هناك أيام مازلت أنتظرها أملاً في استعادة بعض البهجة المفقودة أو حتى بعض ذكرياتها، مثل بداية أيام الإجازة الصيفية والتي تعد من أجمل أيام طفولتي. كنت أدخر مصروفي اليومي بالكامل في أيام الامتحانات لأجمع مبلغاً كبيراً في بداية الإجازة أشتري به كل ما فاتني من أعداد "رجل المستحيل" وملف "المستقبل".
هناك اتفاق ضمني أن الأطفال يشعرون أكثر ببهجة الأعياد والأجازات، ومنذ أن أصبحت أمّاً، بتّ أنتظر المناسبات من أجل مراقبة بهجة بناتي وانتظارهم للمناسبات والإجازات. منذ شهر كامل وبناتي ينتظرن الإجازة ويتحدثن عن أماكن التنزّه والشواطئ التي يرغبن في الذهاب إليها. يحسبن الأيام في النتيجة المعلقة على جدار المطبخ ليعرفن متى ستأتي أجازة الصيف ويتوقفن عن النهوض مبكراً ويتخلصن من الكتب الدراسية ومواعيد الدروس.
في تلك اللحظات تجتاحني النوستالجيا مثل نهر جارف، فأشعر بالخواء وفقدان كل لذة في الحياة بسبب افتقادي ذكريات الطفولة وأوقاتها، هنا قرّرت البحث عن معنى النوستالجيا وأصلها ربما أجد ما يزيح عني تلك المشاعر الثقيلة.
من أين جاءت النوستالجيا
جاءت كلمة نوستالجيا من الكلمة اليونانية "nostos" بمعنى العودة وكلمة "algos" بمعنى ألم، وتعني المعاناة التي تثيرها الرغبة في العودة إلى الوطن الأصلي. صاغ هذا المصطلح الطبيب السويسري يوهانس هوفر بعدما لاحظ الألم والمعاناة التي ظهرت على المرتزقة السويسريين في خدمة ملوك أوروبا. اعتبر هوفر ذلك الشعور مرض له أعراض مثل التفكير المستمر في المنزل و نوبات البكاء والقلق والأرق وفقدان الشهية وخفقان القلب.
نظر الأطباء إلى الحنين باعتباره اضطراباً عصبياً طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبحلول أوائل القرن التاسع عشر تغيرت تعريفات الحنين إلى الماضي، وأصبح شكلاً من أشكال الكآبة أو جزءاً من الاكتئاب
لم يتفق الجميع مع هوفر واعتقد الطبيب JJ Scheuchzer أن ارتفاع معدل الحنين إلى الوطن بين المرتزقة السويسريين حدث بسبب اختلاف الضغط الجوي الذي عانى منه هؤلاء الجنود أثناء نزولهم من منازلهم في جبال الألب للقتال في سهول أوروبا، واقترح بعض الأطباء العسكريين أن ذلك الشعور بالحنين كان مقصوراً على السويسريين بسبب صوت قعقعة أجراس الأبقار المتواصل في جبال الألب والذي أضر بطبلة الأذن والدماغ.
استمرّت هذه النظرة إلى الحنين للماضي باعتباره اضطراباً عصبياً طوال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبحلول أوائل القرن التاسع عشر تغيرت تعريفات الحنين إلى الماضي، وأصبح شكلاً من أشكال الكآبة أو جزءاً من الاكتئاب، أما في نهاية القرن العشرين اكتسب الحنين معنى مفاهيمياً فريداً بسبب عالم الاجتماع فريد ديفيس، وارتبط ذلك الشعور بدفء الأزمنة القديمة والحنين إلى الطفولة، وعرفت الكلمة في قاموس أكسفورد بأنها "الحنين إلى الماضي".
فقرة الذكريات
هنا، وبعد كثير من البحث، عرفت أنني وجدت وصف ما أشعر به: إنه بالفعل الحنين إلى الماضي والشوق إليه هو ما يؤلمني ويشعل داخلي، خاصة عندما يتصادف وأستمع إلى موسيقى أو أغنيات تثير مشاعري، مثل إعلان عن أحد الزيوت وهو يقول: "عمران البيت كله بحبايبنا... عنوان ميتوهش الي قاصدنا... أحضان دفيتنا ومش بتسيبنا". تعيدني تلك الكلمات إلى منزل جدتي وروائح طعامها وغبار الشمس المتراقص أمام شيش الشباك الموارب وصوت أذان العصر الذي كنت أنتظر بعده أذان المغرب واجتماع العائلة على مائدتها الكبيرة.
في أحيان كثيرة نغلق التليفزيون دون أن نتابع أي شيء. لقد ضاع رمضان عندنا
كنت الحفيدة الكبرى لجدتي، وحظيت بكل تدليلها وهداياها وحبها، أذكر أنها كانت تصطحبني في شهر رمضان، بعد الإفطار، إلى شارع المشهد الحسيني خلف جامع الحسين، حيث يجلس باعة السبح والإكسسوارات البلاستيكية الملونة والقباقيب ذات الكعوب الخشبية التي تدق على الأرض مع كل خطوة، ومحلات البخور والعطاره والجلاليب ذات الألوان الفاقعة والكرانيش، كل هذه الذكريات أستعيدها عندما تتلامس مع صوت أو صورة أو رائحة موجودة في ذاكرتي القديمة، خاصة رائحة التوابل والبخور.
