شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
محمد الفيتوري... صوت

محمد الفيتوري... صوت "الزنوجة" في الشعرية العربية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأحد 7 مايو 202310:07 ص

هذه المرة، ينهض اسم الشاعر السوداني محمد الفيتوري من الموت والنسيان المُر، عبر موتٍ آخر، أشد وطأة ودموية، حيث توفيت زوجته آسيا عبد الماجد رائدة المسرح السوداني، منذ يومين بالخرطوم، متأثرة بجروحها إثر إصابتها بشظية طائشة بعد استهداف مبنى مؤسستها "أم إيهاب" للتربية والتنشئة الاجتماعية بقذيفة. ولم تتمكن أسرتها من سحب جثمانها ودفنه في المقبرة، وتم مواراتها الثرى داخل حوش المؤسسة.

وقد نشر رواد موقع التواصل الاجتماعي "الفيس بوك"، خبر وفاة الفنانة آسيا، مع صورة لها، بجوار زوجها الشاعر الراحل، باعتبارهما رمزين ثقافيين، خاضا نضالاً طويلاً، من أجل حرية وطنهما، الذي انفتح جُرحه من جديد عبر الاضطرابات السياسية والعسكرية الأخيرة التي تحصد يومياً عشرات القتلى والجرحى.

"الزنوجة"... هوية وقصيدة

هذا الجُرح السوداني المفتوح بضراوة، يجعلنا نستعيد المسيرة الحياتية والابداعية للشاعر محمد الفيتوري، أحد أبرز رواد الشعر الحر الحديث؛ فمن الجُرح السوداني العميق الممتد منذ تاريخ سحيق، خرجت قصائد الفيتوري، حية، نارية، صارخة، في وجه كل معتدٍ ومُكبِل لحرية وطنه.

لعل المدهش في الفيتوري هو أنه لم يفصل مطلقاً أفريقيته أو سواد بشرته أو "زنوجته" عن عروبته ولم يتخذ منها تجارة فكرية أو مادية بعد أن تحولت محنة الأقليات العرقية إلى وسيلة ثراء رائجة مع الألفية الثانية

ولعل قصائده التي تغنت بالوجع السوداني، وطمحت إلى الثورة والحلم، تنظر بحسرة اليوم للوطن وهو على أعتاب الحرب الأهلية. وللفيتوري قصة طويلة وملتهبة؛ هو الذي لمس الجرح الأفريقي، بالأحرى جُرح "الزنوج" الأزلي، وغاص في دمائه ليعثر على ختم العبودية الدامي. هذا الختم الذي حُفر منذ سنوات بعيدة في جسد وروح جدته "الزنجية" زهرة. وهكذا صارت "الزنوجة" هوية وقصيدة يُشهرها الفيتوري في وجه العالم، يقول في إحدى قصائده:"قلها لا تجبن... لا تجبن/قلها في وجه البشرية/ أنا زنجي/ وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية".

الجدة زهرة

الفيتوري الذي ولد عام 1930 بمدينة "الجنينة" عاصمة دار مساليت الواقعة على حدود السودان الغربية، تمتزج في دمائه عدة أعراق:"البدوية، و"الزنجية"، والنيلية"؛ فوالده الشيخ مفتاح رجب الفيتوري، كان خليفة خلفاء الطريقة الأسمرية، وهو صوفي ليبي. هاجر هو وأسرته إلى غرب السودان، بسبب ظروف القهر الفاشستي التي عاشتها ليبيا تحت وطأة الاحتلال الإيطالي.

أما والدة الشاعر فهي عزيزة علي سعيد من قبيلة الجهمة، وهي قبيلة عربية حجازية، هاجرت إلى صعيد مصر ثم إلى ليبيا. ووالدها الشريف علي سعيد –جد الشاعر- كان تاجر رقيق وعاج وذهب وحرير، تزوج من جارية، كانت قد أهديت إليه وأنجبت له والدة الشاعر. هذه الجدة هي زهرة، الحلقة التراجيدية في حياة الفيتوري، والجذوة المشتعلة في أعماقه، هي التي غرست فيه بذرتها النارية، فأشعلت روحه، حتى أورثته العبودية، ذلك الشعور الذي لازمه طويلاً، حتى صار عصباً لمشروعه الشعري. كانت هذه الجدة التي انبثقت من خلالها صرخة الشاعر الأفريقية، حاضرة دائماً في أحاديث الفيتوري.

في حوار صحفي لجريدة الوطن الثقافي، يحكي الشاعر بأسى قصة جدته:"هذه الجدة العجوز التي اُسرت واُختطفت رغم انتمائها إلى إحدى أهم القبائل الأفريقية، هي الصوت الذي انبثق ليعبر عن آلام الإنسان الأفريقي. كانت صغيرة، عمرها تسع سنوات، خرجت لتأتي بالماء مع قريناتها، وفجأة وجدت شخصاً أسمته (الجلابي). قالت: جاء أحد الجلابة، ثم خطفني وأردفني وراءه. وهنا وقفتُ على صراط ما بين الحرية والعبودية. بين جدتي المستعبدة وجدي تاجر الرقيق".

