"زوروني كل سنة مرّة... حرام تنسوني بالمرّة حرام!" تقتادني خلفها هذه الأغنية وأسير معها برجاء طفلة مكسورة الخاطر، وقد أغمضتُ جفني على ذكرى أو اثنتين لهما الآن الأحقيّة قبل حاضري المنشغل بنفسه. هكذا أنا دائماً، أحفر لنفسي هاوية الحنين وأتقرّب منها كثيراً لأقف على عتبتها، أترّنح ما بين اليقظة والحلم. ترى إذا وقعتُ من يلّم بقاياي المبعثرة بين شظايا الحنين الذي يلسعني ولا يحرقني، يترك ندوبه عليّ ويخلّف في أُذني صوت فيروز، حيث المرارة والحرام يترابطان بلا قيد؟
أّدمن الأغاني على شرحات من الزمن، فأتقمّص صوت وإحساس المطرب أو المطربة، وتعيش الأغنية في مقدّمة بالي ريثما أفكك كلّ تقاطيعها، وأخطّها بحركات يدي التي تنساب على البيانو الوهميّ الذي ينام في حضني أبداً. الأغاني مواسم وكذلك الحنين، وأنا الآن في موسم الحنين السنويّ الذي يستأسد أكثر كلّ عام في تجدّده.
لم يزرني أحد في غربتي سوى أختي الكبيرة ومنذ أكثر من خمس سنوات. لا يعرف أهلي من مدينتي إلاّ ما أريهم منها، وحتى عيني تعاني، ففي منظورها ثقوب كبيرة تماماً كالسماء هنا التي تمطر سيل تعرّقها المكبوت صيفاً. في كل مرّة أخبر أمي أنّ السماء تمطر، تُعيد عليّ الدرس القديم نفسه بأن أتقي البرد، ولكن المطر والبرد هنا يتحايلان علينا، ولا يظهران في العلن سويةً كأنهما في علاقة حبّ سريّة. وكذلك الشمس، فهي تتوّسط قبّة السماء ببهاء معظم أيّام السنة في ولاية الشمس فلوريدا، لكنها أيضاً في ظهورها مريبة، تسطع بأشعتها من دون سطوة، فحين تحتاج دفأها في أيّام البرد القارصة -على ندرتها- تلاقيك على الموعد، مكشوفة الوجه والساعدين، تنظرك في عينك وملاءتها الدافئة خلفها، ترفض أن تغطيك ولا تعرف للندم أو المفاوضة سبيل.
ليتني أدخل مساكنهم وأتوّسد ركنهم المفضّل، فأفتح جواريرهم السريّة، لأفتّش أوراقهم وأقرأ بَوح اللوائح التي سطّروها في خيباتهم وفي فرحهم
ليت ناسي يزورونني لأريهم كيف تستيقظ الأرض هنا من سباتها ناضجة الملامح، وجهها ندي، صاف، جذاب. ليتهم يرون الأخضر هنا في جميع تدرّجاته النيّرة، حتى يتخيّل إليك أنّ لعيونك الآن فلاتر جديدة بتكنولوجيا عالية الوضوح. نتعايش هنا مع التمساح المهيب والحية والبعوضة والسحلية والزيز الأسود والنمل الناري والصراصير البنيّة غير السامة، ونتعلّم اتقاء شرّهم وحقّهم بعشرتنا.
ليتهم يتمشّون في نفس الطريق التي أسلكها كلّ يوم من صفّي الأول إلى مكتبي إلى مكتبة الجامعة إلى صفوفي الأخرى في حرم يتوّسط المدينة ويتشابك معها فيصيران واحداً موّحِداً، ويشتمّون الورود والزهور التي تراقص النعس، فترتمي على جنبها تارةً وترفع بتلاتها لتعانق النور تارةً أخرى. ليت عيونهم تتسلّق يدي الطويلة وهي تشير إليهم بقطعة السماء التي أنتقيها بتأنٍ، لأنها تشبه سماءنا في مدينتي الأم، حيث أنقل جبال سلسة لبنان الشرقيّة من خيالي فتُزهر لدقائق أمام غروب الشمس وتنقلنا مسافة محيطات وتزرعنا على بلكون بيتنا أمام أفق أرسمه في الذكرى.
في حنيني إلى الوطن حنينٌ إلى أهلي وحييّ وسريري ومكتبتي، ومكابرتي أمام الأرزة التي شمخت فوق بناية بيتنا، وعلت وكبرت ولم تنتظرني. في حنيني أركض خلف قطن شجرة الحوْر التي تتاخم شبابيك بيتنا والذي يتجمّع في الزوايا كالثلج ربيعاً وشوقي إلى تكتّلات الغيوم، وتنافس العصافير في زقزقتها حتى يتخيّل إليّ أنها تعشش في أذني.
لكن في حنيني إلى تواجد أهلي في بلدي الجديد تأكيد لأصالة ذاتي ولممارستي نفسي ولو تأطّرت في قالب جديد. في وجودهم هنا يشهدون على حياتي ويتحقّق نضجي المنتظر وتدوّن أيّامي التي مرّت من دون أن تمّر وتستقّر حياتي التي أحسبها مشطورة إلى قسمين. في هذه المشاركة للمطارح ولنفسي الجديدة القديمة المتفاعلة مع تلك المطارح تتجسّد كينونتي في ذلك الجسد الذي ودعوه قبل سنوات طويلة.
وفي مقابل ما أشتهي في زيارةٍ أو زيارات كهذه أحشيها حتى النخاع، أدرك كمّ الزيارات التي أُدين بها لأحبابي أيضاً، فيا ليتني أدخل مساكنهم وأتوّسد ركنهم المفضّل من البيت، فأفتح جواريرهم السريّة لأفتش أوراقهم وأقرأ بَوح اللوائح التي سطّروها في خيباتهم وفي فرحهم، وأطالع أمامي ذكرياتهم التي وصفوا لي منها تفصيلاً صغيراً لا يقدّم ولا يؤخّر، وحجبوا عني عتمتها.
زوروني وإن لم يكن مرّة في السنة فليكن مرّة لكل عقد من الزمان، أليس هذا حراماً، ألا تدرون أني ما زلت سجينة المواسم الماضية؟
على أي عتبة وبجانب أي حائط تركن الشمس نفسها في بيوتهم؟ أين وضعوا الحجارة التي صقلت أرواحهم وخلّفت حفر الأخاديد في وجوهم المستطيلة وفي قلوبهم المكوية والممدودة، هل هم أيضاً زيّنوا بها حدائقهم الصغيرة بعدما اضطروا لترك بساتينهم المبسوطة؟ أريد أن أسقي عنهم نباتاتهم وأن أعتاد على مطابخهم فلا أعود فيها غريبة. أي كتبٍ يجمعون وأي قهوة يرتشفون؟ هل يأكلون الحمص أخضر ويحضّرون الفلافل بلا فول؟ أي لبن زبادي يفضّلون، وهل تعيدهم المنقوشة مع هرم العصير إلى أهنى لحظات الطفولة مثلي؟ هل أسمعوا أطفالهم "شوشو" وأذاقوا أولادهم طعم القهوة في فناجين القهوة البداويّة التي حملوها من دكاكين لبنان الصغيرة؟
أرسم على خريطة العالم الصغيرة بقلمٍ رحلة الحلم التي تربط بين كلّ ناسي على هجرتهم المختلفة ووجهاتهم المميّزة والتي تشّد حبكي بهم، وتؤكد أني على الأقل صاحبة نيّة، وإن كان فعلي ناقصاً فربما يتحوّل الحبر الذي به أخطّ طريقي دخان طائرة، ويصبح بمقدوري التلصص على حياتهم لأزرع شيئاً من نفسي فيها.
لا يطيل سيد درويش كلام الأغنية لغياب الحاجة، فالشكوى ضنى الحنين. زوروني وإن لم يكن مرّة في السنة فليكن مرّة لكل عقد من الزمان، أليس هذا حراماً، ألا تدرون أني ما زلت سجينة المواسم الماضية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...