شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
يوم غنّى أهالي بدادون لجناركهم وأقاموا لها مهرجاناً

يوم غنّى أهالي بدادون لجناركهم وأقاموا لها مهرجاناً

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة نحن والتاريخ

الأربعاء 24 مايو 202301:27 م

يحتفل المزارعون في العديد من دول العالم بزراعاتهم، نظراً إلى أهميتها الكبيرة بالنسبة لهم، لذا يطلقون اسمها على يوم من أيّام السنة أو شهر من شهورها، وباتوا يحتفلون بها في كل عام، فعلى سبيل المثال، يحتفل الأمريكيون بشهر التفاح في تشرين الأول/ أكتوبر، كذلك يفعل الأوروبيّون في شهر البطيخ في تمّوز/ يوليو. أما عشّاق الموز فأطلقوا اليوم العالمي للموز في 17 نيسان/ أبريل، والرابع من أيّار/ مايو أُطلق يوماً عالمياً لعصير البرتقال.

بلدة بدادون في قضاء عاليه في جبل لبنان، حذت مبكراً حذو هذه الدول/ الشعوب، فهذه البلدة الوادعة في قلب الجبل والتي تشتهر على مساحة لبنان بفاكهة الجنارك، خصّص أبناؤها عيداً لفاكهتهم المفضلة، فاحتفلوا بمهرجان الجنارك منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي، بمشاركة عمالقة الفن اللبناني، ولاقى هذا المهرجان اهتماماً شعبياً واسعاً وصلت أصداؤه إلى العالم العربي وأنحاء العالم كافة.

كيف بدأت الفكرة؟

خصص أهالي بدادون عيداً لفاكهتهم المفضلة، فاحتفلوا بمهرجان الجنارك منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي

يقول الفنان التشكيلي والعضو المؤسس في جمعية "شعلة المحبّة والوحدة"، روجيه سمعان، في حديثه إلى رصيف22، إن "الفكرة بدأت بشكل عفوي، فبعد تأسيس الجمعية من قبل مجموعة شبّان من البلدة، بدأت تقوم بالعديد من النشاطات، خاصّةً أن لبنان كان ينتقل إلى مرحلة جديدة بعد انتهاء الحرب الأهلية التي بدأت عام 1975 وانتهت عام 1990".

ويشير إلى أن "الفكرة كانت بالأساس إقامة مهرجان شبابيّ يجمع كل الشبان من البلدة ومحيطها، لتعميق العلاقات التي كانت قد قطعتها الحرب، فكانت الخلاصة أن تجري تسميته بمهرجان الجنارك، نظراً إلى أهمية الجنارك بالنسبة إلى بدادون، ومن أجل التسويق له في لبنان، لأنه لم يكن معروفاً عن بدادون أنها منتجة لنوعيّات مميزة من هذه الثمرة اللذيذة".

يركن فادي ضو، ابن بدادون، وهو مزارع جنارك، سيّارته في أول البلدة من جهة القماطيّة، ويعرض عليها منتجاته من هذه الفاكهة، ويقول لرصيف22: "بدادون كانت ولم تزل مشهورةً بجناركها، فأهالي البلدة من الفلاحين والمزارعين، بدأوا مبكراً بزراعتها مع العديد من أنواع الفاكهة كالتفاح والدراق، إلا أنها الوحيدة التي نجحت وأعطت الخيرات، ومن هنا جرى التركيز من قبل أجدادنا وآبائنا على زراعتها"، مشيراً إلى أن موسم الجنارك الذي يصادف في شهري أيار/ مايو وحزيران/ يونيو، يُعدّ موسم الخيرات، إذ ينتظره المزراعون ليجنوا محاصيلهم ويبيعوها للسوق المحلّي، ليؤمّنوا لقمة عيشهم وجزءاً من مصاريفهم خلال السنة.

مهرجان الجنارك

بدأ المهرجان بنسخته الأولى عام 1990، بعد انتهاء الحرب الأهلية مباشرةً، في ملعب مدرسة بدادون الرسمية، وكان الحضور فوق المتوقّع، وفق ما يقول سمعان، إذ لم يكن مقتصراً على أهالي البلدة، بل تعداه إلى خارجها، وهذا كان السبب الأساسي لاستمرارية المهرجان لسنوات، ويضيف: "في السنة التي تلتها وفي الثاني من حزيران/ يونيو 1991، أقيمت النسخة الثانية، بمشاركة الفنان الكبير الراحل وديع الصافي، وأقيم المهرجان في أول البلدة وعلى حدود بلدة القماطية بين أشجار الصنوبر، وكان حدثاً كبيراً على مستوى الوطن، وقد تم نقله عبر وسائل الإعلام، وكان حديث البلد حينها".

ويلفت إلى أن "أهمية هذا المهرجان تكمن في أنه يجمع أبناء المنطقة بمختلف انتماءاتهم الدينية والسياسية، خاصةً بعد الحرب التي قطّعت الأوصال بين الناس، ففي المهرجان عاد التواصل بين البلدات، فأتى قادة كشفيون من القماطية ليدربوا كشافة بدادون على الموسيقى، كذلك شاركوا في التدريبات للفرق المشاركة في التمثيل". ويضيف: "هناك صورة عالقة في ذهني وتأثّرت بها وهي صورة سيّدة من القماطية ترتدي الحجاب، كانت تبكي بكاء الفرح بين الجمهور، متأثرةً بالجو العام وبالكلمات والقصائد التي كانت تركّز على طي صفحة الحرب والتقارب بين الأهالي".

هناك صورة عالقة في ذهني وتأثّرت بها وهي صورة سيّدة من القماطية ترتدي الحجاب، كانت تبكي بكاء الفرح، متأثرةً بالجو العام وبالكلمات والقصائد التي كانت تركّز على طي صفحة الحرب

ولا ينسى سمعان عندما حضرت الفنانة الكبيرة الراحلة صباح، إذ أُقفلت الطرقات بشكل كامل داخل البلدة وفي البلدات المحيطة بسبب السيارات والحافلات، ولم تستطع صباح الوصول إلى ساحة المهرجان، عندها عمل المنظمون على إخراج السيارات ودخلت صباح إلى بدادون من جهة القماطية، "كانت الناس تأتي من كل لبنان، وحتى من سوريا، وهناك مغتربون كانوا يوقّتون زياراتهم إلى لبنان في وقت المهرجان ليحضروا فعالياته".

فعاليات المهرجان المنوّعة

برنامج المهرجان كان منوّعاً؛ بين شعر وزجل وفقرات مسرحيّة وفنيّة بمشاركات من فرق وممثلين من البلدة ومن خارجها، وكلّهم كانوا يأتون ليقدّموا وصلات ضمن الفعاليات، وقد شارك في المهرجان في نسخته الحادية عشرة، شعراء كثر منهم؛ موسى زغيب ومارون كرم وعصام زغيب، وفنّانون كبار مثل وديع الصافي وصباح وملحم بركات ونجاح سلام وماري سليمان وعبدو ياغي وملحم زين ومحمد إسكندر وغيرهم الكثير، بالإضافة إلى فرق رقص ومسرح.

الممثل كابي حويّك، ابن بلدة بدادون، الذي كانت انطلاقته الأولى في عالم التمثيل من مهرجان الجنارك، يتحدّث إلى رصيف22 عن هذه التجربة، ويقول: "انطلاقتي كانت من مهرجان الجنارك الذي كان مهرجاناً يضج بالرقص والغناء والمسرحيات والشعر، وهناك أظهرت موهبتي، إذ كان الجو جميلاً جدّاً، خاصةً عندما شارك وديع الصافي في النسخة الثانية، وأعطاه هذا الزخم ليستمر، ومن هنا بدأنا من مهرجان الجنارك حيث اكتشف المدرّبون موهبتي في التمثيل وأصبحنا نقيم المسرحيّات، صحيح أن بدادون كانت المستضيفة ولكن كانت هناك مشاركات من شتّى القرى، من القماطية وفوج كشافة الجرّاح فيها، وكانوا يدرّبون الكشافة لدينا، وأيضاً من وادي شحرور والحدث وبعبدا وبليبل ودير قوبل وغيرها الكثير من البلدات".

برنامج المهرجان كان منوّعاً؛ بين شعر وزجل وفقرات مسرحيّة وفنيّة

ويضيف الحويّك: "في أواخر التسعينيات، التقيت بالموسيقار الكبير الراحل ملحم بركات وقلت له: هل تقدّم لنا حفلةً مجانيةً في مهرجان الجنارك، فنحن على صعيد الجمعية ليس لدينا المال؟ فوافق على الفور. لم يصدّق أعضاء الجمعيّة أن ملحم بركات سيأتي، وعندما حان وقت المهرجان بحضور ملحم بركات إلى البلدة لم تتسع لشدّة ازدحامها بالسيارات والوافدين إليها من عشرات القرى اللبنانية، وكانت نسخةً مميّزةً حينها، وأنا كنت في فرقة الدبابير وألغينا عروضنا المسرحيّة وقدّمنا عرضاً في مهرجان الجنارك بعد أخذ الإذن من بركات، لتكون فقرتنا قبل وصلته ووافق على ذلك".

من غير المعلوم متى بدأت بدادون بزراعة الجنارك، لكن بحسب الحويّك فإن جنارك بدادون هي الأجود والأطيب على مستوى لبنان، وربما يكون سبب هذا التميّز، موقع البلدة ونوعية التربة.

ويلفت إلى أن الكثير من المزارعين كانوا يتركون عدداً من أشجارهم من دون قطاف، إلى موعد المهرجان ليقوموا بقطفها وتعبئتها بأكياس صغيرة ليصار إلى توزيعها على الجمهور ليتذوّقوا جنارك البلدة المميزة، وهكذا كان يفعل عمّه إذ كان يترك أكبر شجرة جنارك لديه في الحقل ويقول: "هذه الشجرة للمهرجان"، ويقطفها في موعد المهرجان ويوزعها على الحاضرين.

لماذا توقف المهرجان؟

يتذكر ضو جيّداً المهرجان بمعظم نسخه، ويرى أن إقامته في آخر الموسم كان عبارةً عن مناسبة للترفيه عن النفس بعد التعب في القطاف والبيع والاهتمام بالأشجار، والأهم من ذلك هو أن المهرجان كان أشبه بالدعاية للجنارك البدادوني لكي يشتهر ويذيع صيته بين الناس بعد تذوّقه، فـ"أينما زرعت الجنارك لا يمكن أن تحصل على الطعم نفسه الذي نحصل عليه في بلدة بدادون".

كان عمّي يترك أكبر شجرة جنارك لديه في الحقل ويقول: "هذه الشجرة للمهرجان"، ويقطفها في موعد المهرجان ويوزعها على الحاضرين

أقيم المهرجان بإحدى عشرة نسخةً وتوقف لأسباب مجهولة بحسب المزارع فادي ضو، الذي أسف لخسارة المهرجان الذي كان ينتظره لبنان من موسم إلى آخر، أما الفنان روجيه سمعان فيعيد سبب توقّفه إلى "وجود بعض الأحزاب التي تمتعض من عمل الجمعيات وتحارب نشاطاتها، لأن الجمعيات بشكل عام تأخذ العنصر الشبابي من أمامها ومن أمام التنظيمات السياسيّة، وما أن عاد العمل الحزبي في البلدة وظهر في أول انتخابات بلدية بعد الحرب، بدأ المهرجان يغيب سنةً بعد سنة، وإلا كان لزاماً على المجالس البلدية المتعاقبة المحافظة على إحياء مهرجان الجنارك الذي يُعدّ جزءاً من تراث البلدة".

يظهر مما تقدّم أن ماضي البلدات اللبنانية أجمل بكثير من حاضرها، إذ كانت النشاطات الجماعية والأهلية تحضر بقوّة، ولم تكن مقتصرةً على مساحة البلدة وإنما تتعدّاها إلى نطاق أوسع بكثير، فغاب مهرجان الجنارك إلى غير رجعة، وحتى ثمرة الجنارك التي تغنّى بها أبناء بدادون لسنوات طوال، أصبحت في خطر في ظل مزاحمة الجنارك المستورد لها. ويبقى الأمل في أن تعيد الأيام القادمة مهرجان الجنارك، كما يحلم كل يوم روجيه وغابي وفادي، ومعهم أبناء بدادون كلهم.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

منبر الشجعان والشجاعات

تكثُر التابوهات التي حُيِّدت جانباً في عالمنا العربي، ومُنعنا طويلاً من تناولها. هذا الواقع هو الذي جعل أصوات كثرٍ منّا، تتهاوى على حافّة اليأس.

هنا تأتي مهمّة رصيف22، التّي نحملها في قلوبنا ونأخذها على عاتقنا، وهي التشكيك في المفاهيم المتهالكة، وإبراز التناقضات التي تكمن في صلبها، ومشاركة تجارب الشجعان والشجاعات، وتخبّطاتهم/ نّ، ورحلة سعيهم/ نّ إلى تغيير النمط السائد والفاسد أحياناً.

علّنا نجعل الملايين يرون عوالمهم/ نّ ونضالاتهم/ نّ وحيواتهم/ نّ، تنبض في صميم أعمالنا، ويشعرون بأنّنا منبرٌ لصوتهم/ نّ المسموع، برغم أنف الذين يحاولون قمعه.

Website by WhiteBeard
Popup Image