شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
نظارتي السوداء الصغيرة

نظارتي السوداء الصغيرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مجاز نحن والتنوّع

السبت 29 أبريل 202312:49 م

نظارتي السوداء الصغيرة

استمع-ـي إلى المقال هنا

الخائف

حينما تعلّمت القيادة منذ أكثر من عام، كنت أتبع الخطوات فقط، أحفظها قدر ما أستطيع وأعوّد يدي عليها كي تصبح طقساً محفوظاً. أفتح باب السيارة، وبعدها أتفقّد المياه في القربة، ثم أعود للكابينة وأنزل فرامل اليد مع إدارة المحرك بهدوء دون تحريك السيارة، وبعدها الخطوة الأهم، وهي ارتداء نظارتي السوداء الصغيرة.

يكمن دور النظارة في القيادة في تجنّب انعكاس الشمس على الزجاج، لأتمكن من رؤية الطريق جيداً ،تلك المعلومة جعلتني أتمكّن من فهم السبب الذي يجعل سائقي التاكسي يضعون قماشاً من الفرو الصناعي الفاتح على التابلوه، بسبب مضايقة لون التابلوه الأسود للرؤية.
منذ سنوات، لم تكن لي أي علاقة بالنظارات السوداء، أحاول ارتداءها لكنها لا تطاوعني، فوجهي صغير ولا أجد النمط المناسب لشكله، فيبدو وجهي مضحكاً بها، لكنني رغم شكلها المضحك على وجهي وجدت لها فائدة أخرى عقب وفاة جدي.
قضيت سنوات طفولتي متعلقة بجدي لأمي، فما زلت أذكر بحّة صوته ورائحة السجائر العالقة بملابسه وملمس رأسه الخالي من الشعر. رحل جدي أثناء مراهقتي كمقابلة أولى للموت في حياتي، أذكر المنزل والملابس السوداء وصوت خالي الوحيد مراقباً بكائي، فيسألني عن نظارتي السوداء.
البكاء عورة لا بد لنا أن نسترها، ونظارتي السوداء صارت ساترة لكل بكائي وقتها، تعلّمت كيف نختبئ أسفل الكثير من الأشياء من ضمنها العدسات الغامقة.
نتعلم منذ صغرنا كيف نختبئ من الآخرين لنكتم مشاعرنا المؤلمة، نغلق جروحنا أحياناً بكل الأشياء العالقة بها، لأننا لا نملك شجاعة الرجوع للموقف واختبار تلك المشاعر المؤلمة.
لم أكن أفكر في الأسباب المنطقية لبكائي وقتها، فطبيعتي الشخصية حسّية للغاية، أتعامل مع كل شيء من حولي بمشاعري بشكل أولي، لأصبح على قدر كبير من الهشاشة، تلك الهشاشة لم أود ظهارها أبداً أمام أي شخص، لاعتقادي آن الآخر سيستغل تلك الهشاشة لصالحه.
البكاء عورة لا بد لنا أن نسترها، ونظارتي السوداء صارت ساترة لكل بكائي وقتها، تعلّمت كيف نختبئ أسفل الكثير من الأشياء من ضمنها العدسات الغامقة... مجاز

نتعلّم منذ الطفولة على شراسة الآخر، وكفتاة حصلت على تربية متحفّظة بسبب كونها فتاة، فالآخر بالنسبة لي شرير وغامض، وأي كشف عن هشاشتي سيضعني في موقف ضعف أمامه. أفكر بعدد السنوات التي قضيتها في دفن مشاعري أسفل العدسات كيلا أشعر بإيلامها طويلاً.

 في الجامعة، لم أعش قصص الحب بشكل طبيعي، فبسبب كوني في جامعة بعدد ذكور قليل جداً كنت أتأمل الكثيرين خارج مبنى الكلية، وأرى الثنائيات من حولي، يجلسون ويأكلون معاً، بينما أنا عالقة في الطابق العلوي من مبنى مقبض برائحة النشادر الخارجة من معامل الكيمياء، لتسد شهيتي عن الطعام لفترات طويلة.

تهدأ الآلام أسفل بطني، وتنتهي نوبة بكائي سريعاً، فأرتدي العدسات السوداء، وأكمل طريقي بقلب تحرّر من ذلك الحزن الخفيف

كنت أعتبر نفسي منبوذة ووحيدة، بعيدة عن كل تلك الأجواء الرومانسية في الأجواء. بداخلي لم أشعر بتلك الفراشات التي تدغدغ مشاعري، لكنني شعرت بنخزات تبدأ من أسفل بطني لتخرج على صورة دموع من عيني، لم أعرف أنني كنت مصابة بالاكتئاب بتلك الفترة وأن رؤيتي للسماء رمادية لم يكن شيئاً معتاداً لكل الناس.

أثار إعجابي وقتها أحد المدرسين المساعدين للمواد العلمية، كنت أراقبه بعدساته السوداء فأشعر أننا نختبئ كلنا، وأخمّن ما الذي يضطره لأن يخبئ مشاعره، فالمدرس المساعد يشبه نجوم السينما الوسيمين مع ثراء معقول وسيارة صغيرة وملابس غالية، فيصير الأيقونة بين صفوف المادة، لكنني بعد شهور قليلة شاهدته خارج الجامعة مع زميلة له، يرتديان زوجاً من العدسات السوداء المتشابهة، فعلمت أنه لا يضطرّ لتخبئة مشاعره مثلي، وأن للعدسات السوداء وظيفة أخرى أحياناً.
مع الوقت، كنت أطور تقنيات مختلفة لمواجهة نوبات البكاء، تعتمد تلك التقنيات على الإلهاء، فأشغل عقلي في فكرة تلو الأخرى، وهكذا حتى أخرج من تلك النوبات التي تجعلني أتمسّك بالنظارات السوداء، من قراءة الكتب، لمشاهدة المئات من المسلسلات والأفلام، لتأليف القصص نفسها. كل ذلك لإبعاد شبح تلك النوبات، التي أعلم كيف تبدأ ولكن لا أعلم متى تنتهي، ومتى ستتركني منهكة من الصداع الشديد والوهن في جسدي.
يمر بي الوقت، فيصير المعتاد هو كبتي لمشاعري وتأجيلها، أبتعد عن الحب لكنه يطالني ويشعرني بتلك الفراشات في بطني والرعشة في جسدي حينما أسمع صوت ذلك الحبيب، لا يخرج كلامي منتظماً أبداً معه. دائماً هناك ذلك الغباء وعدم ترابط الجمل، لكنني كنت واقعة في الحب، وبدل ارتداء نظاراتي السوداء الصغيرة كنت أرتدي نظاراته التي لا أرى بها، ولكنني أضحك كثيراً وتبتعد عني نوبات البكاء كثيراً، كأن المسافة بيننا صارت دهراً وأنني صرت نسخة سعيدة مني.
لا نحتاج الكثير من التوصيف لنشخص أنفسنا باكتئاب ما بعد الولادة، فمع الاعتياد على نوبات الاكتئاب العادية، نلمس اختلاف ما نحن عليه، فتبدأ نوبات الأرق والسواد حول العينين، لحظات إدراك أن الطفل الذي يبكي يخصّني وينتظرني أنا وليس أحداً آخر، مع أزمة ذوباني داخل مظلة الأمومة.
كنت لا أعمل ولا أكتب ولا أفعل أي شيء أحبه، باستثناء أنني أم، وحينما أخطو خارج المنزل لا تفارقني العدسات السوداء بسبب شكل عيني المرهق ودموعي الجارفة التي تنهمر في لحظات سريعة.
ما زلت أذكر كم مرة انفجرت من البكاء على المقعد الخلفي لسيارات الأجرة، وكيف علا صوتي ونبضات قلبي فور بدأ ذلك الألم أسفل بطني متحركاً صوب عيني. في إحدى المرات بكيت بحرقة على أغنية "سألوني الناس" لأنها ذكرتني بالحبيب الذي يحتضر. بكيت مرة بسبب بحثي عن النقود لمحاسبة السائق واكتشاف أنني لا أملك نقوداً كافية، لأنني اعتدت وجود شريك لي يحمل همّ المال، بكيت مرات أمام الكاشير في السوبر ماركت حينما اكتشفت أنني ابتعت الأشياء للحبيب الذي رحل دون إدراكي ذلك. مرات ومرات تلصق العدسات بعيني وتخفي حقيقة مشاعري ودموعي الساخنة.
نتعلم منذ صغرنا كيف نختبئ من الآخرين لنكتم مشاعرنا المؤلمة، نغلق جروحنا أحياناً بكل الأشياء العالقة بها، لأننا لا نملك شجاعة الرجوع للموقف واختبار تلك المشاعر المؤلمة... مجاز

يسخر الكثيرون من علاقة البكاء بالفتيات، وكيف أنهن يواجهن حزنهن بالبكاء في العمل أحياناً. بكيت مرات كثيرة في دورة المياه بالعمل دون أسباب واضحة، وخرجت بالكثير من المبرّرات حول احمرار عيني، بسبب نوبات بكائي صرت أعاني من نوبات صداع لا تنتهي، مع أرق وانسداد شهية والكثير من الأعراض التي جعلتني خاملة ومرهقة من عمل أقل شيء.

 حينما أعود لتلك الفترات، كنت أعي وجود درع يحيط مشاعري ،كان مريحاً ويسمح لي بخروج مشاعري التي لم أعد أعلم كيف أتحكم في كبتها. أفكر الآن في أسباب انفجاري في نوبات شديدة الحدة، وهي تبدو من الوهلة الأولى أسباباً بسيطة لا تحتاج كل ذلك القدر من الانفعال، لكن تلك الأسباب كانت تراكماً شعورياً أدى بي إلى الانفجار.
منذ فترة قصيرة كنت أقف في مواجهة مع نفسي أمام مشاعري، لأكتشف أنني لم أعد أريد الإحساس بوطأة تلك المشاعر، كنت أشعر بالألم لسنوات وخشيت أن أختبر مشاعري أو أنفتح عليها أمام أي شخص، بسبب خوفي من الألم. يدفعنا الخوف لعيش الحياة على الهامش، لا أن نخوض فيها ونلقي أنفسنا بخفة داخلها، أدركت في تلك الفترة الأخيرة أنه يجب علي مواجهة خوفي من الفقد وخوفي من الآخر الذي يكشف هشاشتي.
أحمل الكثير من المشاعر داخلي، وأكبتها كثيراً لتخرج بشكل مختلف. في داخلي مشاعر حب جارفة تشتاق إلى الخروج لكنني أكبتها، أتجنب أحضان أمي وصديقاتي وحتى ابني الصغير، كيلا أعتاد إظهار مشاعري، وكم كان ذلك مؤلماً بحق، الشعور بأنني لا أعلم كيف أنفتح أمام من أحبهم وكيف أخبرهم بأنني لست بخير معظم الأوقات.  
مع الوقت والعمل على فهم نفسي قلّت نوبات بكائي، صارت الحياة محتملة. أتحرّك بتخفّف دون ثقل على قلبي، وأختبر تغيّر مشاعري وأتقبّلها للدرجة التي غيّرت وظيفة العدسات بالنسبة لي، صارت ملازمة لي أثناء القيادة، لكنني أمسك نفسي بين وقت وآخر بدموع ساخنة وطازجة، تنحدر من عيني لوجنتي، ثم تسقط على لتذكرني بأنه لا بأس بأن أحزن أحياناً، فأتوقف عن القيادة، وأخلع نظارتي بهدوء، وأستمر في البكاء على ما يحزنني، طالما أنني لا أكبت مشاعري المؤلمة وأستسلم لها لترحل عني بهدوء.

أتذكر الجملة التي لازمتني في جلسات ورش الكتابة المقدّمة للدعم النفسي التي صرت أديرها مؤخراً. لا بأس بأن نختبر مشاعرنا المؤلمة مرات عدة، لكننا لا يجب علينا أن نغرق فيها، لنطفو فوق تلك المشاعر بخفّة وانسيابية، مشاعري بحر دموع أطفو عليه، فأبتل أحياناً وأغرق أحياناً، لكن كل ذلك سيرحل. تهدأ الآلام أسفل بطني، وتنتهي نوبة بكائي سريعاً، فأرتدي العدسات السوداء، وأكمل طريقي بقلب تحرّر من ذلك الحزن الخفيف.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image