شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

قدّم/ ي دعمك!

"وسط البلاد" في بنغازي يلفظ أنفاسه الأخيرة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة نحن والتاريخ

الخميس 4 مايو 202312:17 م

شتّان بين من يصنع التاريخ ومن يهدمه. عبر العصور حفظت الذاكرة الجماعية للشعوب أسماء رجال تركوا إرثاً تاريخياً، إما على شكل مبانٍ وطرقات وإعمار، أو على شكل أثر طيب كعلم نافع وحكمة لا تنتهي. وما يحدث منذ مدة في مدينة بنغازي، تحديداً "وسط البلاد"، هو اغتيال للتاريخ وظلم لأهالي المنطقة الذين أُجبروا على الخروج من منازلهم مرةً سنة 2014، وعندما عادوا إليها وجدوا أنفسهم في مواجهة مع الضياع من جديد.

هذا ما أوضحه منبر المرأة الليبية الذي عبّر عن قلقه بشأن إخلاء المنازل بالقوة من سكانها، وتشريدهم من حي "وسط البلاد" في مدينة بنغازي، وعدّ ما يحدث انتهاكاً واضحاً للحقوق الاجتماعية والاقتصادية وجريمةً ضد الإنسانية بإجبار المواطنين على إخلاء منازلهم من دون إجراءات قانونية مناسبة وتعويضات أو خيارات سكن بديلة، كما ندد المنبر بالاعتداءات الصريحة ضد التراث الثقافي والتاريخي عادّاً إياها جريمةً كبرى.

 كانت هنالك محاولات لمسح المدينة وطمس معالمها  ضمن مشروع ليبيا الغد، لكن السكان نجحوا في الضغط على القذافي ليتراجع عن رأيه

تشريد باسم التطوير

"الوضع أصبح معقّداً ومربكاً إلى أبعد الحدود. لم يعطونا فرصةً لنحزن على ماضينا، لأنهم يهدمون حاضرنا أمامنا الآن"؛ قالت إيناس الفلاح، لرصيف22، وأضافت: "أنا من مواليد منطقة 'وسط البلاد' شارع 'الشويخات' المتفرع من شارع عمرو بن العاص الرئيسي. أبي وأمي من الحي نفسه، فأهل أبي يسكنون فيه منذ عام 1980، وأهل أمي منذ 1969، وجلّ أقاربنا في هذا الحي. نحن ما يقارب 8 عائلات هُجّرت من بيوتها في الثالث من تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، بدافع قيام الحرب داخل الحي السكني".

وتابعت إيناس: "تفاجأنا بأوامر إخلاء الحي السكني من خلال قوة عسكرية، وأعطونا مهلةً لا تتعدى 5 أيام، وقطعوا علينا كل سبل الحياة بفصل الكهرباء والماء ووضع الركام أمام البيوت لإجبار السكان على الخروج، وسلّموا مبالغ للعائلات التي خرجت من مساكنها تتراوح بين 70 ألفاً و100 ألف، علماً أنها مبالغ ضئيلة جداً لا تساوي سعر المنزل، ولا يمكن أن نقتني بها أي نوع من العقارات السكنية في مدينة بنغازي، نظراً إلى ارتفاع الأسعار".

بالجرافة يُغتال التاريخ وتُطمس الهوية

سكان مدينة بنغازي الفخورون بمسقط رأسهم، أغلبهم يعيشون ما تعيشه إيناس، وهو ما يؤكده الناشط المدني جمال الفلاح، الذي تحدث إلى رصيف22، عما يحدث في مدينته، قائلاً: "تُعدّ منطقة وسط البلاد من المناطق التي تمثل الهوية البنغازية بتركيباتها كلها، وهي فسيفساء تعكس عراقة هذه المنطقة التي كان سكانها قديماً خليطاً من عائلات يونانية وإيطالية وليبية".

