في 8 آذار/مارس 1920 توّج الأمير فيصل بن الحسين ملكاً على سوريا بقرار من المجلس النيابي السوري، المعروف يومها بـ"المؤتمر السوري العام". وكان قرار المؤتمر أن يتم تتويج الملك وإعلان استقلال سوريا عن الحكم العثماني في آن واحد، علماً أن آخر جندي عثماني كان قد غادر البلاد منذ آذار/مارس 1918.
كان الأمير فيصل معجباً بالتقدم والرقي الذي شهده في أوروبا أثناء زيارته إلى باريس ولندن سنة 1919، وكان يتمنى أن يكون حفل تتويجه شبيهاً بمراسيم تتويج ملوك عائلة ويندسور الحاكمة في بريطانيا وهو يدرك استحالة هذا الأمر طبعاً، لأن سوريا ليست بريطانيا وليس فيها أي من تقاليدها الملكية ولا ميزانية تسمح بذلك.
لم يكن فيصل قد حضر حفل تتويج أي ملك بريطاني من قبل، وهو أمر طبيعي لكونه شاباً في السابعة والثلاثين من عمره يومها، ولكن من المحتمل جداً أن يكون قد سمع عنه من بعض أصدقائه الإنكليز، كالكولونيل لورانس مثلاً (لورانس العرب) أو الكاتبة غيرترود بل.
كان الأمير فيصل معجباً بالتقدم والرقي الذي شهده في أوروبا أثناء زيارته إلى باريس ولندن سنة 1919، وكان يتمنى أن يكون حفل تتويجه شبيهاً بمراسيم تتويج ملوك عائلة ويندسور الحاكمة في بريطانيا
آخر تتويج في لندن جرى سنة 1910، قبل عشر سنوات من تولّي فيصل عرشَ سوريا، وكان ذلك يوم وفاة الملك إدوارد السابع واعتلاء ابنه الملك جورج الخامس عرشَ بريطانيا. في هذا الحفل، كُسرت "عصا العهد القديم،" معلنة وفاة ملك ومبايعة ملك جديد. يُعرف هذا الطقس عندهم باسم Wand-Breaking Ceremony، وهو لا يزال يتبع إلى يومنا هذا، وقد شهدناه على شاشات التلفزيون أثناء جنازة الملكة إليزابيث الثانية في أيلول/سبتمبر 2022.
يبدو أن مدراء البروتوكول في قصر الأمير فيصل أعجبوا بهذا الطقس، وقرروا إيجاد شبيه له بدمشق. طلبوا من موظفي إدارة البرق والبريد دمغ وثيقة إعلان الاستقلال بطابع مذهب، وأن يكتب عليها تاريخ الثامن من آذار/مارس 1920. جلسوا في مبنى البريد وهم يختمون هذه الأوراق على أصوات مئة مدفع ومدفع، وعند الانتهاء من مراسيم البيعة، وقف الموظفون وبحركة واحدة كسروا الأختام، معلنين انتهاء التتويج.
آخر تتويج في لندن جرى سنة 1910، قبل عشر سنوات من تولّي فيصل عرشَ سوريا، وكان ذلك يوم وفاة الملك إدوارد السابع واعتلاء ابنه الملك جورج الخامس عرشَ بريطانيا.
لم يطلب فيصل تاجاً لنفسه، ولكنه أصر على أن يجلس على عرش يليق بملك سوريا، غير أنه لم يعثر على كرسي ملكي يفي بالغرض في مستودعات الحكومة السورية. جال موظفو القصر والمراسيم على دور دمشق، بحثا عن "عرش"، وفي نهاية المطاف استعاروا كرسياً فاخراً من بيت أحد تجار المدينة (من آل الفرا)، مزيّناً بالصدف والموزاييك، وأمر بإعادة تنجيده لأجل في هذه المناسبة الوطنية، حيث استبدل قماشه الأخضر بقماش قرمزي اللون، شبيه بعرش ملك بريطانيا.
