لم تنفك تحذيرات مؤسسات رسمية تتوالى في المغرب، بشأن إفلاس صناديق التقاعد، والتي تدعو إلى الإسراع في ورش إصلاح أنظمة التقاعد، والبحث عن حلول عاجلة للحفاظ على استمرارية هذه الصناديق الحيوية وتوازناتها المالية، بعد "فشل" آخر تعديل لأنظمة التقاعد المدنية في عام 2016، مع الحكومة السابقة التي ترأسها حزب العدالة والتنمية (محافظ).
في تقديمها للتقرير الأخير للمجلس الأعلى للحسابات (هيئة رسمية لمراقبة المالية العمومية)، أمام البرلمان في الأسبوع الأول من شهر نيسان/ أبريل الماضي، جددت رئيسة المجلس زينب العدوي، التأكيد على "المخاطر المرتبطة بوضعية أنظمة التقاعد الأساسية، والتي ما زالت تعاني من اختلالات متفاقمة، على ديمومة المنظومة على المدى الطويل وعلى توازن المالية العامة".
لهذا يقتضي الأمر، "الإسراع بحزم ومسؤولية في مواصلة ورش الإصلاح الهيكلي لأنظمة التقاعد، لا سيما في أفق توسيع الانخراط سنة 2025، ليشمل الأشخاص الذين يمارسون عملاً ولا يستفيدون من أي راتب"، وفق العدوي.
تثير التقارير الرسمية ومقترحات إصلاح أنظمة التقاعد في المغرب مخاوف من أن يلقى بكل ثقل الإصلاح على جيوب المتقاعدين والموظفين
وكشف تقرير المجلس الأعلى للحسابات، أن عجز الصندوق المغربي للتقاعد بلغ 5.12 مليار درهم (نحو 500 مليون دولار)، وتراجعت احتياطاته إلى 65.84 ملياراً (6.5 مليارات دولار) بانخفاض يُقدَّر بـ10.7 مليارات درهم، فيما بلغ العجز على مستوى النظام الجماعي لمنح رواتب التقاعد ما يناهز 3.95 مليار درهم، في حين سجل الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عجزاً قدره 400 مليون درهم.
إصلاح لم يضع حداً للاختلالات
يتضحّ جلياً أن الإصلاح الذي شمل صناديق التقاعد مع حكومة عبد الإله بنكيران، قبل نحو 7 سنوات، والذي عمد إلى الزيادة في مساهمات الدولة والموظفين الحكوميين المدنيين والرفع التدريجي لسِنّ الإحالة على المعاش، من 60 إلى 63 عاماً، لم يضع حداً للاختلالات، بل أجّل فقط أفق استدامة أنظمة المعاشات المدنية حتى عام 2028، وفق وزارة الاقتصاد والمالية في الحكومة الحالية بقيادة حزب التجمع الوطني للأحرار (ليبرالي).
وكشفت الوزارة، أن "احتياطات نظام المعاشات المدنية (70 مليار درهم)، بعد الإصلاح الذي عرفه سنة 2016، ستنفد بحلول سنة 2028"، مضيفةً أنه "للوفاء بالتزاماته بعد ذلك سيحتاج الصندوق المغربي للتقاعد ما يناهز 14 مليار درهم سنوياً لتمويل عجز النظام".
لذلك، تسعى الحكومة اليوم إلى البحث عن حلول عاجلة للحفاظ على استمرارية هذه الصناديق الحيوية وتوازناتها المالية، إذ تراهن على إغلاق هذا الملف "الشائك" قبل أيلول/ سبتمبر المقبل على أبعد تقدير، فيما فتحت باب الحوار مع المركزيات النقابية والاتحاد العام لمقاولات المغرب (تنظيم لأصحاب الشركات الكبرى).
الإصلاح السابق لم يضع حداً للاختلالات، بل أجّل فقط أفق استدامة أنظمة المعاشات المدنية حتى عام 2028
في خضمّ ذلك، تأمل الحكومة التوصل عبر هذه المفاوضات مع الشركاء الاجتماعيين إلى إصلاح لنظام المعاشات يغطّي الثلاثين أو الأربعين عاماً المقبلة، فيما قدّمت مقترحات للحلّ لا تخرج عن رفع سن التقاعد وزيادة نسبة الاقتطاعات في الدرجة الأولى، وهو ما يؤكد على هاجس حكومي للحفاظ على توازن الصناديق من دون اللجوء إلى ميزانية الدولة.
الأُجراء أكبر المتضررين
يرى مرصد العمل الحكومي (منظمة غير حكومية)، أن "الحكومة تعتمد مقاربةً إصلاحيةً ذات اتجاه واحد بإجراءات ثلاثية؛ هي رفع سن التقاعد، وخفض تعويضات التقاعد، ثم الرفع من قيمة الاشتراكات"، مبرزاً أن "مسؤولية وأثر هذه الإجراءات تقع بشكل كلي على الأُجراء، من دون تحمل الدولة لمسؤوليتها في ما يتعلق بالاختلالات البنيوية التي تسبّبت فيها طوال عقود من الزمن".
وأوضح مدير المرصد، محمد جدري، في حديثه إلى رصيف22، أنه "منذ 1959 إلى سنة 1997، لم تكن الدولة تؤدي نسبتها من الانخراط كمشغّل، وهو ما ضيّع على هذه الصناديق مردوديّةً كان بالإمكان ربحها، وتُقدّر بأكثر من 25 مليار درهم، زيادةً على أن الصناديق عرفت مجموعةً من الاختلاسات".
كما لفت جدري، إلى "غياب البعد التواصلي للحكومة بشأن إصلاح صناديق التقاعد، إذ حصرت النقاش داخل جلسات الحوار الاجتماعي، في تغييب غير مبرر للنقاش المجتمعي بخصوص هذا الملف الإستراتيجي والمصيري لفئة واسعة من المجتمع المغربي، بالإضافة إلى تستّرها غير المبرّر على نتائج دراسة أنجزها مكتب دراسات حول إصلاح أنظمة التقاعد".
حصرت الحكومة النقاش داخل جلسات الحوار الاجتماعي، في تغييب غير مبرر للنقاش المجتمعي بخصوص هذا الملف الإستراتيجي والمصيري لفئة واسعة من المجتمع المغربي
تسريب بعض مقترحات هذه الدراسات، في شباط/ فبراير الماضي، خلق جدلاً واسعاً، إذ حثت الدراسة التي أُنجزت بطلب من الحكومة المغربية، على رفع سن التقاعد إلى 65 سنةً في القطاعين العام والخاص، بالإضافة إلى زيادة نسبة الاشتراكات في صناديق التقاعد.
الحلول... ترقيعية
يقول الكاتب العام للمنظمة الديمقراطية للشغل، علي لطفي، إن "نتائج هذه الدراسة المستنسخة، قدّمت نفس الحلول الترقيعية المقياسية نفسها، بعدما خلصت في أغلبها إلى التشخيص نفسه ولأسباب العجز عينها، من دون تقديم معطيات حقيقية عن أسباب العجز وشبح الإفلاس".
يضيف لطفي، في تصريحه لرصيف22، أن نتائج الدراسة "لم تقدّم أي معطيات حقيقية عن مُدّخرات صناديق التقاعد، ولا الحكامة المالية، ولا التفاوتات النظامية والفوارق بين التوزيع والرسملة، ولا العامل الديمغرافي، ولا الديون المستحقة والفوائد على الدولة والمؤسسات العمومية".
لهذا، يؤكد لطفي أن الحكومة "ستتجه كعادتها إلى جيوب الموظفين في المؤسسات العمومية والجماعات الترابية والمستخدمين في القطاع الخاص، من خلال مشروع إصلاح مقياسي لبعض صناديق التقاعد المفلسة؛ إذ سترفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، وترفع من نسبة المساهمات مع الإبقاء على قيمة تقاعد هزيلة"، مضيفاً أن "جهود إصلاح المعاشات المدنية في المغرب محدودة النتائج في ضمان الاستدامة والكرامة، لكونها مجزّأةً وغير متكافئة وغير عادلة وهشة".
المطلوب إصلاح هيكلي وشمولي
يدعو الفاعل النقابي، إلى أن "تقوم الحكومة بإصلاح هيكلي وشمولي لمنظومة التقاعد في المغرب، للحدّ من اختلالات التوازنات وتعزيز الاستدامة المالية، والحدّ من التشوهات والامتيازات والرّيع والصناديق السوداء والفساد، وغياب آليات لتدبير المخاطر ولحفظ كرامة عيش المتقاعدين وذوي حقوقهم".
على هذا الأساس، "طالبنا بتجميع صناديق التقاعد في صندوقين واحد عام وآخر خاص في أفق توحيدهما في صندوق واحد وبنظام معاشات موحد، إلى جانب إحداث مناصب عمل سنوية في الميزانية لتعويض ارتفاع عدد الموظفين والمستخدمين المحالين على التقاعد"، يردف المتحدث ذاته.
وأفادت مذكرة إخبارية للمندوبية السامية للتخطيط (هيئة رسمية)، صدرت بداية الشهر الحالي، بارتفاع حجم العاطلين في المغرب بـ83 ألف شخص ما بين الفصل الأول من سنة 2022، والفصل نفسه من السنة الجارية، إذ انتقل عدد العاطلين من مليون و446 ألفاً إلى مليون و549 ألف عاطل؛ وهو ما يعادل ارتفاعاً قدره 6 في المئة.
أزمة نسبية
يرى عضو اللجنة الفنية السابقة لإصلاح التقاعد، محمد الهاكش، أنه "تجب معالجة إشكالية البطالة من أجل رفع عدد الناشطين، لكي يُتجاوز هذا الوضع الذي تعانيه صناديق التقاعد في المغرب، خصوصاً أن نسبة الناشطين المنخرطين في صناديق التقاعد في تناقص مستمر".
"في نظري الأزمة نسبية، وإمكانية تجاوزها تكمن في الوقوف على مكامن الضعف في التدبير واسترجاع المستحقات التي في ذمة الدولة بالنسبة إلى الصندوق المغربي للتقاعد، والعمل على إقرار حصّة المشغل التي تساوي في جميع الأنظمة ضعف مساهمة الموظف، وتوظيف مدّخرات الصندوق بشكل ناجع (وهذا الموضوع يجب طرحه على مستوى الصناديق كلها)"، يقول الهاكش، لرصيف22.
تابع المصدر ذاته، "بالنسبة إلى صندوق الضمان الاجتماعي، الذي كان في الماضي صندوقاً أسود، والذي اكتشفت اللجنة البرلمانية إهدار 115 مليار درهم منه، فمعالجة هذه المشكلة لم تكن في مستوى الانتظارات؛ لأنه حُكم على المسؤول الأول بـ4 سنوات سجناً مع مطالبته باسترداد ما مجموعه مبلغ لا يتجاوز الـ40 ملياراً (من دون معرفة هل استرجع المبلغ فعلياً)".
وخلص محمد الهاكش، إلى أن "ناقوس الخطر بخصوص صناديق التقاعد سيظل يدقّ ما لم يتم الوقوف على الأسباب الحقيقية التي أوصلتنا إلى هذا الوضع، والمسؤولون هم المسؤولون عن القطاع تحت إشراف الدولة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...