تتجاوز الروائح كل الحواجز وتنتقل مباشرة إلى مركز الرائحة في الدماغ وقد تثير ذكرى مفصلة أو عاطفة شديدة، لأن الرائحة من حواسنا البدائية، ولها جذور في الطريقة التي كانت تتفاعل بها الكائنات وحيدة الخلية مع الحياة من حولها، لذا تمتلك تلك الحاسة أطول تاريخ تطوري، وربما يفسر هذا وجود ما لايقل عن 1000 نوع مختلف من مستقبلات الشم، بينما لدينا أربعة أنواع فقط من مستقبلات الضوء، وحوالي أربعة أنواع من مستقبلات اللمس، لذلك تعتبر حاسة الشم مصنع الذاكرة الأول.
عندما جاء رمضان هذا العام، اتفقت بناتي على أنه بلا بهجة، وأن انتظارهن له كان بلا هدف ولا معنى. لم أتصور أن يفقد الصغار أيضاً شعورهن ببهجة رمضان
فقرة إعلانية
ليست فقط تلك الذكريات، لكن هناك ذكريات أخرى أستعيدها عندما أجد نفسي أو بناتي نتابع أحدى الحلقات التي فاتتنا على الهاتف المحمول، أو نتابع مسلسلاً كاملاً على الهاتف المحمول حتى نتجاوز سخافة وطول الإعلانات. عندما كنت في السابعة من عمري تقريباً، أذيع الجزء الأول من "ليالي الحلمية"، وارتبطت بأبطاله وحكايته، وكان يذاع في موعد ثابت تخلو فيه الشوارع من الناس وتلتف الأسر والعائلات حول التلفزيونات الصغيرة لمتابعة حياة هؤلاء الأبطال.
في عام 1988، عُرض الجزء الأول من مسلسل "رأفت الهجان"، ومنذ الحلقة الأولى ارتبطت بذلك الصعلوك الذي يحمل المسلسل اسمه، كما ارتبط به جميع المشاهدين تقريباً بسبب النزعة الوطنية العاطفية في المسلسل. مازلت حتى الآن أذكر مشاهد وحوارات كاملة من المسلسلات القديمة، مازلت أذكر التيترات القديمة بصوت علي الحجار ومحمد الحلو وموسيقى عمار الشريعى، وحتى فونت كتابة أسماء الأبطال، وأذكر منزل أمي وغرفتي والمكتب الصغير الذي كان يستقر فوقه التليفزيون، والملاءات القطنية المزهرة والتشققات بالجدران والأجزاء المتآكلة من السجادة القديمة.
كل هذه الصور القديمة مازالت في ذاكرتي مترابطة مع أغنيات الإعلانات التي لم تكن بهذا الطول كما هي الآن، ولكنها كانت إعلانات سريعة، خفيفة، تعلق بالذهن. مازلت أذكر بانر طارق نور الذي كان عبارة عن نصف وجه بشعر كثيف بالأبيض والأسود، وكانت تنتهي به أغلب الإعلانات، كما أن الإعلانات لم تكن تتخلل المسلسلات لكنها كانت تسبقها مع جملة قصيرة "فقرة إعلانية"، وهي تشبه تنبيه لمن يرغب في النهوض من أمام التليفزيون ولا يرغب في تفويت شيء ما، بالإضافة إلى فقرة "أين تذهب هذا المساء" التي كانت تعلن عن المسرحيات والأفلام التي تعرض في دور السينما.
حيرة الاختيارات متعددة
عندما جاءت الإجازة هذا الصيف، اتفقت بناتي أنهن لا يشعرن ببهجتها وأن انتظارهن لها بلا هدف ولا معنى كبير، بل إن الملل غطى على مشاعر البهجة منذ اليوم الأول في الإجازة.
لم أتصور أن يفقد الصغار أيضاً شعورهن ببهجة الإجازة ويرافقهن الملل منذ اليوم الأول فيها، فالأطفال ما زالوا في مرحلة تكوين الذكريات لا افتقادها، لكنني فوجئت أن هناك ما يفتقدونه أيضاً، وأن كل إجازة أو مناسبة سعيدة مضت بالنسبة لهن أجمل من الوقت الحالي، مهما كان مبهجاً وسعيداً. لا أعرف السبب تماماً، لكن يبدو أنه كلما قلّت الاختيارات كلما قنع الإنسان بما لديه، ألعاب قليلة تعني استمتاعاً أكبر بما هو متاح، حتى الأفلام والمسلسلات وأفلام الكرتون أصبحت بالمئات، ويبدو أن التفافنا حول مسلسل ما وانتظارنا له في موعد محدّد كان جزءاً من شعورنا بالتوحّد والألفة العائلية، عندما كنا ننتظر معا إكمال نفس الحكاية ونحمل معاً نفس الذكريات، بينما الآن كل منا منهمك في البحث عما يناسبه وحده على هاتفه المحمول، ليشاهده وحيداً على سريره قبل النوم، لتترسّخ داخلنا عزلة كبيرة نشعر بها جميعاً داخل البيت الواحد.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...