في صباح 8 آذار/مارس 1920 استيقظ الناس وكان برنامج مراسيم التتويج معلقاً على جدران مدينتهم. بدأ الحفل في الساعة الثانية ظهراً، وكان على رؤساء الطوائف والنواب والضباط والأعيان أن يصلوا إلى ساحة المرجة (بناء البلدية) بلباسهم الرسمي المزين بالأوسمة والنياشين. وصل الأمير فيصل بعدها في عربة يجرها حصانان عربيان، ومعه نجله ووليّ عهده الأمير غازي ذو الثماني سنوات (الذي أصبح سنة 1933 ملكاً على العراق). مرت عربتهما من وسط الساحة والجماهير تهتف: "عاش الملك". جلس فيصل على منصة صغيرة فوقها مظلة للوقاية من الشمس، مرتدياً زيه العسكري من زمن الثورة العربية الكبرى التي قادها والده الشريف حسين سنة 1916 والتي أوصلته إلى سوريا عام 1918. بدلاً من التاج ارتدى فيصل حطة عربية بيضاء، ولبس فوق بزته العسكرية عباءة سوداء.
غاب القنصل البريطاني عن الحفل، رغماً عن الصداقة بين فيصل ولندن، وحضرها قنصل فرنسا، الدولة الطامعة في سوريا، والتي تمكنت بعد أشهر قليلة من إسقاط العهد بعد تدمير جيشه ونفي ملكه. إلى جانب الملك جلس مفتي الديار الشامية الشيخ عطا الله الكسم ومعه بطريرك الأرثوذكس غريغوريوس الرابع حداد، والحاخام يعقوب الدانون، رئيس الطائفة اليهودية. سلّم رئيس المؤتمر السوري العام هاشم الأتاسي كتاب البيعة لفيصل، الموقع من قبله والرئيس الأول عبد الرحمن باشا اليوسف والرئيس الثاني مرعي باشا الملاح.
ومن طرائف هذا اليوم دخول أحد المدعوين، الشيخ نوري الشعلان رئيس عشيرة الرولة، إلى دار البدلية، برفقة عشرة من رجاله المسلحين ووقوفهم في صدر القاعة. تقدم منهم أحد رجال التشريفات، وطلب أن يقفوا مع بقية الضيوف، فأشهر الشغلان سيفه وصاح بالرجل: "أرجع مكانك"، ففعل. ثم تقدم سكرتير المؤتمر محمد عزت دروزة من الشرفة المطلة على ساحة المرجة، وقرأ أمام الجماهير قرار الاستقلال الصادر عن السلطة التشريعية، مع مبايعة فيصل ملكاً على البلاد باسم "فيصل الأول".
لا شبه بين ملك سوريا الوحيد في العصر الحديث وملوك بريطانيا بكل عصورها، إلا ربما في أن فيصل الأول توفي في 8 أيلول/سبتمبر 1933، نفس اليوم الذي توفيت به ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، بفارق 89 سنة!
تلاه غالب الزالق رئيس بلدية دمشق، وعرض علم سوريا الجديد، وهو نفس راية الثورة العربية الكبرى التي رفعت في وجه العثمانيين سنة 1916، مع إضافة نجمة إليها. وجاءت فيه ثلاثة ألوان: الأخضر نسبة للخلفاء الراشدين، الأبيض نسبة للدولة الأموية، والأسود نسبة للعباسيين، مع مثلث أحمر رمزاً للأسرة الهاشمية. تسلمها أحد مرافقي الملك، فخري البارودي، وقام برفعها فوق السارية. جرى بعدها استعراض عسكري أمام فيصل الواقف في شرفة البلدي، ودخل رئيس المؤتمر ونوابه أعضاء هيئة المؤتمر إلى حجرة داخل البلدية من أجل مبايعة فيصل وتقديم الولاء له.
في الختام كان حفلاً بسيطاً ليس فيه أي ترف أو بزخ، ولا خروج عن عادات العرب وتقاليدهم (باستثناء قضية كسر الأختام). لا شبه بين ملك سوريا الوحيد في العصر الحديث وملوك بريطانيا بكل عصورها، إلا ربما في أن فيصل الأول توفي في 8 أيلول/سبتمبر 1933، نفس اليوم الذي توفيت به ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، بفارق 89 سنة!
ومع الأسف لا نملك أي صور لحفل تتويج فيصل في سورية إنما بعض الصور للحفل الذي أقيم له في بغداد عند تتويجه ملكاً على العراق سنة 1921. ولو نظرنا إليها لوجدناها بسيطة أيضاً، لا تختلف كثيراً عما حظي به فيصل في دمشق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...