في بيتها الطيني، عاشت أمينة وحيدةً مع أخيها المريض، تُرزق من بيع الأعشاب والبيض البلدي، لا تبرح بيتها ومزرعتها المفصولين عن العالم بسور طيني وعزلة لاحقتها طوال حياتها.
في طفولتي، كنت أرافق جدتي لبيت أمينة، أراقب هندسة البستان والبيت، أختلس النظر عبر بابٍ موارب، فتقع عينيّ على شاب ممدّد على سرير، بجسد هزيل يوشك على الاختفاء ووجه أبيض لا يرى الشمس، يُبدي ابتسامة باردة حزينة. أرتعش وأشدّ على ثوب جدتي وأستعجلها المغادرة. نعود لبيت جدي الصاخب البهيج، لكنّ سكون الحياة في بيت أمينة وعالمها الأخضر الباهت لم يبرح خيالي، كصورة معتمة للعزلة.
الوِحدة لا ترتبط بالجغرافية، بقدر ما يتعلّق الشعور بها بإحساس المرء بذاته والمحيط، قد تكون وحيداً وسط الحشود، و"كون المرء وحده، لا يجعله وحيداً، كما أن وجوده بين الجموع لا ينفي عنه صفة الوحدة"، كما يقول الفيلسوف الرواقي أبكيتيتوس.
وفي مدينة كالتي أعيش فيها، يزداد شعوري بالوحدة رغم ازدحام الأرصفة والزوايا، محاطة بالبشر أو أكاد ألاصقهم، بيننا خطوط ظننتها زجاجية، وإذ بها من جير وطين. أعود لبيتي، أغلق بابي، ألتفّ حول ذاتي كيرقة تغرق في نسيجها لتنأى بنفسها عن العالم.
في مدينة كالتي أعيش فيها، يزداد شعوري بالوحدة رغم ازدحام الأرصفة والزوايا، محاطة بالبشر أو أكاد ألاصقهم، بيننا خطوط ظننتها زجاجية، وإذ بها من جير وطين. أعود لبيتي، أغلق بابي، ألتفّ حول ذاتي كيرقة
تجربة مُخجلة
يتولد الشعور بالوحدة بسبب غياب أو عدم كفاية القرب، هو تجربة مؤلمة ومخيفة، لذلك فإن البشر يقومون بكل شيء لتجنّبها. هذا التعريف تقدّمه فروم رايشمان، طبيبة ومحللة نفسية ألمانية، تعتبر أن الوحدة في صورتها الجوهرية لها طبيعة صعبة لا يمكن نقلها عبر التعاطف المشترك.
"تجربة مخجلة، لأنها معاكسة للحياة التي كان يفترض أن نعيشها، لذلك فهي تتحول إلى حالة غير مقبولة، فعلٌ محرمٌ يجعل كل من حولنا يغادروننا بسرعة. لا أعلم لماذا يعتقد الناس أن الجحيم هو مكان حارٌ يحترق فيه كل شيء، هذا ليس جحيماً، الجحيم هو أن تكون محاصراً في عزلتك في كتلة من الثلج".
كلام رايشمان ورد في كتاب "المدينة الوحيدة... مغامراتٌ في فنّ البقاء وحيداً"، للكاتبة الأمريكية أوليفيا لاينغ، تحكي فيه تجربتها مع الوحدة، وتجارب أخرى إبداعية لفنانين ومخرجين وكتّاب، كانت الوِحدة ثيمة أعمالهم، وثّقوا فيها المدينة الوحيدة، والمدينة الوحيدة تعبير مجازي يشير إلى حالة العزلة ضمن المدن الكبرى.
تقول لاينغ إن هناك قوة في فكرة الوحدة، المفتاح لفهم ذلك مجرّد النظر خارجاً في أنماط الحياة من خلال اتخاذ وجهة النظر الروحية الداخلية، قوة العزلة كفكرة ليست عديمة الفائدة، بل تمثل الجوهر داخل مانقدرّه وما نحتاجة كبشر. من الوحدة خرجت أشياء كانت بمثابة شفاء وخلاص.
تستحضر الكاتبة تجربة هنري دارجر، حارس مستشفى كان يقطن مأوى في شيكاغو، منعزلاً عن الناس، في كون خيالي مليء بالكائنات المخيفة والرائعة. بعد وفاته اكتشفت مئات اللوحات الفنية المخبأة في غرفته لم يسبق أن عرضها على إنسان. "حياة دارجر تنير القوى الاجتماعية التي تقود العزلة، والطريقة التي يمكن للخيال أن يعمل بها لمقاومتها". تقول لاينغ.
اختراع الأمومة
في جهة أخرى قصيّة من العالم، على سفوح الهيملايا، يعيش شعب "موسو" وحيداً، منغلقاً على تقاليده وأسلوب حياته، لا يسمح لأفراده بالعيش وحيدين، حتى لو كانت الغاية تشكيل عائلة. الـ"موسو" يقدسون العائلة، لكن لديهم مفهوماً مختلفاً في بنائها. يزور الرجل شريكته في بيت أهلها كل ليلة، وعند الإنجاب يعيش الكائن الجديد رفقة أمه وأخواله وجدته. بينما يبقى الأب مع أعمامه وأخواله.
بناء عائلة من أبوين وطفل قرار أناني يخترق نظام المجتمع لديهم، ويمنع الطفل من النشأة في كنف العائلة الكبيرة التي يجلّها أهل موسو، ومن يقرر الانفصال عنها يلفظه الجميع.
ألوذ بوحدتي، كهفي الصغير، حيث لا صوت إلا صوتي. أضع طلاء أظافري الوردي، أحشو الصفحات بينما أتخفّف من أحمالي. بالكتابة أستأنس وأستعيد بعض ذاتي، ثم أخرج، أحتضن طفلي لنذوب مجدّداً في هذا الكون المجنون
أشاهد وثائقياً عن شعب موسو الصيني، وأفكر في أمومتي التي شكّلتها بعيداً في الغربة لتكون رحلتي أصعب ووحدتي أعمق. الوحدة هنا تجعل التجربة اختباراً فوق الاختبار، إعادة بعث وتكوين جديد، أو بتعبير إيمان مرسال: "كان عليّ اختراع أمومتي من البداية، كأنها لم تحدث لأحد من قبلي".
مفهوم الأمومة ومعايشته يغير منطق الحياة والشعور بها، يفجر الكثير من الأسئلة حول الوجود والهوية والذات، أما الأعباء والتفاصيل فهي ثقب أسود يبتلعني، فأغدو بعيدة ووحيدة أكثر، كمسخ كافكا، كغريبة في إحدى لوحات هوبر.
الوحدة كهفي الصغير
منذ أيام قرأت خبراً أن الصين اخترعت أذرعاً روبوتية يمكن للإنسان ارتداؤها ليقوم بالعديد من المهام في ذات الوقت، لا أظن أنني أحتاجها، فذراعيَّ يتسعان للكثير، طفلي وسلة الغسيل وقلقي وقهوتي الباردة.
بحسب علم النفس الأمومي، لا تعيش النساء الشعور الأمومي بنفس الطريقة، هناك تلونات فردية لا حصر لها، لكن ثمة نمطين أساسيين، نمط المرأة التي يوقظها طفلها نحو حياة جديدة دون أن تشعر بالهزيمة، بل تنفتح على مهمتها العاطفية الجديدة بعزيمة.
النمط الآخر هو المرأة التي ترى منذ البداية في علاقتها مع طفلها نوعاً من زوال للشخصية، يصعب عليها مواجهة مهمة عاطفية جديدة، بل تشعر بأن أنَاها قد استُبعد وفُقر.
أجزم أن أغلب الأمهات انصهرت في كليهما. بقدر ما تفيض الأمومة بالعواطف والفخر المستمد من القدرة على التجدّد والخلق. الأمومة ذاتها ترمينا في لحظات كثيرة داخل هوة عميقة من الضياع والوحدة. ستعزّز ذلك الظروف الاجتماعية والثقافية، كالغربة مثالاً.
أمرّ بكل ذلك في أمومتي، أتصالح مع الواقع حيناً، وحيناً آخر يصبح خصمي الأول. وعند لحظة الاستسلام، ألوذ بوحدتي، كهفي الصغير، حيث لا صوت إلا صوتي. أضع طلاء أظافري الوردي، أصحَب قهوتي وجهاز الكمبيوتر، أحشو الصفحات بينما أتخفّف من أحمالي. بالكتابة أستأنس وأستعيد بعض ذاتي، ثم أخرج، أحتضن طفلي لنذوب مجدّداً في هذا الكون المجنون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع