شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!

"الناس مستنية الشمس تشرق وأنا مستنيها تغيب"… أغاني الفناء والإرادة في ألبوم "فاعل"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 20 مايو 202301:44 م

يبتكر المؤلف والموسيقي السوري، يزن الأصلي، في ألبومه متعدد الوسائط بعنوان "فاعل" عالماً فنياً يمكنه التعبير فيه عن موضوعات وجودية مثل الحياة، الموت، والإرادة، بالتداخل مع أسئلة الراهن السياسي والاجتماعي السوري كالغربة عن الوطن والذات وتجربة المنفى.


الفنان الذي بدأ مسيرته الموسيقية بأغنيات تتساءل عن دور الفن والموسيقى في الحياة الإنسانية منها "أنا والفن" (2012) و"لأجل حب الموسيقى" (2012)، ومع أغنية "خط أحمر"(2013) انتقل إلى معالجة موضوعات الراهن السياسي والاجتماعي السوري، منتقداً السلاح، التطرف الديني، وغياب حرية التعبير:

"وطني انباع لتاجر سلاح متنكر بلحية مجاهد

شعب قطع لسانو اذا عبر".

عن حرية التعبير

أما في ألبومه الأخير بعنوان "فاعل" فهو يبرهن على قدرة الأنواع الموسيقية الغنائية مثل الراب والهيب هوب على مقاربة الموضوعات الفلسفية الوجودية بالإضافة إلى الموضوعات السياسية والاجتماعية التي يتميز بها الراب، فيوضح النص المرافق لتقديم الألبوم: "تجارب مستمرة في التغيير بالابتكار، الخلق و الاقتباس لمراحل الغربة عن الأرض و الذات، حفاظاً على الاختلاف".

يبتكر المؤلف والموسيقي السوري، يزن الأصلي، في ألبومه متعدد الوسائط بعنوان "فاعل" عالماً فنياً يمكنه التعبير فيه عن موضوعات وجودية مثل الحياة، الموت، والإرادة، بالتداخل مع أسئلة الراهن السياسي والاجتماعي السوري 

لذلك، فتكثف كلمات بعض الأغنيات الدعوة إلى التحرر من القيود المفروضة نفسياً، اقتصادياً، سياسياً، ودينياً، على التجربة الإنسانية عموماً والسورية خصوصاً، حيث يقول في أغنية "فاعل":

"لتقطع الطريق تخلّى عن المخاوف

لتوصل الحسم تخلى عن المصارف

لتركع الله تخلى عن الطوايف

لتوحد ذاتك استجمع العواطف".

قصص البدايات والنهايات بين الموت والعبور

يتألف الألبوم من 8 مسارات؛ يحمل المسار الأول عنوان "كعب واصبع" ، وهي أغنية تمزج نوعي الهيب هوب مع الدرام أند بيز، لتنطلق معها الكلمات الأولى في الألبوم والمرتبطة بمفاهيم مثل البداية والنهاية، في كناية عن جدلية الوجود الإنساني وحتمية نهائية الكون:

"عشقي للبدايات، كرهي للنهايات

واللي فيها من قطف من إلمام بكل صنف

عشقي للبدايات، كرهي للنهايات

واللي فيها من قطف من إلمام بكل صنف".

البداية الفلسفية للأغنية ما تلبث أن ترتبط بالراهن السياسي السوري، فالكاتب يرصف القوافي، يدافع عن وطن، ويعي واقعه التراجيدي الممتد من الماضي إلى الأن:

"رسم رصف قوافي براسي بشكل تجريدي

ماني ابن زهد ولا حبيت الحياة رغيدة

وإذا كان إلي وطن ما بدافع عنه بتغريدة

تراجيدي، تصعيد للماض بشكل تدريجي".