إنهم يسخرون مني

هوية ملتبسة، وميراث ثقيل من العبودية والغربة، هذا بالإضافة إلى حساسية الشاعر المفرطة، وإحساسه الدائم بالوحدة، والنبذ بسبب لون بشرته/"زنوجته": "دائماً تحاصرني عيونهم... تتابعني حينما أسير... إنهم يسخرون مني... لقد فضضت سر اللغز... سر مأساتي أنني قصير وأسود ودميم". إنه العذاب بأنيابه الحادة، يسكن أعماق الشاعر ويحفر فيه. لكنه في صحوة من الزمن، يرى شعاع الضوء قادماً من بعيد. إنه الشعر الذي كان له ملاذاً وحرية، وصوتاً نارياً، أطلقه عبر 17 ديواناً، وثلاث مسرحيات شعرية. وكانت البداية لافتة بل ومدوية؛ فهذه الموجات العاتية من الغضب، وجد لها الفيتوري مصباً في نهر أفريقيا العظيم.

وأصبحت هذه القارة، معادلاً لمعاناته، وقناعاً يستطيع من خلاله أن يصرخ ويثور ويتحرر من صراعاته النفسية وأزماته الباطنية. فعبر دواوينه الثلاثة الأولى:"أغاني أفريقيا، عاشق من أفريقيا، اذكريني يا أفريقيا"، أراد الشاعر أن يُذَّوب "زنوجته" في دماء الشعر، لتُصبح القصيدة ملونة بمأساة "الزنوج"، وكذلك صوتاً للأفارقة العرب الذين يُشكلون ثلثي السكان في الوطن العربي. ومن ثم كان الفيتوري الشاعر العربي الوحيد الذي يغرد وحيداً وسط هدير أصوات وشعراء، وخطباء القومية العربية لإيصال صوته "الزنجي" وصوت أفريقيا كلها، ربما بالتزامن مع أصوات عالمية أخرى في ذلك الوقت، مثل: إيميه سيزار وليوبولد سنجور.

"قلها لا تجبن... لا تجبن/قلها في وجه البشرية/ أنا زنجي/ وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية".

ولعل المدهش في الفيتوري هو أنه لم يفصل مطلقاً أفريقيته أو سواد بشرته أو "زنوجته" عن عروبته ولم يتخذ منها تجارة فكرية أو مادية بعد أن تحولت محنة الأقليات العرقية إلى وسيلة ثراء رائجة مع الألفية الثانية. كان صاحب مشروع شعري ثوري حقيقي، يحاول تخليص القارة السوداء من نير الاستعمار الأوروبي الذي استعبدها قروناً طويلة، ويطمح في قصائده إلى تحرير شعوبها بالتزامن مع موجة الاستقلال وتأسيس الدولة الوطنية التي برزت في أماكن عديدة منتصف القرن الماضي في دول ما يسمى "العالم الثالث" ومن بينها مصر.

ولم يُقدم صاحب "ابتسمي حتى تمر الخيول"، "زنوجته" كمظلمة أو كعقدة اضطهاد "انفصالية". إنه شاعر أو "حامل لواء" أصحاب الوجوه السوداء، ومعهم أبناء بقية الأعراق الأخرى، الذين ينادون بأحقيتهم في الحرية والعدل والمساواة، ضمن الإطار الجامع للثقافة العربية، لا كخدمة ما بعد كولونيالية للغرب كما نرى حالياً، تستهدف الهيمنة الناعمة على الشعوب عبر تفكيك الدول وتحويلها الى بؤر صراع وتناحر ديني وعرقي مثلما هو الحال في العراق وسوريا والسودان واليمن.

تمزيق الطبقة وتجار الأيديولوجيا

لكن هذا الصوت الثوري الحقيقي، كان مزعجاً، لعدد من المثقفين المصريين والعرب، وعلى رأسهم المفكر اليساري المصري محمود أمين العالم الذي كتب مقالة نقدية لاذعة عن الديوان الأول للفيتوري، وبعدها دارت مناقشة محتدمة بين الشاعر وأمين العالم على صفحات مجلة الآداب البيروتية، وصف خلالها المفكر اليساري، صاحب أغاني أفريقيا، بالشاعر الحاقد المريض، بدعوى أنه يُسقط مأساته الخاصة على قارة أفريقيا بأكملها، ومن ثم يُمزق القضية، والطبقة وكذلك الكتلة الجماهيرية الواحدة.

فأمين العالم كان رافضاً لتبني قضية منفصلة "للسود"، قال له نصاً: "إنك تُمزق الكتلة الجماهيرية الواحدة، بدعواك أن هناك قضية منفصلة للسود. إن العامل الأبيض والعامل الأسود، يرزحان تحت نير تاريخي واجتماعي واحد هو نير الرأسمالي الأبيض، والرأسمالي الأسود، نير الاستعمار والاستغلال". وجاء رد الفيتوري:"هذا حق... وحق أيضاً، هذه الوراثات والخصائص البيولوجية والسيكولوجية، هذه المشاعر والانفعالات المركبة المعقدة، التي انحدرت إلينا مع عذابات التاريخ... إن بصمات العبودية تركت آثارها على الأرواح أيضاً وليس فقط على الأجساد. إنك لا تستطيع أن تتعمق في حقيقة مأساتي، لأنك لا تستطيع أن تعيش تجربتي". ربما غاب عن محمود أمين العالم، أنه من مزق الحقيقة بهذا الحديث المؤسف... فأي طبقة يتحدث عنها المفكر اليساري؟!

وبشكل عام، ما قاله أمين العالم يوضح لنا أن السود ضحايا لتجار الأيديولوحيا قديماً وحديثاً: استبعدهم اليسار القديم خدمة للشيوعية، ويستعملهم حالياً اليسار الجديد خدمة للرأسمالية. الأول بحجة أنهم أصحاب دعوى تؤدي إلى تمزيق الطبقة الجماهيرية، والثاني بهدف ضخ دماء جديدة في عروق الليبرالية المتأزمة أو المريضة.

عنترة بن شداد وبودلير

لا يتقوقع الفيتوري داخل زنجيته أو سواده أو "حقده" كما يزعم أمين العالم، بل ينطلق من ألمه الشخصي، لينادي بالحرية للإنسانية ولجغرافيا الأرض كلها: لأفريقيا، والسودان، وفلسطين، ولبنان، وسيناء. كما أن رموزه الثورية مختلفة الأعراق والجنسيات، وتضم على سبيل المثال: عرابي و زهران وعبد الناصر ولومومبا وعمر المختار وجميلة بوحيرد والإمام علي والإمام المهدي والبطل السوداني تاج الدين الذي سقط شهيداً على يد الاحتلال الفرنسي.

أما رمزه الفني الذي اختاره ببراعة لافتة من عمق التراث العربي، فهو شريك له في الشعر والنبذ والألم: عنترة بن شداد. وعندما دخل عالم بودلير المخيف المعذب في أزهار الشر، أحس بصلة روحية قوية بينهما في التمزقات الحسية والوجدانية. كتب في مقدمة أعماله الكاملة:"بودلير الأرستقراطي الأبيض، يُحطم الفوارق الطبقية واللونية بطريقته الخاصة، فمعبودته الأرضية جارية سوداء اسمها جان ديفال. إن شارل بودلير يقترب مني أكثر فأكثر. ذلك الشاعر الملعون.. الجرح والسكين، الضحية والجلاد. إنني أنتمي إليه بصلة ما".

"دائماً تحاصرني عيونهم... تتابعني حينما أسير... إنهم يسخرون مني... لقد فضضت سر اللغز... سر مأساتي أنني قصير وأسود ودميم"

ما بين السودان ومصر التي قضى فيها الردح الأكبر من حياته، وليبيا ومحطته الأخيرة المغرب حيث توفي هناك عام 2015؛ ظل هذا العاشق العربي الإفريقي قابضاً على جمر الشعر حتى آخر يوم في حياته. تكفيه قصيدته "تحت الأمطار" التي كتبها عام 1955 ونشرها في ديوانه الأول، لتضعه في صدارة أقرانه من رواد شعر التفعيلة أواسط القرن العشرين، لكنه للأسف ظل في مكانة لا تليق به، بعيداً عن نجومها أو طواويسها، ولا يعرفه حالياً من الأجيال الجديدة إلا قليلون:

أيها السائق

رفقاً بالخيول المتعبة!

قف...

فقد أدمى حديد السرج لحم الرقبةْ

قف...

فإن الدرب في ناظرة الخيل اشتبه

هكذا كان يُغني الموت حول العربةْ

وهي تهوي تحت أمطار الدجى مضطربةْ!

.....

غير أن السائق الأسود ذا الوجه النحيل

جذب المعطف في يأس

على الوجه العليل...

ورمى الدرب بما يُشبه أنوار الأفول

ثم غنى سوطه الباكي

على ظهر الخيول...

فتلوت...

وتهاوت...

ثم سارت في ذهول!

في مقابلة مع مجلة "الحوار" الباريسية عام 1987 يؤكد الفيتوري أنه يشعر بضياع كبير بعد خروجه من مصر. يتذكر شبابه في الإسكندرية وقبري والديه اللذين دفنهما هناك، ويريد العودة إلى المنبع ومصادر إلهامه الأولى. نشر الحوار بعنوان: "أريد العودة إلى مصر"، لكنه لم يعد إلى مصر، ولا أحد يتذكره في مصر.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard