شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
دفاعاً عن الوحدة كمنهج حياتي

دفاعاً عن الوحدة كمنهج حياتي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 31 يناير 202101:26 م

يضطرّ الفرد، بين الحين والآخر، للذهاب مع أشخاص آخرين قد لا يجمعه بهم أي اهتمام مشترك، بل يدفع الهرب من الوحدة بصاحبه في أحيان أخرى للذهاب لأماكن صاخبة حدّ الجنون، لا يحبها، فقط كيلا يمضي وقتاً طويلاً مع ذاته.

ماذا يحدث عندما تبقى وحيداً؟

هذا الأمر يتعلّق بالشخص نفسه، فكيف تستطيع اكتشاف ما تحب أن تقوم به وحدك وتسلية نفسك، وأنت ترفض بالأساس فكرة البقاء وحيداً، وتتجنّب ذلك بالذهاب لمناسبات قد تكون بعيدة كل البعد عن أفكارك وطبيعتك؟

في الفيلم الوثائقي الذي يلقي الضوء على مشاهد من حياة المخرج السينمائي الروسي، أندريه تاركوفسكي Andrei Tarkovsky، وأعماله، "شاعر في السينما، 1983"، من إخراج المخرجة الإيطالية دوناتيلا بايليفو Donatella Baglivo، تطرح تلك المخرجة على تاركوفسكي السؤال التالي:

"أندريه... ماذا تريد أن تخبر جيل الشباب؟".

تاركوفسكي: "لا أعرف، أودّ أن أقول إنه عليهم تعلّم الوحدة، وأن يحاولوا قدر الإمكان تمضية أكبر وقت مع أنفسهم. أعتقد أنه من أحد أخطاء الشباب، في أيامنا هذه، أنهم يحاولون البقاء مجتمعين حول أحداث مزعجة وأحياناً عدوانية بعض الشيء. هذه الرغبة في الاجتماع لتجنّب الوحدة في رأيي هي عَرَض مؤسف. كل شخص عليه تعلّم كيفية إمضاء الوقت مع الذات منذ الطفولة، وهذا لا يعني أنه عليه المعاناة من الوحدة، وإنما لا ينبغي أن يشعر بالملل من نفسه، لأن الأشخاص الذين يشعرون بالملل من أنفسهم يبدو لي أنهم في خطر من وجهة نظر احترام الذات".


أندريه تاركوفسكي هو مخرج وكاتب ومنظّر سينمائي روسي، ولد في 4 نيسان/ أبريل عام 1932، وتوفي في 28 كانون الأول/ ديسمبر عام 1986، وهو ابن الشاعر الروسي أرسيني تاركوفسكي. من أشهر أفلامه "Solaris، 1972"، "Mirror، 1975"، "Stalker، 1979" و"Nostalgia، 1983".

إن تعلّم قضاء الوقت مع الذات ليس بالأمر السيئ، لأنه أحياناً ترى نفسك مرغماً على الذهاب إلى تجمّع ما فقط للهروب من الوحدة، فعندما تبقى وحيداً تجد نفسك تائهاً، لأنك لم تتجرّأ يوماً على التفكير بالأشياء التي تحب أن تقوم بهاً وحيداً

كيف لا يمّل الفرد من قضاء الوقت مع ذاته؟

من وجهة نظر تاركوفسكي، إن على الإنسان أن يعتاد على الوحدة منذ الطفولة ويتعلم كيفية التعامل مع ذلك، وأعتقد أن للعائلة هنا دوراً في ذلك، كتنمية المواهب عند الطفل وتشجيعها. فالإنسان منذ مرحلة الطفولة إلى أن يكبر، يستطيع من خلال هواياته ومواهبه خلق أجواء تساعده ربما على الاستغناء عن محيطه، وإذا أردنا القول هنا، إن الفرد لا يستطيع الاستغناء تماماً عن الالتقاء بالآخرين، سواء أحب ذلك أم لا، فعلى الأقل قد تساعده الأشياء التي يحب القيام بها بنفسه على التخلص من حالة الملل والضجر التي من الممكن أن ترافق الوحدة والعزلة.

أعتقد أن تعلّم قضاء الوقت مع الذات ليس بالأمر السيئ، لأنه في العديد من المناسبات ترى نفسك مرغماً على الذهاب إلى تجمّع ما فقط للهروب من الوحدة، فعندما تبقى وحيداً تجد نفسك تائهاً، لأنك لم تتجرّأ يوماً على التفكير بالأشياء التي تحب أن تقوم بهاً وحيداً، أو لأنك بالأساس مقتنع بأنك عاجز عندما تكون وحيداً. 

في الفيلم الوثائقي المذكور أعلاه، يقول تاركوفسكي كلامه هذا عن الوحدة وهو مستلقٍ على غصن شجرة ضخمة في غابة، متناسياً الكاميرا، ناظراً من حوله إلى جمال الطبيعة وأحياناً ينظر إلى السماء، وكأنه يرسل رسالة إلى المشاهدين. إن أحد الأشياء التي يقوم بها وحيداً هو محاكاة الطبيعة التي ربما تُغني أحياناً عن العديد من التجمعات، فالنظر طويلاً إلى نهر جارٍ، بحيرة أو جبل، والتفكير بعمق بما يحدث معك، ما حدث وما سيحدث، يساعد على ترتيب أفكارك، خاصة إذا كنت تعاني من ضغوط في حياتك. تاركوفسكي حوّل هذه المقابلة إلى مشهد سينمائي واقعي تحفيزي لكل من لا يتجرأ على مواجهة ذاته.

وفي النهاية، عندما يتعرض شخص ما لمشكلة في حياته، أول من يلجأ إليه هو نفسه، ومن ثمّ يشارك مشكلته مع المقرّبين ليسمع نصائح وتعليقات ربما تعجبه وربما لا، وفي نهاية المطاف يأخذ القرار وحيداً. وقد يبدو تعلّم مصاحبة الوحدة شيئاً صعباً، ولكن عندما تفكّر بالأشياء العديدة التي تستطيع القيام بها وحيداً يمكن أن تستشعر بعض الإيجابيات في الوحدة.

مع بداية تفشي كورونا، انعدمت النشاطات الخارجية الجماعية، وأصبح الفرد مجبراً على البقاء وحيداً،  فالذين كانوا على موعد مع الوحدة منذ زمن، لم يتغير عليهم شيء، بل ربما هم أكثر من عاش حياة طبيعية أثناء الوباء

منذ بداية وباء كورونا وتفشيه في جميع أنحاء العالم، انعدمت النشاطات الخارجية الجماعية، وأصبح الفرد مجبراً على البقاء وحيداً، وهنا كانت الصدمة للكثيرين ممن لم يعيشوا مثل هذه التجربة من قبل، أما الذين كانوا على موعد مع الوحدة منذ زمن، لم يتغير عليهم شيء، بل ربما هم أكثر من عاش حياة طبيعية أثناء الوباء، فهم يعرفون كيف يقومون بتسلية أنفسهم، وكانوا يعيشون صراعاً طويلاً مع الوحدة إلى أن عقدوا صداقة معها. الوحدة لا تعني المعاناة عندما لا يُجبَر عليها المرء، وحتى ولو جُبِر عليها، يستطيع التكيف معها، بل وتدفعه للقيام باختيار الأجواء التي تناسب طبيعته أكثر من أي وقت مضى.

مشاهدة مقابلة تاركوفسكي من الفيلم الوثائقي هذا خلال جائحة كورونا، تشجّع الفرد ربما على مواجهة ذاته ومعرفة خباياها، وما أعجبني حقاً في ذلك المشهد، أن فيه دفاعاً عن الوحدة كمنهج حياتي، بل ودعوة مفتوحة لتجريبها، وفتح الباب على مصراعيه أمام الفرد لسبر أغوار نفسه، بعيداً عن تأثير الآخرين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard