شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!

"روما إفريقيا"... تاريخ من النهب والتشويه والإهمال

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الثلاثاء 23 مايو 202312:03 م

على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وعلى بعد بضعة كيلومترات قليلة شرق مدينة الخمس الليبية، تقع مدينة "لبدة" العظمى، إحدى مدن الشمال الإفريقي الكبرى، التي كانت موطناً لجماعات بشرية في عصور ما قبل التاريخ، قبل أن يؤسسها البحّارة الفينيقيون في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، إذ كانوا يترددون عليها كثيراً خلال رحلاتهم التجارية في البحر المتوسط، في ظل احتوائها على ميناء طبيعي سمح لهم بالعبور إلى أراضيها، حيث توطدت علاقاتهم مع سكانها الأصليين، فتشجعوا على استثمار مناخها المعتدل وأرضها الخصبة في تأسيس المدينة.

في أواخر القرن السادس قبل الميلاد، حاول الإغريق استعمارها، إلا أن القرطاجيين تخوفوا من النفوذ الإغريقي بالقرب من حدودهم، فهاجموا المستعمرات الإغريقية، وألحقوا بها الهزيمة، وضموا "لبدة" إلى ملكهم لتصبح إحدى المدن البونيقية، وظلت مركزاً رئيسياً في المنطقة حتى أوائل القرن الثاني قبل الميلاد، بعدما سيطرت عليها مملكة "نوميديا". وفي العام 42 قبل الميلاد، احتل الرومان سواحلها، لتصبح المدينة جزءاً من "إفريقيا الرومانية"، وقد سعى "الجرمنتيون" القدماء إلى مقاومة الاحتلال الروماني للبدة، والسيطرة على أراضيها التي تمثل بوابة العبور التي تربط البحر الأبيض المتوسط بالجنوب والسودان، إلا أن الجيش الروماني استطاع صدّ غزو "الجرمنتيين"، وأعاد للمدينة مكانتها التي كانت تتمتع بها.

"لبدة العظمى" والنهضة الرومانية

شهدت "لبدة" تطوراً عمرانياً وثقافياً ضخماً خلال فترة حكم الرومان، فعلى غرار الحمامات الرومانية الكبرى أنشأ فيها الإمبراطور هادريان، في أوائل القرن الثاني الميلادي، حمامات حملت اسمه، قبل أن يبدأ الإمبراطور الروماني الليبي سيبتموس سيفروس، الذي وُلد فيها وحكمها بين عامي 193-211 م، حملةً تنمويةً ضخمةً لجعلها واحدةً من أجمل مدن الإمبراطورية الرومانية، فأصبحت لفترة عاصمةً لحكمه بدلاً من "روما"، حيث اهتم بالزراعة والتجارة، وشيّد فيها قاعةً ملكيةً ضخمةً، وقوساً للنصر، وعدداً من الأسواق، وميداناً لسباقات الخيل، وممرات من الأعمدة الرخامية، ومسرحاً للفنون يطل على البحر الأبيض المتوسط ويستوعب الآلاف من الجماهير.

"كانت موطناً لجماعات بشرية في عصور ما قبل التاريخ، قبل أن يؤسسها البحّارة الفينيقيون في نهاية القرن السابع قبل الميلاد، إذ كانوا يترددون عليها كثيراً خلال رحلاتهم التجارية في البحر المتوسط"... تعرفوا/تعرفن معنا على "روما إفريقيا"

خلال عام 455 م، فقدت "لبدة" مكانتها بعد أن اهتم الإمبراطور ترايانوس ديكيوس بمدينة طرابلس، فساءت أحوالها وهاجمتها القبائل الجرمانية الشرقية مجدداً، وامتدت إليها يد النهب والسلب، قبل أن تتعرض لفيضان ضخم حطّم جسورها وأسوارها، وزحفت الرمال عليها، فأهملوا شأنها، وفي عام 533 م، احتلها البيزنطيون، في عهد جديد سعوا خلاله إلى إصلاح ما تعرضت له البلاد من فساد، وبعد وفاة الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول، عادت البلاد إلى مسار الانحطاط والخراب، حتى عام 643 م، حينما وصلت إليها طلائع الفتح الإسلامي الأولى، فلم تجد فيها سوى بقايا القصور والمباني الضخمة وأجناس متعددة تكونت طبقاً لتاريخ المدينة الحافل.

جرائم الحكم العثماني وبداية عمليات نهب آثار لبدة

يقول إثيليو موري، في كتابه الرحالة والكشف الجغرافي في ليبيا، إن عمليّة تجريد لبدة من تراثها تمت عن طريق القنصل الإنكليزي وارنغتون، حيث أعان هذا القنصل الرحالة الإنكليزي سميث، في إجراء حفريات سرّية في مدينة لبدة، وتم تخصيص التحف التي عُثر عليها في أثناء هذه الحفرية للأمير الوصي على عرش إنكلترا آنذاك.

ويروي الرّحالة الإنكليزي إدوارد ريا، الذي زار مدينة طرابلس عام 1877، في كتابه المغرب العربي في القرن التاسع عشر، أن الباشا التركي في طرابلس في بداية القرن التاسع عشر كان يقوم بالاتّجار بالمواد الأثريّة الموجودة في مدينة لبدة، ويقول إدوارد إنه استمع خلال زيارته إلى روايات عديدة تصف حجم عمليات النهب والتخريب التي طالت الآثار الرومانية في مدينة لبدة العظمى، ويصف هذا الرّحالة الإنكليزي إحدى عمليات نهب الآثار قائلاً: "صعدنا إحدى التّلال الأثريّة فوجدنا على قمّتها خمسة عشر أو عشرين زنجيّاً يترأسهم أحد الأوروبيين في أثناء قيامهم بعملية التنقيب عن الآثار، وفجأةً ظهر أمامهم -تحت الرمال- معبد كامل بأعمدته الغرانيتيّة، مما حثّهم على استخراج الأعمدة تمهيداً لنقلها إلى الخمس ومنها إلى أوروبا".

الآثار الرومانية المنهوبة 

خلال عام 1816، وطبقاً لتقرير صحافي في موقع "ذا ناشيونال نيوز"، طلب اللورد البريطاني وارنغتون، باعتباره القنصل العام لطرابلس، من الحاكم العثماني باشا قرمانلي، أن يسمح له بالاستيلاء على بعض من آثار لبدة الكبرى لصالح التاج البريطاني، وذلك بعد أن أسرته مشاهد الآثار الرومانية، وتضمنت الكنوز التي تم نقلها إلى بريطانيا 22 عموداً من الغرانيت، و15 عموداً رخامياً، و10 تيجان، و25 قاعدةً، و7 بلاطات، و10 قطع من كورنيش الساحل، و5 بلاطات منقوشة، بالإضافة إلى أجزاء مختلفة من المنحوتات الشكلية والحجر الجيري الرمادي، حيث تم إيداع معظمها في المتحف البريطاني كهدية للملك جورج الرابع، ولكن في عام 1828، تم نقلها إلى موقعها الحالي عند بحيرة فيرجينيا ووتر، على الحافة الجنوبية لحديقة ويندسور الكبرى، وأطلق الإنكليز على الموقع الجديد: "معبد أوغسطس".

رفضت الشركة العقارية الممثلة للملكة إليزابيث الثانية، تسليم أي آثار تعود للعصر الروماني إلى ليبيا، إذ تُعدّ تلك الآثار ملكيةً مدرجةً من الدرجة الثانية في الشركة الممثلة للملكة، وذلك بعد أن تقدم المحامي الليبي محمد شعبان، المقيم في لندن بطلب رسمي لاستعادة آثار بلاده القديمة، إلا أن الشركة التابعة للملكة أجابت بفتور: عفواً، لن يتم إرجاع شيء إلى ليبيا. ويقول شعبان، إن إنكلترا لا تملك دليلاً واحداً على الأصل القانوني لهذه القطع الأثرية الليبية، برغم أنهم يدّعون بأنهم حصلوا عليها كهدية.

يضيف شعبان، وفق "ذا ناشيونال نيوز"، أن رد الشركة الأخير كان عبارةً عن خطاب مقتضب من سطرين يقولان إنهم لن يعيدوا الأعمدة إلى ليبيا، واصفاً ما حدث بأنه إهانة، ورد غير كافٍ بشكل يائس، حيث أن المملكة المتحدة ضمن الدول الموقعة على العديد من المعاهدات الدولية المتعلقة بحماية الممتلكات الثقافية. يقف المحامي الليبي الذي تولى القضية بطلب من السفارة الليبية في لندن، وسط آثار بلاده المنهوبة في بريطانيا حزيناً، ليحكي قصتها، ولكنه ما زال يأمل أن يمثل ضغط المؤسسات الدولية على العائلة المالكة عاملاً لكي تستعيد ليبيا جزءاً من تاريخها الروماني العظيم، حيث بدأ التواصل مع منظمة "اليونسكو" لإدخالها كوسيط بين بلاده والعائلة المالكة في بريطانيا لاستعادة آثار لبدة العظمى، خاصةً أن الأرض التي تقع عليها الآثار اليوم هي ملكية خاصة بالعائلة المالكة.

آثار لبدة العظمى تزيّن معالم فرنسا

يصف العبدري، في كتابه "الرحلة المغربية"، إشراف الحكومة العثمانية على تهريب آثار لبدة الليبية إلى فرنسا خلال عام 1866، على يد القنصل الفرنسي كلود لومير، الذي أدرك قيمة المواد الأثريّة في لبدة، وقام بشحن كميات هائلة من الأعمدة تُقدَّر بنحو 29 عموداً من الرّخام بالإضافة إلى عدد كبير من المنحوتات، وقد شُحنت هذه المواد من مدينة لبدة مباشرةً إلى ميناء طولون الفرنسي، ومنه نُقلت إلى مدينة فرساي، حيث استُعملت في بناء قصر فرساي الشهير.

وتقول المؤرخة الأمريكية نانسي تومسون، في موسوعة تاريخ علم الآثار الكلاسيكي، إن كنيستَي "روان" التي تقع شمال غرب فرنسا، و"سان جيرمان" التي تقع في العاصمة الفرنسية، تضمّان عدداً من الأعمدة الرومانية التي تم استخدامها في تزيينهما بعد أن تم جلبها من لبدة الكبرى عبر أحد القناصل الفرنسيين في ليبيا.

أشرفت الحكومة العثمانية على تهريب آثار لبدة الليبية إلى فرنسا خلال عام 1866، على يد القنصل الفرنسي كلود لومير، الذي أدرك قيمة المواد الأثريّة في لبدة، وقام بشحن كميات هائلة من الأعمدة تُقدَّر بنحو 29 عموداً من الرّخام بالإضافة إلى عدد كبير من المنحوتات

عراقيل قانونية تمنع عودة الآثار 

يقول أستاذ القانون الدولي في جامعة بنغازي محفوظ العبدلي، في تصريحات لرصيف22، "إن هناك صعوبةً بالغةً في استعادة ليبيا لآثارها المنهوبة من مدينة لبدة، والتي تتواجد في بريطانيا وفرنسا على حد سواء، حيث أن اتفاقية اليونسكو التي وقعت عليها لندن وباريس والتي تلزمهما برد كل القطع الأثرية إلى بلادها الأصلية لا تنطبق على الحالة الليبية، لأن أعمال النهب التي تمت كانت قبل توقيع الاتفاقية، مما يجعل المطالبة برد الآثار الليبية طبقاً للاتفاقية كعدمها، لأنها خارج إطار هذه الاتفاقية"، ويضيف العبدلي: سياسياً، يختلف وضع فرنسا عن وضع بريطانيا، فباريس سبق لها أن قدمت اتفاقيةً بين القنصل الفرنسي والحاكم العثماني لليبيا تسمح لفرنسا بنقل بعض آثار لبدة إليها على سبيل الهدية، بينما لا تملك بريطانيا أي وثائق تفيد بنقل آثار الحقبة الرومانية إليها بطرق مشروعة.

