في الساعة 11:45 من ظهر يوم 20 تموز/يوليو 1951، دخل ملك الأردن المؤسس عبد الله بن الحسين المسجدَ الأقصى قادماً من عمّان، يرافقه حفيده الشاب الأمير حسين بن طلال. كان الملك بصحة جيدة على الرغم من بلوغه عتبة السبعين، سعيداً بتخريجه أول دفعة طيارين أردنيين في صباح اليوم الذي سبق زيارته الخاطفة إلى القدس. وقف رجل فلسطيني فقير خلف الباب الأيمن للمسجد يُدعي مصطفى شكري عشّو، وفي يده مسدس تمكن من تهريبه، وعند رؤيته الملك أطلق عليه ثلاث رصاصات أصابته إصابة مباشرة.
فتح الحرس الملكي النارَ في ساحة المسجد وقتلوا القاتل الشاب ابن العشرين ومعه عشرون مصلياً من الأبرياء. ثمّ هرعوا إلى سيّدهم الملقى جثة هامدة على الأرض والدماء تسيل من وجهه. ووجدوا أن حفيده قد أصيب أيضاً ولكنه نجا من الموت بأعجوبة بفضل قلادة كان يرتديها على سترته، منعت الرصاص من الوصول إلى قلبه. نُقل جثمان الملك إلى مستشفى الهوسبيس في القدس القديمة، وولّي نجله الأمير طلالُ عرشَ الأردن، ليصبح الأمير حسين ولياً للعهد.
أسد في قفص كنار
والملك عبد الله هو ثاني أبناء الشريف حسين بن علي، أمير مكة المكرمة، وقائد الثورة العربية الكبرى ضد العثمانيين سنة 1916. شغل مقعداً في "مجلس المبعوثان" العثماني مع شقيقه الأمير فيصل قبل الحرب العالمية الأولى، وقاد المفاوضات السياسية مع الإنكليز لإتمام ما عُرف بمراسلات حسين – مكماهون سنة 1915. مقابل إعلان ثورة عسكرية ضد العثمانيين وعد الإنكليز بعرش عربي في المناطق العربية المحررة يكون للشريف حسين ولأولاده من بعده.
بعد انتهاء الحكم البريطاني أعلن استقلال الإمارة، وتحول اسمها إلى "المملكة الأردنية الهاشمية" مع تنصيب عبد الله ملكاً على البلاد. كل ذلك لم يرضِ طموح عبد الله الواسعة وقد وصفه أحد الضباط البريطانيين بالقول إنه "أسد في قفص طائر كنار... "
ولّي الأمير فيصل عرش سوريا سنة 1920، وكان من المفترض أن يُصبح الأمير عبد الله ملكاً على العراق، ولكن ثورة العشرين ضد الإنكليز أجّلت البت في مصير العراق فاكتفى عبد الله بوزارة الخارجية في مملكة الحجاز الذي كان يقودها والده، والتي عُيّن فيها شقيقه الأكبر الأمير علي وليّاً للعهد.
وعند خلع فيصل عن عرش سوريا وفرض الانتداب الفرنسي سنة 1920 ثار الأمير عبد الله، وشكّل قوة مقاتلة للثأر واستعادة مُلك الأسرة المسلوب في الشّام، ولكن الإنكليز طلبوا منه التوقف شرق الأردن وإقامة حكم لنفسه في مدينة عمّان، تحت إدارة بريطانية.
وفي 26 أيار/مايو 1946 وبعد انتهاء الحكم البريطاني أعلن استقلال الإمارة، وتحول اسمها إلى "المملكة الأردنية الهاشمية" مع تنصيب عبد الله ملكاً على البلاد. كل ذلك لم يرضِ طموح عبد الله الواسعة وقد وصفه أحد الضباط البريطانيين بالقول إنه "أسد في قفص طائر كنار... أجبر على قبول عرش بلد صغير وفقير مثل الأردن، ولكنه كان يطمع أن يكون ملكاً على سورية الكبرى وأن تكون عاصمته دمشق".
التحقيقات
مرّ 72 سنة على حادثة اغتيال الملك عبد الله في القدس وعلى الرغم من كل ما كتب ونشر حتى الآن، تبقى هناك جوانب مخفية من الجريمة، لم تكشف بعد. التحقيقات الأولية أفادت بأن القاتل (مصطفى شكري عشّو) كان يعمل خياطاً في حانوت صغير في القدس القديمة، وكان عضواً في حركة الجهاد المقدس المرتبطة بمفتي القدس الأسبق الحاج أمين الحسيني، المقيم يومها في مصر. لا نعرف شيئاً عن هذه الحركة إلا ما كتب عنها في الصحف، وقد بقيت يتيمة لم يتبنَّها أحد، ولم تقم بأي عملية فدائية مما يثير الشكوك في أنها لم تكن موجودة أصلاً. دُهم منزل عشّو في القدس، وعُثر على مسدسات وأسلحة خفيفة، قيل إنه حصل عليها من المفتي الحسيني، دون أي دليل رجعي أو إثبات جنائي.
العلاقة مع مفتي القدس
الخلاف بين المفتي والملك كان لا يغيب عن أحد، ومن السهل جداً إلصاق التهمة بالحاج أمين بعد انتقاداته المتكررة لعبد الله أثناء حرب فلسطين الأولى سنة 1948. يومها اختارت جامعة الدول العربية الملك الأردني ليكون قائداً للجيوش العربية المشتركة لأنه الوحيد بين الزعماء العرب الذي كان يتمتع بخبرة قتالية وعسكرية اكتسبها من أيام الثورة العربية الكبرى. عارض المفتي قرارَ الجامعة تنصيبَ الملك قائداً للجيوش العربية، وطلب ألا تكون القيادة له حصراً.
ملف اغتيال الملك الأردني لا يزال مغلقاً في الأرشيف الوطني البريطاني، وهو يحمل رقم 75375.
وقد زاد من نقمته على عبد الله توقف الجيش الأردني في منتصف المعركة بعد تأمين القدس الشرقية من العصابات الصهيونية وضمّها إلى الأردن بدلاً من أن تكون جزءاً من "دولة فلسطين" التي أزيلت عن الوجود. وتبين يومها أن الملك عبد الله عقد اتفاقاً سرياً مع الوكالة الصهيونية الممثلة بغولدا مائير (رئيسة وزراء إسرائيل في مرحلة لاحقة) يقضي بعدم اشتباك القوات الأردنية مع اليهود في الأقسام المخصصة لهم في مخطط تقسيم فلسطين الصادر عن الهيئة العامة للأمم المتحدة. اعتبر المفتي في هذا الاتفاق "خيانة بحق الشعب الفلسطيني"، ومن المنطقي أن يكون قد خطط لتصفية الملك رداً على ضياع فلسطين وضم جزء منها إلى الأردن.
اغتيال رياض الصلح
اعتقلت السلطات الأردنية سبعين شخصاً من أتباع المفتي، وظّل هو وحده طليقاً في مصر بعد رفض الملك فاروق تسليمه للسلطات الأردنية. وهنا يجب الإشارة إلى أنه وقبل أربعة أيام من مقتل عبد الله تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح وهو في زيارة إلى عمّان، وحاول البعض الربط بين الجريمتين وهو كلام لا نراه صحيحاً، لأن الصلح اغتيل على يد الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثأراً لمقتل أنطون سعادة بأمر مباشر منه سنة 1949. أما عبد الله فلا علاقة له بهذه القضية لا من قريب أو بعيد، والرابط الوحيد هو تواجد الصلح في عمان يوم تنفيذ الجريمة ضده.
الأحكام
افتتحت المحكمة المخصصة للنظر في جريمة القدس، برئاسة عبد القادر الجندي، يوم 18 آب/أغسطس 1951، وأصدرت أحكامها بعد تسعة أيام. قالت إن الضابط الأردني المنشق عبد الله التل (المقيم في مصر أيضاً) اجتمع في أيلول/سبتمبر 1950 مع موسى أحمد الحسيني وموسى عبد الله الحسيني (كلاهما من أقرباء المفتي)، وعرض عليهما تصفية الملك عبد الله. وقيل إنهم قبضوا 70 جنيهاً "دفعة على الحساب" لتنفيذ المهمة، ووعدهم بملجأ آمن في دمشق التي كانت بدورها على خلاف شديد مع الملك عبد الله بسبب طموحاته بتولّي عرش سوريا خلفاً لشقيقه الراحل الملك فيصل.
لم تدخل التحقيقات في تفاصيل الدور السوري في الجريمة، ولكن من المعروف أن الملك كان قد جنّد في الماضي القريب ضباطاً سوريين ووزراء ونواباً بهدف تنفيذ انقلاب عسكري لضم سوريا إلى الأردن، وذلك بعد طرح مشروع سوريا الكبرى من قبله.
لم تأت التحقيقات على أي دور سوري، ولم تثبت علاقة مباشرة بين المفتي والجريمة. وللتاريخ فإن عبد الله التل لم يكن مجرد ضابط عادي، فهو قائد جبهة القدس في حرب عام 1948، وحاكم المدينة العسكري من بعدها. انشق عن الجيش الأردني وعاش لاجئاً سياسياً في مصر، بدعوة من الملك فاروق الذي كان هو أيضاً، مثل صديقه الرئيس شكري القوتلي، لا يخفِ امتعاضه من سياسات الملك الأردني، سواءً في ما يتعلق بالقضية الفلسطينية أو بموضوع سوريا الكبرى.
قبل أربعة أيام من مقتل عبد الله تم اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رياض الصلح وهو في زيارة إلى عمّان، وحاول البعض الربط بين الجريمتين وهو كلام لا نراه صحيحاً، لأن الصلح اغتيل على يد الحزب السوري القومي الاجتماعي، ثأراً لمقتل أنطون سعادة
من القاهرة نفى التل أي علاقة له بجريمة القدس وقال: "لو القتيل كان غلوب باشا (الضابط البريطاني المسؤول عن الجيش الأردني) لكنت أنا الذي قتلته ولكن عبد الله فلا".
موسى الحسيني أعدم شنقاً بعد إدانته بجريمة الاغتيال، أمّا عبد الله التل فقد حكم عليه غياباً بالموت، ولكن الملك حسين أعفى عنه بشكل كامل سنة 1965، وهو مؤشر أن كل ما قيل عن دوره المحوري في جريمة اغتيال الملك عبد الله لم يكن صحيحاً. عاد التل إلى الأردن وكتب رسالة انتقاد للرئيس المصري جمال عبد الناصر، معترضاً على تشويه سمعه الملك عبد الله من قبل الإعلام المصري وقال إنه كان مدافعاً عن القدس ولم يفرط بها أبداً، كما كان يقول عبد الناصر. وفي أغسطس/آب 1967 كتب التل مقدمةَ كتاب عن الملك عبد الله، وعُيّن عضواً في مجلس الأمة لغاية وفاته عام 1972.
ملف اغتيال الملك الأردني لا يزال مغلقاً في الأرشيف الوطني البريطاني، وهو يحمل رقم 75375. كان من المفترض أن يفتح بعد مرور 30 سنة على حادثة اغتياله سنة 1980 ولكن السلطات البريطانية قررت حجبه لخمسة وسبعين سنة إضافية –دون تفسير القرار– وبذلك، يبقى الملف مغلقاً حتى سنة 2055. عندما يأتي هذا اليوم سنعرف إن كان مصطفى شكري عشّو قد عمل وحيداً على مقتل الملك أم أن كانت هناك أياديَ خفيةً –سورية كانت أم مصرية أم حتى أردنية– في التخطيط والتنفيذ للجريمة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...