في 20 أيلول/سبتمبر 1920، خرجت دمشق في موكب سواد، حداداً على رئيس الحكومة السورية علاء الدين الدروبي ورئيس مجلس الشورى عبد الرحمن باشا اليوسف، اللذين كانا قد قُتلا يوم 21 آب/أغسطس 1920 في قرية خربة غزالة شمال شرق مدينة درعا.
وقعت الجريمة بعد شهر واحد من تعيين الدروبي رئيساً للحكومة يوم 26 تموز/يوليو 1920، وهو آخر رئيس وزراء في عهد الملك فيصل والأول في عهد الانتداب الفرنسي.
كُتب الكثير عن الاغتيالات السياسية في سورية، من فوزي الغزي وعبد الرحمن الشهبندر في زمن الانتداب وعدنان المالكي أديب الشيشكلي في عهد الاستقلال، ولكن جريمة اغتيال الدروبي بقيت منسية، لا ترد إلّا بشكل عابر في كتب التاريخ.
من هو علاء الدين الدروبي؟
ولد علاء الدين دروبي في مدينة حمص وسط البلاد سنة 1870، وهو سليل عائلة سياسية معروفة؛ كان والده عبد الحميد باشا أحد أعيان سوريا في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. درس الحقوق في إسطنبول، وخدم في نظارة الخارجية العثمانية (وزارة)، سفيراً في دول البلقان، ثم والياً على البصرة في 27 آذار/مارس 1913.
عاد إلى دمشق بعد سقوط الحكم العثماني نهاية عام 1918، وبايع الأمير فيصل بن الحسين حاكماً عربياً على سوريا. عينه الأمير فيصل والياً على مدينة دمشق، ومستشاراً في حكومة الفريق رضا الركابي. وبعد تتويج فيصل ملكاً يوم 8 آذار/مارس 1920، سمّي الدروبي رئيساً لمجلس الشورى، وهو المنصب الذي كان يشغله عند وقوع المواجهة العسكرية بين السوريين والجيش الفرنسي في معركة ميسلون يوم 24 تموز/يوليو 1920.
كُتب الكثير عن الاغتيالات السياسية في سوريا، من فوزي الغزي وعبد الرحمن الشهبندر في زمن الانتداب وعدنان المالكي أديب الشيشكلي في عهد الاستقلال، ولكن جريمة اغتيال علاء الدين الدروبي بقيت منسية، لا ترد إلّا بشكل عابر في كتب التاريخ
هزم الجيش السوري يومها، وخُلع الملك فيصل عن عرش سوريا عند فرض الانتداب الفرنسي على البلاد. وكان الملك قبل مغادرته الأراضي السورية بستة أيام، قد عيّن الدروبي رئيساً للحكومة، خلفاً للرئيس هاشم الأتاسي. طلب منه الملك فيصل الدخولَ في مفاوضات مباشرة مع المندوب السامي الفرنسي هنري غورو، لعله يستطيع تعديل شروط الانتداب أو التوصل إلى صيغة مرضية تسمح لفيصل بالعودة إلى عرشه بدمشق.
حكومة الدروبي (26 تموز/يوليو–21 آب/أغسطس 1920)
لكن الرئيس الدروبي فعل عكس ذلك، وكان أول عمل قامت به حكومتُه الجديدة إصدارَ مذكرةٍ إلى الملك بتاريخ 29 تموز/يوليو 1920، تطالبه بمغادرة الأراضي السورية فوراً والتوجه إلى الحجاز. باشرت حكومة الدروبي، بطلب من الجنرال غورو، بجبيِ ضرائب كانت سلطته قد فرضتها على المدن السورية، عقاباً للأهالي على دعمهم للجيش الفيصلي في معركة ميسلون.
فُرض على أهالي قرى حوران الذين استضافوا الملك فيصل بعد خروجه من دمشق، غرامةٌ قدرها 500 ألف دينار سوري، وكانت حصة دمشق وحلب أكبر من ذلك بكثير، حيث وصلت إلى 40 ألف دينار لكل واحد منهم. كما منعت الحكومة موظفي الدولة من الانخراط بأي عمل سياسي أو حزبي، وأمرت بنفي كلّ الموالين لفيصل خارج البلاد، وصدر حكم غيابي بالإعدام على معظمهم يوم 8 آب/أغسطس 1920.
وفي السراي الكبير وسط ساحة المرجة، أقام الدروبي حفل استقبال على شرف الجنرال غورو. خطب فيه مرحباً بالضابط الفرنسي، وتحدث عن مآثر الثورة الفرنسية، ورحّب بدور فرنسا "الحضاري" في سوريا.
كما قال الدروبي إن النخب السورية ترحب بالحريات التي وعدت بها فرنسا، وكلّ "القيم السامية" التي سوف تأتي مع انتدابها على سوريا. ذكر الدروبي فيصل بشكل عابر وسريع، واصفاً إياه بلقب "الشريف" لا "الملك"، وعندما سأله الناس عن هذا التجاهل، قال إنه لا يريد إغضاب الحكومة الفرنسية، التي لم تعترف بشرعيةِ تتويج فيصل ملكاً على البلاد.
رفض أهالي حوران دفع الضريبة المفروضة عليهم، وقيل إنهم يحضّرون لعصيان مسلّح ضد الفرنسيين، فقرر الدروبي التوجيه إلى المنطقة بنفسه والاجتماع مع المشايخ. شُكّل وفد رفيع للتفاوض معهم، مؤلف من الدروبي رئيساً وكلٍّ من رئيس مجلس الشورى عبد الرحمن اليوسف ووزير الداخلية عطا الأيوبي، يرافقهم الشيخان عبد القادر الخطيب (خطيب الجامع الأموي) وعبد الجليل الدرّة، أحد المدرسين القدامى في سهل حوران. اجتمع الرئيس الدروبي مع محافظ حوران أبو الخير الجندي ووعده بأن يضع حداً للاضطرابات في جنوب البلاد، مشيراً إلى صلابة ومكانة الوفد المرافق له، وقدرته على التأثير على مشايخ المنطقة.
الجريمة
كان بعض المسلحين من أهالي قرية خربة غزالة ينتظرون الوفد الحكومي القادم عبر سكة القطار. ظهر أحدهم عند نافذة العربة الأولى، شاهراً سلاحه في وجه الجنود السنغاليين المرافقين للوفد، والتي كانت فرنسا تعتمد عليهم في سوريا ولبنان، ظناً منها أنهم قادرون على التفاهُم مع أهالي هذه البلاد لأنهم مسلمين مثلهم.
ترجل عبد الرحمن اليوسف من القطار بعد وضع ملاية سوداء فوق رأسه وجسمه، غطت وجهه ورأسه حتى القدمين. دخل المحطة متنكراً وحاول الاتصال بدمشق، وتبعه علاء الدين الدروبي الذي أصيب برصاصةٍ في ظهره، أسقطته قتيلاً على الفور
لم تُدرك فرنسا، في ذلك الوقت المبكر من حكمها في الشرق الأوسط، أن هؤلاء الجنود، القادمين بالإكراه من مستعمراتها في شمال إفريقيا، لم يكونوا على دراية بأهالي سوريا، ولا يتكلمون اللغة العربية، ولا يعرفون شيئاً عن عادات بلاد الشّام وأعرافها. أطلق أحدهم الرصاص في وجه الحورانيين، بعد أن رأى البنادق في أيديهم، وحصل تبادل إطلاق نارٍ أشعل فوضى عارمة في المحطة، قُتل على إثرها الجنود السنغاليون الثلاثة المرافقون للوفد.
ترجل عبد الرحمن اليوسف من القطار أولاً بعد وضع ملاية سوداء فوق رأسه وجسمه، غطت وجهه ورأسه حتى القدمين. دخل المحطة متنكراً، وحاول الاتصال بدمشق، وتبعه الدروبي الذي أصيب برصاصةٍ في ظهره، أسقطته قتيلاً على الفور.
وهناك روايةٌ أخرى، رواها نقيب الصحفايين السوريين نصوح بابيل، تقول بأن الدروبي اتجه نحو مقصورة الدرجة الثالثة في مؤخرة القطار، حيث عثر عليه، وتم قتله بين الركاب. نجا وزير الداخلية عطا الأيوبي من الموت بفضل تاجر دمشقي من حيّ الميدان كان متواجداً بالصدفة في أرض المحطة، فقام بمساعدته على تفادي مصير زملائه، ونقله إلى مكان آمن.
بعد أقل من سنة على وقوع جريمة الاغتيال، تعرض هنري غورو لمحاولة اغتيال خلال زيارته لمدنية القنيطرة، في حزيران/يونيو 1921. طاردت فرنسا غريمَه طوال ثلاث سنوات دون انقطاع حتى تمكنت من اعتقاله وإعدامه، ولكنها لم تفعل ذات الشيء مع قتلةِ الدروبي، ولم تكشف عن هويتهم أو دوافعهم.
بعد أقل من سنة على وقوع جريمة الاغتيال، تعرض هنري غورو لمحاولة اغتيال خلال زيارته لمدنية القنيطرة، في حزيران/يونيو 1921. طاردت فرنسا غريمَه طوال ثلاث سنوات دون انقطاع حتى تمكنت من اعتقاله وإعدامه، ولكنها لم تفعل ذات الشيء مع قتلةِ الدروبي، ولم تكشف عن هويتهم أو دوافعهم
لم يحصل أي تحقيق علني بالجريمة، لا مع عناصر الدرك التي اختفت من المحطة لحظة وقوع الجريمة، ولا مع الضباط الفرنسيين المرافقين للوفد الحكومي أو مع أهالي خربة غزالة أو حتى مع ركاب القطار. بعد وقوع الجريمة بشهر كامل، يوم 21 أيلول/سبتمبر 1920، نشرت جريدة "العاصمة" الرسمية خبراً صغيراً في صفحاتها الداخلية جاء فيه أنه تم إعدام ثلاثة من الجناة، دون ذكر أسمائهم. وبعد ثلاثة أيام أصدر رئيس الوزراء الجديد جميل الألشي بياناً مقتضباً قال فيه إن "حادثة حوران قد أُقفلت".
الكثير من المعاصرين لعلاء الدين الدروبي تركوا مذكراتٍ، رووا فيها أدقّ التفاصيل من مشاهداتهم اليومية، السياسية منها والعامة، ولكن وحده يوسف الحكيم، وزير النافعة في حكومة الدروبي، تطرق لجريمة خربة غزالة في كتابه الشهير "سورية والانتداب الفرنسي". أما بقية السياسيين السوريين، فقد مروا على الحادثة مرور الكرام، مثل وزير المعارف ساطع الحصري ووزير المالية فارس الخوري. حتى أنهم اختلفوا على تاريخ وقوع الجريمة، فالخوري قال إنها حصلت يوم 31 آب/أغسطس، ولكن المؤرخ عبد العزيز العظمة، شقيق وزير الحربية يوسف العظمة، سجلها في 20 آب/أغسطس.
أما يوسف الحكيم فقد دون الحادثة يوم 21 آب/أغسطس، وهو التاريخ الصحيح. لا يوجد بلد عربي يختلف زعماؤه ومؤرخوه على تاريخ مقتل أحد رؤساء حكوماته. في مصر مثلاً، تاريخ مقتل النقراشي باشا معروف للجميع، وكذلك تاريخ مقتل وصفي التل في الأردن، وتاريخ اغتيال كلٍّ من رياض الصلح ورشيد كرامي في لبنان. وحدهم السوريين بين العرب اختلفوا في تاريخ مقتل رئيس وزرائهم الأسبق. فقد مرّ مقتل الدروبي مرور الكرام، ولم يتوقف عنده أحد، لا من الأعيان أو من الحكام، ولا حتى من المؤرخين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...