الإهمال يضرب في لبدة

بالرغم من أن لبدة واحدة من أروع المواقع الأثرية الرومانية التي شهدت على حضارات ما قبل التاريخ، إلا أنه ومنذ الإطاحة بالعقيد معمر القذافي عام 2011، وفي ظل الصراعات الدامية التي تعرضت لها مختلف البلدات الليبية، أصبحت لبدة تعاني من الإهمال، حيث لحق بآثارها التخريب والتشويه والسرقات في ظل عدم وجود سياج يحيط بها، ويحافظ على تراثها، برغم تصنيفها منذ عام 1982، ضمن قائمة مواقع التراث العالمي، من جانب منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة.

بين سرقات الاستعمار وتواطؤ الغزاة وإهمال الحكومات الوطنية، أضحت لبدة العظمى منهكةً تبحث عمن يعيد إليها مكانتها كواحدة من أجمل حضارات الإمبراطورية الرومانية، وشاهدةً على عصور ما قبل التاريخ.

لم تقدّم الحكومات الليبية المتعاقبة منذ اندلاع الثورة الليبية ما يشفع لحماية آثار المدينة المترامية على ساحل البحر الأبيض المتوسط، وفي ظل انشغالها بصراعاتها على السلطة باتت آثار المدينة عرضةً للتخريب من قبل الصبية الذين يترددون على المكان في ظل حراسة محدودة من شرطة السياحة وتواجد إداري ضعيف من بعض موظفي مصلحة الآثار الليبية، وفي هذا الإطار يقول الباحث الليبي في ملف الآثار كارم الغرياني، في تصريحات لرصيف22، إن جانباً كبيراً من آثار لبدة قد تعرض للتشويه من قبل بعض المترددين على الموقع من المحيطين بالمدينة، حيث تتناثر الكتابات والرسومات على عدد من المواقع الأثرية في الحمامات والمسرح وقوس النصر، فيما يساعد عشرات الأهالي في حماية الموقع وتنظيفه على أثر عدم اهتمام المسؤولين به.

ويضيف الغرياني، أن السلطات الليبية قد تتسبب في رفع الموقع من قائمة التراث العالمي، وذلك بعد أن أضافت اليونسكو موقع لبدة خلال عام 2016، إلى قائمة "التراث العالمي المعرض للخطر"، وذلك بسبب التهديدات التي يسببها الصراع القائم في البلاد، ويشير إلى أن القرار كان من الواجب الاستفادة منه بدعم دولي من أجل حماية الموقع، وهو ما لم يحدث بسبب عدم اهتمام السلطات الليبية بالملف، والتي لم تحرّك ساكناً لترميم الموقع وصيانته برغم حاجته إلى تدخل عاجل في ظل التغيرات المناخية التي تطال قطعه الفريدة بسبب قربه من الساحل وتناثر الرمال بين مكوناته.

فيما يرى المحلل السياسي المهتم بالشأن الليبي سعيد أبو عرقوب، في تصريحات لرصيف22، أن "صراعات الأطراف الليبية على النفط والغاز أدت إلى إهمال ملف السياحة في ليبيا بشكل كامل"، مشيراً إلى أن "ليبيا كانت مؤهلةً لتكون واجهةً للسياحة العالمية، حيث تمتلك 5 مواقع أثرية لعصور مختلفة مدرجة ضمن قائمة التراث العالمي، بالإضافة إلى نحو 10 مواقع أخرى كان يجب على الدولة السعي إلى ضمها إلى القائمة، إلا أن صراعات السلطة والنفوذ والنفط أهملت الحفاظ على المكتسبات القديمة وتسببت في تخريبها، ولا يبدو أنها حريصة على تغيير الأوضاع في هذا الملف".

بين سرقات الاستعمار وتواطؤ الغزاة وإهمال الحكومات الوطنية، أضحت لبدة العظمى منهكةً تبحث عمن يعيد إليها مكانتها كواحدة من أجمل حضارات الإمبراطورية الرومانية، وشاهدةً على عصور ما قبل التاريخ.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard