كانت رحلتي إلى قسنطينة مصادفة أو مجرد محطة عبور قبل الوصول إلى الوجهة، بعد أن تزامن موعد الطائرة التي ستقلّني من مطار العاصمة إلى أدرار، مع موعد الطائرة التي تربط عنابة بالعاصمة، لهذا قررنا اختيار مطار ثالث يضمن رحلة مباشرة وإن كانت المدينة التي ستنطلق منها تقع في نفس جهة مدينتي (الشرق)، وتبعد عنها بحوالي 170 كلم.
تبيّن في بادئ الأمر بأنه خيار سيئ ومتعب وغامض، خاصة وأنني سأبيت ليلة في "مدينة الهوى والهواء" كما يُطلق عليها، أو مدينة الجسور المعلقة حسب الكنية الأكثر شهرة وانتشاراً، وهذا في عز الشتاء وفي أكثر الأوقات برداً ومطراً. لكن مضيت قُدماً في هذا الخيار، وتوجب علي الاتصال مسبقاً برفيق الرحلة إلى أدرار، الإعلامي جمال الدين حازورلي، صاحب برنامج "سينراما" المتوقف.
مدخل "الفندق الكبير"
حجز لي حازورلي في أحد الفنادق العريقة (الفندق الكبير) الذي لا يزال يتمسك بتسميته المنقوشة على مدخله الرئيسي، وبوابته الخشبية الكبيرة منذ فترة الاستعمار، ومن المرجح أن يكون قد تم بناؤه في نهاية القرن التاسع عشر، كما لا يزال يحافظ على التفاصيل الصغيرة التي تصنع هويته الكولونيالية، مثل السلالم اللولبية التي وضع على جانبيها تمثالان برونزيان لملاكين صغيرين، وكأنهما يرحبان بالوافدين ويزرعان الطمأنينة فيهم، إضافة إلى الدرابزين الملتوي، وهو الأمر الذي يعطي رهبة بالمكان ويسافر بالمقيمين فيه إلى ذكريات الماضي والشخصيات والأفراد الذين مروا وأقاموا فيه، كل غرفة تحمل ما تحمل من الأسرار الكثيرة والمتنوعة.
تشتهر أدرار بطبوع موسيقية مختلفة ، ويعود السبب إلى الموقع الجغرافي المهم لهذه المحافظة، اذ كانت معبراً مهماً للقوافل التجارية التي تربط الجزائر بدول إفريقيا
كان الوقت صباحاً والمطر يتساقطا مدراراً. بعد لحظة، توقف واستأنف سقوطه بشكل أخف، لكنه ممزوج بالثلج. انتظرت كثيراً وأنا أطل من النافذة على الشارع الرئيسي، علّه يتوقف وأقوم بجولة سريعة أقف فيها على معالم هذا المدينة العريقة، وأجدد معارفي القديمة، لكنه لم يفعل، لهذا قرّرت تحديه ومواجهته والتجول تحته، لتكون الانطلاقة إلى الجسور، صوب هوية المدينة وتاريخها.
كانت البداية من جسر سيدي مسيد الذي يشق "واد الرمال"، يقاوم الزمن في شموخ وتحدّ وشباب لا يذبل، إذ تم بناؤه عام 1909، على يد المهندس الفرنسي فرديناند أرنودن (1845- 1924) الذي يُعدّ المخترع الأول لهذا النوع من الجسور التي لا تزال موجودة إلى غاية اليوم.
جسر سيدي مسيد في قسنطينة
قاومت رهابي من الأماكن المرتفعة وسرت عليه (يبلغ ارتفاعه حوالي 164 متراً). كانت الإطلالة رهيبة جداً، إضافة إلى الهندسة المتميزة والفريدة التي تجعل من يسير عليه راجلاً أو راكباً، يقف في حيرة من أمره، لأنه صامد منذ أكثر من قرن من الزمن، وقد زادته أسراب الغربان الناعقة خشية، وهو واحد من تسعة جسور معلقة تشتهر بها المدينة.
بعدها ازداد المطر غزارة، عدت إلى فندقي عن طريق الشارع المعروف بتسمية "رود فرونس". بدأ الليل يرخي سدوله، أُشعلت المصابيح التي تتوسط الشارع، وقد شكّل هذا المنظر الرهيب جمالية من الصعب أن تنسى، لهذا أخرجت هاتفي الجوّال والتقطت بعض الصور حتى أقبض على تلك اللحظة.
طائرة معطّلة تحلق في السماء
كانت الانطلاقة إلى أدرار من مطار محمد بوضياف بقسنطينة، حيث الحركة بطيئة وباهتة، وكأنه لا يحمل من كلمة "مطار دولي" سوى الاسم؛ مقاهيه مغلقة، لأنه كان يوم جمعة (يوم عطلة)، وهي من الأشياء السلبية التي تساهم في تدني الخدمات في مطارات الجزائر، لأنها لا تراعي متطلبات المسافرين، ولا أحد من المسؤولين يفرض على هؤلاء العمل في هذا اليوم.
لكن الخبر لم يكن هنا، بل كان في الطائرة المعطّلة التي حلّقت بنا في السماء. قبل تحليقها مكثنا فيها أكثر من ساعتين وهي مركونة على أرضية المطار، بعد أن واجه طاقم الطائرة مشكلة عند الإقلاع، إذ تم حبس المسافرين فيها إلى غاية إصلاح العطب التقني الذي أصابها. وقد انعكس هذا التفصيل على نفسية المسافرين أثناء تحليقها، ومع كل مطب هوائي أو حركة غير عادية أخذ يقول المسافرون إن النهائية اقتربت.
تفرست وجوه الراكبين، بدت شاحبة خالية من الدماء، ارتسمت فيها ملامح الخوف والهلع، وهناك من بات يرتل ما يحفظ من القرآن. وقد استمرت هذه الإثارة والرعب إلى غاية أن حطّت الطائرة على أرضية مطار توات الشيخ سيدي محمد بن لكبير، وقد كان الجو ربيعياً لطيفاً؛ ترسل الشمس دفئها على أجسادنا التي كانت محاصرة قبل ساعتين فقط بأمطار قسنطينة وثلوجها، وهو الأمر الذي يعكس التنوع الجغرافي في الجزائر، ومرور كل الفصول تقريباً يومياً وفي البلد الواحد.
قد وصل حال التجارة في تمنطيط أن أصبح لها مكيال خاص بها، مثل الكيلوغرام والصاع وغيرها من المقاييس الأخرى، فكانوا يقولون المكيال التمنطيطي
وصلنا إلى فندقنا في منتصف النهار، لهذا استثمرنا المساء في رحلة سريعة قادتنا إلى الأطراف، وكان دليلنا في هذه الرحلة شاب ودود اسمه سليمان بوستة، يشرح لنا طقوس المدينة وطريقة عيش أهلها في هذه الصحراء الممتدة، خاصة وأن أدرار تعدّ ثاني أكبر محافظة جزائرية بعد ولاية تمنراست، بمساحة إجمالية تقدر بـ424,948 كم.
تشعبنا بالحديث عن الطبوع الموسيقية التي تشتهر بها من المنطقة، مثل إيقاعات التندي والقيفيان الذي تنتجه الثقافة الحسّانية بالمنطقة، إضافة إلى التراث المادي واللامادي الذي تمتاز به، مثل رقصة وغناء الأهليل، وغيرها من طقوس الفرح التي برع سكان الصحراء في خلقها منذ القدم. ويعود سبب هذا، خاصة في منطقة أدرار، إلى الموقع الجغرافي المهم لهذه المحافظة، اذ كانت معبراً مهماً للقوافل التجارية التي تربط الجزائر بدول إفريقيا، وهو الأمر الذي ولّد تنوعاً ثقافياً وإثنياً ساهم في هذا الثراء.
في الطريق، لمحت لافتة تظهر الاتجاه والمسافة إلى مدينة رقّان. تذكرت في تلك اللحظة التجارب النووية التي قامت بها فرنسا في تلك المنطقة، وتألمت لمن يسكن تلك المنطقة حالياً، ممن مازالوا يرثون الجينات المسمومة التي ورثوها جيلاً بعد جيل، وكأن تلك الجرائم لا تموت أبداً، حتى إن أردنا ذلك، لأن الطبيعة تذكرنا دائماً بها.
أذن تشاهد السينما وعين تسمع حركاتها
المشاركة في لجنة تحكيم في تظاهرة أيام توات السينمائية في دورتها السادسة هو سبب زيارتي لأدرار للمرة الثانية (من 11 إلى 13 كانون الأول/ديسمبر 2021)، وقد كان جمال الدين حازورلي رفيقي في الرحلة وزميلي في اللجنة، لهذا غلب الحديث كان عن السينما وأحوالها، ووقفت بنفسي على العشق الكبير لأهل الصحراء لصوت جمال الساحر عبر الإذاعة انطلاقاً من برنامجه "سينيراما".
ووقفت على بعض التعابير التي كان يوجهها له هؤلاء، إذ كانوا يشاهدون السينما عن طرق الأذن، خاصة في وقت الحصار والتهميش والبعد عن المناطق الحضرية، كانت الإذاعة هي متنفسهم الوحيد، لهذا كانوا يستعمون إلى الأفلام بدل مشاهدتها، ويصنعون بخيالهم حركات الممثلين والديكور.
تمنطيط... الحاضرة التي صنعت التاريخ
رهبة في القلب وجلال وإجلال في الروح، وقشعريرة تشغل الجسد، تجعله يرحل بعينه من زاوية إلى زاوية؛ هذه هي الحالة بعد أن وقفنا على قصور الطين والقش وسعف النخل، تلك التي تركها الغابرون قبل قرون، من الذين مروا وبنوا حضارة في مدينة تمنطيط الأسطورية، لا تزال شاهدة عليهم إلى اليوم؛ أزقة متداخلة وأبنية متفاوتة والتواءات هنا وهناك، وبناءات دافئة إن كان الطقس بارداً، وباردة إن كانت الحرارة مرتفعة، تؤنسها وتشقها وتحيط بها "فقارات" من كل جهة.
رحل اليهود ولا يزال تراثهم المعماري شاهداً عليهم إلى غاية اللحظة، منها السوق اليهودي الذي يحمل تسمية "أولاد داوود" والعديد من القصور التي اتخذوها دوراً لهم
و"الفقارة" نظام سقي وتوزيع للمياه خلقه الإنسان الصحراوي قبل الميلاد، ولا يزال يعمل به إلى غاية اليوم. كانت وقتها حقول البساتين مخضرة، تحيط بها أشجار النخيل السامقة والمتداخلة، تطعم بخيراتها سكان القصور والتجار الوافدين لها من كل جهات الأرض، من الذين تركوا بصمتهم الواضحة في كل شبر فيها، من قبط وعرب وسود البشرة ويهود، لأنها المدينة التي لم تكن لتفرق بين دين ودين، وبين أبيض وأسود، وبين ساكن محلي ووافد؛ كان الكل على خط سواء، وقد وصل بها حال التجارة أن أصبح لها مكيال خاص بها، مثل الكيلوغرام والصاع وغيرها من المقاييس الأخرى، فكانوا يقولون المكيال التمنطيطي.
أحد طرق تمنطيط
وهذا دليل واضح على ما كانت عليه تلك المدينة التي لا تزال إلى اليوم شاهدة على الماضي من خلال العمران الذي تركوه. وقد ألف حولها الأولون العديد من الكتب، مثل "القول البسيط في أخبار تمنطيط" لصاحبه لمحمد بن بابا حيدة، وقد ذكر فيه الحياة الاجتماعية والثقافية والدينية والاقتصادية والعمرانية التي كانت تعيشها المنطقة، كما أن الرحالة الشهير ابن بطوطة لديه مؤلف تحت عنوان" الوسيط في أخبار من حلّ تمنطيط"، إضافة إلى العديد من المخطوطات الأخرى التي لا تزال منتشرة في العديد من الزوايا والمساجد في الصحراء لم تجد من يحققها ويحفظها.
لا تزال وإلى غاية اليوم، العديدُ من القصور شاهدة على الدور الكبير الذي لعبه اليهود في صناعة وتجارة وثقافة ودورة الحياة في مدينة تمنطيط، خاصة وأن تواجدهم بدأ بعد سقوط الأندلس وبداية محاكم التفتيش فيها، وقد انعكس دور اليهود في الحرَف والتجارة التي مارسوها، حتى أصبحت لهم اليد العليا في المنطقة.
وقد استمر الوضع على تلك الحال إلى أن وفد عليهم الإمام محمد بن عبد الكريم بن محمد المغيلي التلمساني، وحسب دليلنا في الرحلة، فقد شن عليهم هذا الإمام حرباً، بعد أن احكموا سيطرتهم على المدينة وصاروا حكّاماً لها، وتجاوزوا الاعراف التي سطروها لهم، خاصة بعد أن قرروا بناء معبد خاص بهم في المنطقة، وهو الأمر الذي خالفوا به أهل الذمة، حسب المرشد، وهي الحجة التي أكد عليها الإمام المغيلي، وأخرجهم بها من تمنطيط.
سوق أولاد داوود
رحل اليهود ولا يزال تراثهم المعماري شاهداً عليهم إلى غاية اللحظة، منها السوق اليهودي الذي يحمل تسمية "أولاد داوود" والعديد من القصور التي اتخذوها دوراً لهم، إضافة إلى القصص الشفوية التي لا تزال تروى عنها في كل المناطق المجاورة، حتى أن هناك من يقول بأن بعضهم لا يزال يعيش إلى غاية اليوم، لكنهم غيروا ألقابهم واندمجوا بشكل كلي مع السكان.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع