"تجربة ترك أهلي بعد سنوات كثيرة قضيتها معهم ليست هينة. ورغم محاولات زوجي تحجيم هذا الإحساس بداخلي، بقي حنيني إلى أهلي شديداً».
تقول داليا، (26 عاماً) تسكن في حلوان على أطراف القاهرة، بعد أن جمعتها قصة حب بصديقها في الجامعة، واتفقا معاً على الارتباط الرسمي، وباركتهما عائلتاهما، وعقب التخرج قررا إتمام المراسم، محملين بأحلام الزواج السعيد.
الطلاق
كانت داليا تعي أن الحياة الزوجية ليست بالأمر الهين على المرأة، فمسؤولياتها كبيرة، كما تقر بمسؤوليات الزوج التي لا تقل ضخامة، ولكن ما لم تضعه في الحسبان هو حنينها الشديد لأهلها. لقد صدمها إحساسها هذا، ولم تعرف كيف تتصرف حياله. تقول: "لم أكن أتخيل أني سأفتقد أهلي إلى هذه الدرجة. كنت أعتقد أن الحب كفيل بأن يخرجني من دائرة ارتباطي الشديد بهم، ولكني فوجئت بأن شوقي إليهم أكبر من حبي لزوجي".
أحرجتها هذه المشاعر. في بداية الزواج كانت تجد نفسها مندفعة لزوجها طالبة منه السماح لها بزيارة أهلها. فوافق بصدر رحب.
"أن تشعري بأنك مستبعدة من العالم الذي كنت جزءاً منه في يوم ما، عالم كان ملكك، أو هكذا كنت تعتقدين"
"مع الوقت، بدأ زوجي يضيق بي، وتحدث معي كثيراً بأن أقلل من زيارتي لأهلي، وأن أركز على حياتي الجديدة، وأكتفي بزيارتهم مرة كل أسبوع، خاصة أننا كنا نعيش في نفس البلدة، وأن المسافة بين البيتين ليست كبيرة، فوافقت على مضض"، تقول داليا.
وكأن القدر يستجيب لدموع داليا، إذ أتت لزوجها فرصة عمل في مجال البترول، واضطر للسفر إلى محافظة السويس. وبحكم عمله كان يتركها خمسة أيام في البيت، ويبقى معها يومين، وهذا ما جعلها تشعر بالوحدة الشديدة، خاصة أنها لا تعمل، فكانت تعوض هذا الغياب بالذهاب لأهلها.
لم تنتهِ صدمات داليا، فقد بدأ زوجها يرفض ترددها على بيت أهلها، إذ رآه تهديداً لانتمائها لبيتها الجديد، فتفاقمت الأمور حتى وصلت إلى الطلاق.
الزوجة لم تتحمل الوحدة، وهو لم يتحمل ما يراه "عصياناً"، وتفضيل أهلها عليه، ولم تشفع بهما قصة حبهما.
التوازن
على عكس داليا، تشدد عبلة على ضرورة التوازن بين بيتها الجديد وبيت أهلها، تقول: "يجب أن أوازن بين حياتي الجديدة وبيت أهلي، وأتعامل بموضوعية لتجنب المشكلات".
عبلة صلاح، (28 عاماً) موظفة تسكن في منوف بمحافظة المنوفية، ترى نفسها أكثر استقلالية عن أهلها، فقد تزوجت قبل عام ونصف، والحنين لبيت أهلها موجود، لكنها تتعامل معه بموضوعية "حتى لا تفسد حياتها الجديدة".
«لا وقت عندي لزيارة أهلي كثيراً، فأنا موظفة، ومنذ بداية الزواج اتفقت وزوجي على زيارة الأهل في أيام العطلة الأسبوعية وفي المناسبات والأعياد، وهذا لا يعني أنني ليس لدي انتماء لحياتي القديمة، ولكني أعي جيداً أن كل مرحلة تختلف عن سابقتها"، تقول عبلة.
الحنين الشديد للأهل والتعلق بنمط الحياة يدفع بعض الرجال للشعور بأنهم لا يستطيعون تعويض زوجاتهم، اللواتي يقارن، ربما عن غير قصد، بين حياتهن القديمة والجديدة.
يروي خالد تجربة زواجه، التي انتهت بعد أشهر قليلة بسبب زيارات زوجته المتعددة لأهلها، ومقارنة حياتها الجديدة بالقديمة، وكثرة التذمر، فهي كانت مدللة في بيت أبيها، وخاصة أنها أصغر أخواتها.
يقول خالد (29 عاماً) وهو موظف في مصرف: "تحدثت معها كثيراً، ولكنها لم تكن تصغي إلي، وكانت تخبر والدتها بجميع مشاكلنا، وهو الأمر الذي لم أتقبله، وقررت الانفصال".
"الست مش عبده"
يرجع الدكتور محمد هاني، استشاري علاقات أسرية وزوجية، إحساس المرأة بـ"الغربة" في بيت زوجها إلى طقوس تحضير الأمهات لزواج بناتهن، إذ ينشغل بال الجميع بـ«جهاز العرائس» دون أن يزرعن بداخلهن الانتماء لبيتهن الجديد، ويمرنهن على الاستقلالية والمسؤولية في حياتهن الجديدة.
وتختلف معه الناشطة في مجال حقوق المرأة، عزة هيكل، فهي ترى أن حنين الزوجة لبيت عائلتها لا يجب اعتباره مشكلة نهائياً، فمن الطبيعي أن يكون انتماء الفتاة في بداية زواجها موجه لأهلها، لأنها انتقلت إلى بيئة غريبة عن تلك التي نشأت فيها، ويجب على الزوج أن يدرك هذا الأمر جيداً، ولا يتذمر أو يشكو من زوجته.
وتضيف: "الست مش عبده عند زوجها، أول ما تروح بيته عايزها ملكية خاصة له وتنسى الدنيا كلها عشان خاطره"، مؤكدة أنه، بحكم الأعراف والتقاليد، سيظل الأهل هم الأهم في حياة أي فتاة، حتى بعد الزواج، تقول: "مع أول مشكلة هتقابلها، وارد جداً الزوج يرمي لها بشنطة هدومها، ويروح يتجوز عليها، إنما الأهل عمرهم ما هيتخلوا عن ضناهم".
الزوجة ومعضلة "الملكية"
في مجتمعات مشابهة، مثل الريف الهندي، تقع المرأة في تلك "المعضلة" التي يصعب حلها، مثلما كتبت نهى غوبتا في موقع "تايمز أوف إنديا"، تورد الكاتبة مثلاً ذكورياً قاسياً، وشائعاً في الهند يفيد بأن "الابنة ملك لشخص آخر".
تقول الكاتبة: "لم أهتم بهذه الأشياء أبداً حتى صدمني الواقع بشكل قوي، عندما تزوجت وأنا في الرابعة والعشرين من عمري، واضطررت للانتقال إلى مدينة أخرى".
وصفت نهى سنواتها الأولى من الزواج بالرائعة، إذ عاشت في فقاعتها الخاصة، واستمتعت بها حتى النخاع، ولم تلاحظ أن العالم يمر، حتى بدأت تُصدم عندما عادت إلى ما كانت تسميه "منزلنا" وبات "منزل أمنا".
ما هو المنزل الذي أمتلكه كزوجة، ويمكن أن أصفه بمنزلي، بيت عائلتي أم منزل الزوجية؟ كلاهما أم لا أحد منهما
لاحظت نها غوبتا وجود سجادة جديدة في منزل "والدتها"، واستغربت أنها لم تستشرها، وشعرت بغصة في قلبها، "أن تشعري بأنك مستبعدة من العالم الذي كنت جزءاً منه في يوم ما، عالم كان ملكك، أو هكذا كنت تعتقدين".
شعرت باضطراب ذهني كبير، ولكن بعد مناقشة مع صديقة عرفت أنها ليست الوحيدة، وتساءلت مندهشة: هل لهذا الشعور الأنثوي المضطرب حيال بيت عائلتها بعد الزواج اسم خاص، رغم وجود هذا الإحساس في عقل كل امرأة متزوجة، بحسب رأيها.
ترى الكاتبة أن كل امرأة بعد زواجها ينتابها ارتباك حول "الملكية"، ما هو المنزل الذي أمتلكه، الذي يمكن أن أصفه بـ"منزلي"، منزل عائلتي أم منزل الزوجية؟ كلاهما أم لا أحد منهما.
والإجابة، أنها مرحلة عابرة وانتقالية، ومع الوقت ستتقبل الزوجة البيئة الجديدة المتغيرة "الواقع"، وستبني عالمها الخاص، الجديد.
وستتعلم الزوجة مع الوقت أن توسع مفهوم العائلة، ليشمل العالم الجديد والقديم، ليس ذلك فقط، ولكنها تبدأ بخلق مساحة تخصها، وعالم تملكه، ولا مانع من الحنين للمكان الذي تربت فيه، وامتلكت ذكريات تخص طفولتها، وعلاقتها بأهلها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون