكين المشاهد من التعاطف مع الآخر وفهم دوافعه بغض النظر عن عرقه، هذا التعاطف الإنساني هو ما يمكن الناس من تحقيق المصالحة التي نحتاجها بشدة في السودان والعالم أجمع".
انضم/ي إلى المناقشة
jessika valentine -
منذ 5 أيامSo sad that a mom has no say in her children's lives. Your children aren't your own, they are their father's, regardless of what maltreatment he exposed then to. And this is Algeria that is supposed to be better than most Arab countries!
jessika valentine -
منذ 4 اسابيعحتى قبل إنهاء المقال من الواضح أن خطة تركيا هي إقامة دولة داخل دولة لقضم الاولى. بدأوا في الإرث واللغة والثقافة ثم المؤسسات والقرار. هذا موضوع خطير جدا جدا
Samia Allam -
منذ شهرمن لا يعرف وسام لا يعرف معنى الغرابة والأشياء البسيطة جداً، الصدق، الشجاعة، فيها يكمن كل الصدق، كما كانت تقول لي دائماً: "الصدق هو لبّ الشجاعة، ضلك صادقة مع نفسك أهم شي".
العمر الطويل والحرية والسعادة لوسام الطويل وكل وسام في بلادنا
Abdulrahman Mahmoud -
منذ شهراعتقد ان اغلب الرجال والنساء على حد سواء يقولون بأنهم يبحثون عن رجل او امرة عصرية ولكن مع مرور الوقت تتكشف ما احتفظ به العقل الياطن من رواسب فكرية تمنعه من تطبيق ما كان يعتقد انه يريده, واحيانا قليلة يكون ما يقوله حقيقيا عند الارتباط. عن تجربة لم يناسبني الزواج سابقا من امرأة شرقية الطباع
محمد الراوي -
منذ شهرفلسطين قضية كُل إنسان حقيقي، فمن يمارس حياته اليومية دون ان يحمل فلسطين بداخله وينشر الوعي بقضية شعبها، بينما هنالك طفل يموت كل يوم وعائلة تشرد كل ساعة في طرف من اطراف العالم عامة وفي فلسطين خاصة، هذا ليس إنسان حقيقي..
للاسف بسبب تطبيع حكامنا و أدلجة شبيبتنا، اصبحت فلسطين قضية تستفز ضمائرنا فقط في وقت احداث القصف والاقتحام.. واصبحت للشارع العربي قضية ترف لا ضرورة له بسبب المصائب التي اثقلت بلاد العرب بشكل عام، فيقول غالبيتهم “اللهم نفسي”.. في ضل كل هذه الانتهاكات تُسلخ الشرعية من جميع حكام العرب لسكوتهم عن الدم الفلسطيني المسفوك والحرمه المستباحه للأراضي الفلسطينية، في ضل هذه الانتهاكات تسقط شرعية ميثاق الامم المتحدة، وتصبح معاهدات جنيف ارخص من ورق الحمامات، وتكون محكمة لاهاي للجنايات الدولية ترف لا ضرورة لوجوده، الخزي والعار يلطخ انسانيتنا في كل لحضة يموت فيها طفل فلسطيني..
علينا ان نحمل فلسطين كوسام إنسانية على صدورنا و ككلمة حق اخيرة على ألسنتنا، لعل هذا العالم يستعيد وعيه وإنسانيته شيءٍ فشيء، لعل كلماتنا تستفز وجودهم الإنساني!.
وأخيرا اقول، ان توقف شعب فلسطين المقاوم عن النضال و حاشاهم فتلك ليست من شيمهم، سيكون جيش الاحتلال الصهيوني ثاني يوم في عواصمنا العربية، استكمالًا لمشروعه الخسيس. شعب فلسطين يقف وحيدا في وجه عدونا جميعًا..
محمد الراوي -
منذ شهربعيدًا عن كمال خلاف الذي الذي لا استبعد اعتقاله الى جانب ١١٤ الف سجين سياسي مصري في سجون السيسي ونظامه الشمولي القمعي.. ولكن كيف يمكن ان تاخذ بعين الاعتبار رواية سائق سيارة اجرة، انهكته الحياة في الغربة فلم يبق له سوى بعض فيديوهات اليوتيوب و واقع سياسي بائس في بلده ليبني عليها الخيال، على سبيل المثال يا صديقي اخر مره ركبت مع سائق تاكسي في بلدي العراق قال لي السائق بإنه سكرتير في رئاسة الجمهورية وانه يقضي ايام عطلته متجولًا في سيارة التاكسي وذلك بسبب تعوده منذ صغره على العمل!! كادحون بلادنا سرق منهم واقعهم ولم يبق لهم سوى الحلم والخيال يا صديقي!.. على الرغم من ذلك فالقصة مشوقة، ولكن المذهل بها هو كيف يمكن للاشخاص ان يعالجوا إبداعيًا الواقع السياسي البائس بروايات دينية!! هل وصل بنا اليأس الى الفنتازيا بان نكون مختارين؟!.. على العموم ستمر السنين و سيقلع شعب مصر العظيم بارادته الحرة رئيسًا اخر من كرسي الحكم، وسنعرف ان كان سائق سيارة الاجرة المغترب هو المختار!!.