أغاني وأوركسترا الموت والطفولة

حضر الموت في الإبداع الفني السوري المعاصر مع انتشار العنف ثم الحرب، وحتمية عبور البحر في قوارب الموت، لكن حلم النجاة هنا ليست إلا حبكة مكرورة، فمحاولة النجاة تعيد إلى احتمال الموت مجدداً، فهذا العبور الإنساني يماثل هجرات الحيوان، حيث التضحية والموت والفقدان بالأهل والأصدقاء مصير حتمي للعبور:

"بتدور الدفة، أخوه وراه ثاني إبرة وشكة

الجرعة الزايدة غير من الموت ما بتشكي

بزته للبحر عين تضحك عين تبكي

والبلاغ على موته باسم فاعل خير

ومافي حبكة

ماتوا أبطال القصة وبقيت ذكرة

مستنية بكرى، أملها بكرها

توتة توتة والحدتوتة...".


تذكرنا صور الغرق، الموت والطفولة بـ"أناشيد الأطفال الميتين، 1904" وهي مجموعة الأغاني لغناء وأوركسترا، لحنها الموسيقي غوستاف ماهلر عن قصائد للشاعر فريدريش روكورت، الذي كان كتبها متأثراً بموت أطفال من أسرته، وهي من أبرز الأعمال الغنائية المعبرة عن حزن البشر أمام الموت، والشعور بالعجز والخواء. هذا ما سعى إليه الموسيقي في التوزيع الأوركسترالي.

يكتب الناقد إبراهيم العريس عنه في كتابه "ألف عام من الموسيقى": "الموسيقى صماء حيناً، وحادة في أحيان أخرى، وبالتالي قادرة، حتى أكثر من الصوت البشري المنفرد الذي يغني في التعبير عن أقصى درجات الحزن واليأس". وهنا قد يكون مفيداً ذكر عناوين الأغاني لما تحمله من دلالات حسية: "وبعد، هل يشرق الفجر في يوم جديد؟!"، "أنا أعرف لماذا أرواحكم تعيش كل هذا الحزن"، "حين تعيش الأم في حدادها"، "آه كم أحلم بأننا معاً"، وأخيراً "عبر هذه العاصفة". والأغنية الأخيرة تذكرنا بعواصف بحار قوارب الموت في التاريخ الراهن.

المنفي في صحراء الترهيب والتعذيب والعشق المحرم

المسار الثاني "وعيد"، يقدمها المؤلف باعتبارها تجسد الشروط المفروضة على الإنسان، ومحاولاته المستمرة لمقاومتها، فيكتب: "سرد لمحاولات الفرض و رفضه بتكرار مستمر و إغراءات تحسمها الكلمة بتصعيد موسيقي لخلق مساحة حتى الوصول للذروة". وعلى إيقاع وصوتيات هيب هوب/تيكنيكال ديث ميتال، تلعب الكلمات على تناقضات الأمل واليأس، الشروق والغروب، والتناقض بين الطفولة والوعي بحضور الرقيب:

"وعيد

غداً لناظره قريب

الناس مستنية الشمس تشرق

وأنا مستنيها تغيب

من الطفولة بضحك ع عتيد ورقيب".

تعود موضوعة معاناة الشعب الذي يتغرب عن أرضه، ويكبر أبناؤه في أماكن متنقلة أو غير مأهولة. يروي المؤلف عن اللاجئ الذي يتربى في مجمع سكني في الصحراء، بما يخالف قيمه وأفكاره. هذه الخسارة للذات تحول الشاب إلى عنيف في مجتمع يفرض عليه الطائفة واللون، ويفرض على أي متمرد شتى أنواع التعذيب المعروفة، والمستعملة من قبل السلطة:

"كبر سنتين بأرض المفروض إنها وطن

تغرب اثنين كمان

بمجمع سكني بنص الصحرا يا مان

أمه خارج المجمع لازم تلبس حجاب فانفصم

احتقن الغضب جواته

قبل ما يتغرب للمرة الثانية حرق بيته"

.....

كان غرقان بين مليون طايفة ولون

بيدعوا الولاء والإيمان

تفرد بأنواع التعذيب مغطينه برمل الصحرا

يكون العرص ابن سلطة واللي حاميته شرطة".

المسار الثالث بعنوان "رواه فواز" وهو عبارة عن سرد بصوت طفلة، ترافقها موسيقى من نوع آمبينت محيطي. تروي الطفلة أسطورة أو حكاية تفسر سبب تحول الشيطان إلى الشر، تمتد لدقيقة ونصف. تليها "جنية"، وهي أكثر الأغاني ذاتيةً تمزج في أسلوبها الموسيقي بين الهيب هوب والتِكنو ، يقدمها المؤلف بالعبارة التالية: "الأسف لما تم من قرار، خيار في سبيل السلطة وانتصار لها في هلوسات العبث". تظهر وكأنها تروي الحالة الذهنية والنفسية التي تصل حد العصابية، تلك التي يعاني منها الراوي-المغني نفسه:

"أقراص مدمجة

أقراص مثبطة، مبنجة، منشطة لحالات

بتفك أعصاب مشنجة

احتقان العصب بسبب توتر

حقنة عضل عند أول دكتور

أظافر بتشق خدود

شفرة تشق جلدة مقياس للوجود".

وتنتقل أغنية "جنية" في قسمها الثاني لتروي علاقة مع امرأة، أو حالة تلاعُب على العادات والتقاليد من أجل الحصول على فسحة من التواصل الجنسي، حيث يتحول الشرف إلى مسرحية لا يتقنها إلا الرجال، وتصبح الخيارات المعروفة عند شباب المجتمعات المقموعة إما زواجاً عرفياً أو عمليةَ تخييطٍ لغشاء البكارة:

"تركتلي بآخر الرسالة وصية

الشرف مسرحية أبطالها بيحاربوا ذكورية

تحسبش قديش ضل لأن راح كتير

وارتاحت هي

أنا جنس مش هوية جنسية

ساعي لاستقرار بنفسي

ساعات بحكي حالي، ساعات بمشي عكسي

سلاسل بتدورني، والثبات أنا على كرسي

زواج متعة ولا عرفي

خيطلك ولا حبلة (هبلة)

قَلّي إنه بيحبني و بينطنط ع حبلين".

حتمية العبث والموت ومحاولات الاستمرار

يتضمن المسار الرابع بعنوان "استمرار" موضوعات تتعلق بالحياة، بالخلود، بالفاعلية والإرادة الإنسانية، على نمط موسيقى الدب ستيب/تشيب تون (chiptune). يقدم المؤلف أغنيته بالعبارة التالية: "حتى لمن أراد الخلود صديق، وما رافق الموت إلا فاعله، ولمن أرادوا الحياة التجربة".

أما المنطوقات الأولى في الأغنية فهي اقتباسات من سورة "الشعراء" في القران، والتي تبين قدرة الله في منح الحياة وإيقاع الموت على الإنسان، لتبين كلمات المؤلف تالياً حتمية وقوع الموت؛ الموت حق وحقيقة مهما تعددت الأسباب المصيرية لوقوعه:

"الموت قادم لا محالة

علينا حق وحقيقته غفلة بل نذالة

فعل ناقص والفاعل غائب ما زال".

في تاريخ الحضارة الإنسانية عُرفت المحاولات الإنسانية للالتفات على حتمية الموت، تلك المخاوف التي أدت به إلى ابتكار الديانات والعالم الآخر، لكن الأغنية تركز على طروحات الفكر الجهادي، الذي يركز عقل الإنسان فيه على المغانم والمكاسب التي سيحصل عليها عند التضحية بحياته، بينما يؤكد النص أن السعي نحو الحياة والسعي نحو الموت متلازمان:

"تفكيك سلالة وجوده وعدمه

استشهاد بآيات جهاد والترغيب بجنة عدنه

جشع بذهب أسود ليبني الملح مدنه

والساعي نحو الحياة برجله دفنه ردمه".

وفي الفقرة الأخيرة من هذه الأغنية التي تتركز فيها المفاهيم الأساسية للألبوم، وعلى عكس ما هو مكرس في الأدب الوجودي أو العبثي، حيث الحياة هي الموصوفة بالعبثية، فإن المؤلف هنا أراد أن يوصف الموت بالعبث، في محاولة شعرية فلسفية للتفكير بالموت من عالم الوجود:

"عالم بمعرفة دون بصيرة علمه كمنه

كمن وجوده كما عدمه

كمن وجوده عدمه

كجودة الدفن ما بتعطي الميت ثمنه

كالموت عبث

كالموت عبث، كل موت عبث".

المسار الأخير الذي يحمل الألبوم عنوانه (فاعل)، ينتمي إلى نوع هيب هوب الغنائي، والنص يتضمن ما يشبه الأمثولة النهائية التي يحملها الألبوم؛ إنها فكرة فاعلية الإنسان في محاولة رسم مصيره. يضع مؤلف الأغنية الإرادةَ الإنسانية في مقابلة مع موضوعة الموت التي وصفها طويلاً في الأغنيات السابقة؛ فالفاعلية هنا ليست بالضرورة مبنية على البراهين الملموسة، بل على الفكر الذي نظّر عنه الفلاسفة الوجوديون، حيث إرادة الفرد فاعلة يومياً، ولحظياً، في رسم مصير ذاته النهائي. فالمبالغة الشعرية في الكلمات بأن الإرداة الإنسانية قادرة التحكم بالشمس مثلاً، هي استمرارية لمعالجة فكرية شعرية لموضوعة الموت في الألبوم، ويبلغ التماهي أعلاه بين الفكر الوجودي عن الحرية وبين كلمات الأغنية في اللحظة التي يجسد فيها اللحن الموسيقي نشوةَ القشعريرة المرتبطة بالحرية:

"الشمس ما بتشرق، إنت بتدورها

الشمس ما بتشرق، إنت فاعل

الشمس ما بتشرق، إنت بتدورها

شيطان بيضحك ملاك متقبل عورة

نشوة قشعريرة وقت الحرية تكون ذروة".

شخصيات العبث والقلق وموسيقى الوجود

تلازم موضوعات الوجود والحياة والموت في هذا العمل الموسيقي، يذكرنا بالدور الذي أناطه الأدباء الوجوديون إلى الموسيقى، فالشخصيات الأدبية الوجودية والتي تعاني في عجزها عن إدارك الواقع، أو شعورها الكلي باللانتماء أو بالخواء، كما هي شخصيات روكنتان، في رواية "الغثيان" لجان بول سارتر، أو ستيفن وولف، في رواية "ذئب السهوب" لهرمان هسه.

تلازم موضوعات الوجود والحياة والموت في هذا العمل الموسيقي، يذكرنا بالدور الذي أناطه الأدباء الوجوديون إلى الموسيقى، فالشخصيات الأدبية الوجودية والتي تعاني في عجزها عن إدارك الواقع، أو شعورها الكلي باللانتماء أو بالخواء

وبرغم عمق الشعور بالقلق الوجودي الذي تعيشه على طول مسيرتها، إلا أن الموسيقى غالباً ما لعبت دوراً مصيرياً في حياة هذه الشخصياتة فهذه الروايات تمنح الموسيقى دوراً في إعادة الانفتاح والتفاعل بين الوجدان الإنساني وبين وجود الكون من حوله.

في رواية "الغثيان" يستعيد روكنتان علاقته بالوجود حين ينصت إلى أسطوانة من موسيقى الجاز: "شعرت حين ملأ صوتها ذلك السكون، بأن جسدي بدأ يتصلب، وأن الغثيان بدأ يختفي، وفجأة أحسست بأن كوني على مثل هذه الصلابة، هذا الإشعاع، أمر لا يحتمل، كنت 'في' الموسيقى، وكانت هناك دوائر من النار تحيط بها حلقات من الدخان". أما ستيفن وولف في رواية "ذئب السهوب" فيكتب كولن ويسلون: "ستيفن وولف تؤثر فيه الموسيقى أو الشعر وتجعله يحس فجأة بالتوافق والكمال. ستيفن وولف المتضايق المستثار المريض يتراوح بين عالم الفن والموسيقى والمتعة العقلية، عالم الأشياء العقلية والعمل المضني والكآبة. ولكن، أين يلتقي هذان العالمان يا ترى؟ إن بعض الناس يشعرون بهذا العالم الأول، عالم التوافق في الفن أو في الطبيعة، ونحن ندعو هؤلاء الناس حساسين أو فنانين".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image