وتابع جمال: "في عهد الجماهيرية، كانت هنالك محاولات لمسح المدينة وطمس معالمها وبناء أبراج خدمية وفنادق مكانها، ضمن مشروع ليبيا الغد، لكن السكان رفضوا هذا الأمر ونجحوا في الضغط على القذافي ليتراجع عن رأيه إلى حين بدأت عملية الكرامة في بنغازي. وكانت هذه المنطقة ضمن نطاق العمليات العسكرية وتضررت كثيراً، وبعد انتهاء الحرب في 2018، تُركت هذه المنطقة تواجه مصيرها السيئ والمحزن، وتُرك أهلها النازحون من دون أي دعم ولا مساندة".

وأضاف: "تم هدم جزء كبير من المنطقة ومن معالمه وأهمها سينما 'برنيتشي' وشارع عمر المختار الذي أسكن بالقرب منه، برغم أنهما كانا يحتاجان إلى ترميم فحسب".

خبراء الآثار في بنغازي يتفقون مع ما ذهب إليه الفلاح، إذ أكد الأستاذ في قسم الآثار في جامعة بنغازي، والمختص بالمتاحف، عبد الحفيظ المسلاتي، لرصيف22، أن الترميم كان الحل الأنسب في حالة تلك المعالم التاريخية.

وتحسّر المسلاتي، على الوضع الذي وصلت إليه مدينته، وعدّ الهدم كارثةً بالمقاييس كلها وانتهاكاً صارخاً لتاريخ بنغازي وحاضرها. وقال خبير المتاحف والآثار، إن الناس لم تستطِع فعل شيء لأن العملية بدأت في رمضان، وهو شهر للعبادة وليس للتصادم مع المسؤولين.

وبرغم أن الحركة في شهر رمضان تقلّ في جميع الدول الإسلامية، إلا أن هذا لم يمنع نساء بنغازي من النزول إلى الشارع والدفاع عن بيوتهن وتاريخهن، وناشدن السلطات للعودة عن قرارها مذكرين المسؤولين بأنهن لسن مجرد رعية، بل أخوات لهم وأمهات، ويجب عليهم احترام هذه المسيرة السلمية والاستجابة لمطالبهن.

الوضع أصبح معقّداً ومربكاً إلى أبعد الحدود. لم يعطونا فرصةً لنحزن على ماضينا، لأنهم يهدمون حاضرنا أمامنا الآن

بنغازي... 5 أيام قبل أن تُجرف 

لا أحد يعلم ماذا سيحدث بعد أن تمضي المهلة التي حُدّدت بـ5 أيام، وهل سيكون هناك تصعيد وضغط أكبر من الأهالي، خاصةً أن الكثيرين حُرموا من مورد رزقهم، كما أكد أحد المتضررين من سكان الحي القديم لرصيف22، والذي فضّل عدم ذكر اسمه: "لم يخبرونا بموعد الهدم، لكنهم تحدثوا مع أصحاب المحال الغذائية والصيدليات والمخابز وطلبوا منهم أن يفرغوا محالهم. حاولنا التواصل مع البلدية لمعرفة لصالح من هذا الهدم، لنتفاجأ بالرد، وهو أن صاحب المصلحة مجهول".

لا يمكن للإنسان أن يحيا من دون ذاكرة. لصالح من إذاً يستهدفون تاريخ بنغازي؟ ومن المستفيد؟ وهل هي فعلاً قضية أمن قومي كما قال عضو المجلس الأعلى للدولة إبراهيم صهد، الذي استغرب أن الجهة التي تقوم بهدم بنغازي ما زالت تخفي نفسها، الأمر الذي يضيف أبعاداً أخرى إلى "هذه الجريمة"، ويجعلها تتجاوز العبث والاستيلاء على العقارات والأراضي إلى قضية أمن قومي، حسب تعبيره؟

وأضاف صهد: "إن الأمم تحفل لشواهد التاريخ ولمعالم التراث والثقافة فتصونها من العبث وتحفظها للأجيال وتسعى إلى ترميمها إذا ما عدا عليها الزمن لإبقائها على حالتها من دون المساس بشكلها ومضمونها، لكن ما يجري في بنغازي هو اعتداء صارخ يستهدف تاريخ المدينة وتراثها وثقافتها وذكريات أهلها".

التاريخ يباع على قارعة الطريق

مشاهد سريالية وصفها الأهالي بالاستفزازية، كبيع كراسٍ وتحف من المسرح البلدي "سينما برنيتشي"، والكنيسة، ومبنى قصر الجزيرة على قارعة الطريق، والسياج الحديدي الذي يطوق كامل المنطقة، والمباني المتضررة وغيرها. لم يمنعهم العيد ولا المهلة التي وضعوها ليحاصروا البيوت والمباني التاريخية والمحال التجارية.

وبرغم كل الرفض الذي واجه هذا المشروع، إلا أن الأصوات الكثيرة لم تتمكن من إيصال رسالتها وبقيت آلات الهدم متربصةً ومتحفزةً تنتظر الأوامر التي تأتي تدريجياً غير آبهة بأي تنديد، وذلك كله يبررونه بإعادة إعمار البلاد ومحو آثار الحرب.

رواية الجانب الرسمي تختلف تماماً مع ما جاء على لسان المواطنين والمعاناة التي تحدّثوا عنها إلى رصيف22، إذ تبدو بالنسبة لمدير إدارة المشروعات في بلدية بنغازي أسامة الكزة، غير منطقية بما أن ما تقوم به لجنة إعادة الإعمار، خدمة للبلاد كما يقول، وأي مبنى هُدم سيعيدون بناءه بطريقة أفضل! وأكد الكزة، أن المعالم التاريخية التي يفوق عمرها الـ100 سنة، ستُرمم ولن تُهدم مثل قصر المنار الذي كان في أول أيامه قصراً للملك، وأول جامعة ليبية في ما بعد، بالإضافة إلى مبنى المراسم، والسفارة الأمريكية، ومربع مصرف ليبيا المركزي، والبرلمان البرقاوي، وسوق الحوت، فضلاً عن مبانٍ عدة في شارع المختار.

تصريحات تناقض ما يحدث على أرض الواقع، وما يدور في كواليس البلديات. وقد علم رصيف22، من مصادر خاصة في بنغازي، بأن كل المباني ستُهدم وأن الحديث عن الصيانة والترميم مجرد شائعات لتهدئة الشارع لا غير، ولن تفرّق السلطات بين التاريخي والحديث. كما أكدت لنا إيناس، أن هناك خمس عائلات أُخرجت من بيوتها برغم أن حالة المنازل سليمة ومتينة لا تستحق صيانةً ولا بناء.

اغتيال للهوية وتشريد للإنسان

مغالطات كثيرة كشفها رواد التواصل الاجتماعي المستاؤون من مشروع إعادة الإعمار، إذ اتهموا المسؤولين بالانتهاكات والاعتداءات والضرر، خاصةً بعد هدم جزء من مدينة "يوسبريدس"، التي يعود تاريخ تأسيسها إلى الفترة الممتدة من 225 إلى 515 قبل الميلاد، ووجه الناشطون مطالبات لحماية الآثار داعين السلطات للتراجع عن هذه القرارات، كما دعوا الشعب ليقف لتاريخ بلاده.

"مراقبة آثار طرابلس"، بباحثيها وموظفيها، أيضاً لم تقف مكتوفة الأيدي وهي ترى الشق الشرقي من الوطن يتعرض لجريمة طمس معالمه ومحو هويته، وشنوا حملات شرسةً على فيسبوك مناشدين منظمات المجتمع المدني والمواطنين للتدخل، ومنع ما يحدث من تعديات وانتهاكات كما نصت مناشيرهم على المنصات الإلكترونية.

عصر شقيّ تمر به ليبيا الزاخرة بالحضارات والتاريخ، ويبدو أن غول المصالح وقانون القوة لن يكتفيا بتدمير البشر فقط، بل سيمتدان إلى العمق الزمني ليقتصّا من الذاكرة التي تفخر بها هذه الربوع ويقتلعاها من جذورها، ليعيدا تشييدها بمبالغ أكبر، لكن بقيمة أقل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image