من له الحق في تقييم الأم وما إذا كانت جيدةً مع أطفالها، لا سيّما بناتها، أم لا، في عالمنا العربي المليء بالأفكار المشوهة والمريضة؟ من له الحق في تقرير أنني كأمّ "أُمَّة أو أَمَة"؟
مع يقيني بأن جميع الأمهات يحتجنَ إلى تعلّم أساليب التربية الناجحة، وتقويم السلوك قبل أن يصبحن مسؤولات عن تقويم سلوك الأطفال، إلا أنني أعرف قطعاً أنَّ الحكم على أمومة تلك التي تعبت بالحمل، والولادة والتربية، بغض النظر عن العادات الفردية التي تميّز كل أسرة عن غيرها، بالفشل والنجاح، ليس من عمل المشايخ والشيخات. وصار هذا السؤال يدور في رأسي دائماً كلما صادفت واحدةً من القبيسيات: كيف لإحداهنَّ أن تعبث بحياة الفتاة التي توصي نفسها عليها إلى الحد الذي يجعلها تقنع الفتاة بأن أمَّها غير جديرة بالأمومة، وبأنها فاسدة المنشأ والطريق؟ توصي نفسها عليها، ربما ليس تحت التهديد، ولكن بمذهب الترغيب والترهيب بأنَّ الطريق الصواب لا يكون إلا على يد الشيخة ذات المنهج الديني الراسخ؛ فتصير أهمّ من الأم والأب، والأخت والمعلمة، ليصبح الدين بذلك شماعةً لتعليق كل ما يشتهونه عليها. كيف يفعلون ذلك بحنكةٍ وخبث؟
يظن البعض أن فهم الدين عن طريق رجاله هو الطريق الأضمن والأسهل للوصول إلى الصواب، لكن أن يتحول ذلك إلى بذل المُريد كل حياته خدمةً لرجال الدين وهذا أمر يشذّ عن أي غاية نبيلة مهما كانت، بل إلى عبودية بمسميّات مُغيِّبة للعقل، وهذا ما حدث معي، حيث أني لم أعِش طفولتي في جوّ عائلي، بل في مفارقة تفوق عفوية تصرفاتي وبراءة عقلي؛ فأهل أمي كانوا ولا يزالون متشددين دينياً بطريقة خانقة وفظّة حتّى أنني أذكر تعرضي للتنمر وأنا في عمر الثانية عشرة من أحد أخوالي لأن والدي توفي، ومن الواضح أن خالي رأى في هذه المأساة فرصةً لإظهار ما كتمه منذ سنين. أما أهل والدي فلم يعطوني أي اهتمام يُذكر بعد وفاة والدي ولا أستطيع أن أقول إنهم ملتزمون دينياً. ولأنني كنت قريبةً من أمي فقد تأثرت بها إلى درجة كبيرة مع أنها لم تكن متشددةً دينياً، ولأكون صريحةً، كانت أمي قد منعتني من وضع الحجاب مرات عديدةً؛ ربما لم ترِد أن أعيد قصتها وأن أضع الحجاب تحت تأثير سحر كان مفروضاً عليّ، وهو الالتزام مع المشايخ.
في منزل الشيخة، تعرفت إلى فتاتين كانتا تقدسان الشيخة وتخدمانها في بيتها الفخم الكبير. كانت الفتيات هناك مسحورات تماماً، وكنَّ مستعدات للبكاء إذا ما قامت بمدحهن أو إن دعت لهنَّ
لم يكن الموضوع سهلاً، وكان يمكن أن أختار الجانب الذي يناسبني آنذاك، واختيار جانب بالنسبة لي كان ضرورياً من أجل تحسين صورتي لدى جانب واحد على الأقل من عائلتي؛ كم كنت أتوق إلى هذا. ظننت أنني محظوظة كوني أمتلك الفرصة كي أختار، وسرعان ما اكتشفت سذاجتي، فقد كنت على خلاف دائم مع والدتي بسبب العديد من الأمور التي لا تمتُّ إلى الدين بصلة، ولكننا عشنا منفصلتَين لفترة طويلة جداً بسبب تأثرها النفسي القوي بصدمة وفاة والدي، وحينها نصحها إخوتها بأن تضعني في بيت شيخة معروفة جداً (ص. ك.)، كمحاولة لإعادة تهذيبي؛ فبنظرهم الدين وحده قادر على تقويم سلوكي الذي كان في حقيقته طفولةً طبيعيةً يمرّ فيها أي مراهق.
بدأت أمي بأخذي في زيارات قصيرة إلى مزرعة هذه الشيخة، وكنت حقاً متعجبةً من أنها كانت تسمح لي وللبنات الأخريات -فقد كنا كثيراتٍ بحق- بارتداء أزياء السباحة التي نريدها مع وجود رجال أعمال الصيانة والبستنة، والأغرب أننا كنّا مجموعةً من بنات العوائل الثرية نسبياً، ولطالما لاحظت أنّ أغلب من يحاوط المشايخ نوعاً ما، هم الأشخاص المتعثرون مالياً، حيث أننا كبشر نبحث عن الأمان بأي وجهٍ كان أو صورة، ولم أكن أهتم لهذا على الإطلاق، لكن ولأنني كنت طفلةً اجتماعيةً تحب تكوين العلاقات، فقد أثار اهتمامي.
لم تكن حولي سوى مظاهر الثراء، مع أنني لاحظت ولمرات عديدة فتيات "البواب" يسترقن النظر إلينا ونحن نلعب، وكان كل ما سبق، بالإضافة إلى فضولي وكثرة أسئلتي، قد أوصلني إلى نقاش عن الحشمة مع الشيخة، ظناً مني بأنَّ أفعالها تطابق معتقداتها، لكنني وجدتها تُكَفِّر وتفتي في هذا الخصوص بأنَّ تلك طريقة تحبيب وطريقة ممنهجة تأتي فيها الخطوة تلو الأخرى، ولا بأس ببعض التساهلات أحياناً بغرض جذب الانتباه وإثارة الاهتمام، فقلت لها من دون تفكير إنه "من حقي ارتداء ما يناسبني من دون أن أتعرض لأي نوع من أنواع التحرش، فالشخص الذي تسوّل له نفسه أن يتحرش بي هو مجرم بالقطع!".
حينها، أجابتني بذكر المثال المطروق عن الحلوى المكشوفة، وأن الرجال لا تستهويهم هذه الأصناف من النساء! سرعان ما ضحكت ورددت على الفور بأنني موافقة على تشبيهي بصنف من أصناف الطعام، ولكن هل من الطبيعي أن يكون الرجل ذبابةً؟
كنت في السادسة عشر من عمري، ولهذا أظنها شعرت بالإهانة من جوابي هذا. حدة الصمت كانت أشد من حدة السكّين. بعد ذلك طلبت مني المبيت عندها لمدة شهر، فأعطتها أمي الموافقة على الفور واعتقَدَت أن وعد خالاتي تحقق، فسلوكي سيتحسن وأفكاري الغريبة عنها ستُمحى، ولم تكن مشكلة بالنسبة لي، فبالفعل كنت أبحث عن قالب يحتويني، فبهذه الطريقة سوف يتقبلونني، أو هكذا اعتقدت.
أوصلتني خالتي إلى منزل الشيخة، ولم أتعجب كثيراً عندما دخلت ذلك القصر المؤلّف من ثلاثة طوابق. فمزرعتها كانت مثالاً مصغراً عمّا سأراه معها. تعرفت إلى فتاتين ظننتهما مقيمتين في منزلها في البداية. كانتا تقدسان الشيخة وتخدمانها في بيتها الفخم الكبير الذي يخلو من الخدم. كانت الفتيات في بيتها مسحورات تماماً، وكنَّ مستعدات للبكاء إذا ما قامت بمدحهن أو إن دعت لهنَّ. في جميع الأحوال، اكتشفت أنهنَّ فتيات عزبات يتناوبن على خدمتها وأحياناً يتشاجرن حول من الأحق منهن في أداء هذه الخدمة. كنَّ كثيرات، وأكبر مني سنّاً بشيء بسيط، حتى أنني سمعت نميمتهنَّ عن أن الشيخة لا تريد لإيناس أن تتزوج، بعد أن تقدّم لها من كانت تحبّ، وبالطبع إيناس استجابت، بل إن الطريقة التي استجابت بها كانت مرعبةً. لم ترمش حتى، بل قالت سمعاً وطاعة، وكانت سعيدةً لأنّ الشيخة تريدها بالقرب منها.
تسللت إلى الطابق السفلي، وفجأةً ظهرت الشيخة من خلفي. أخذت السيجارة مني وأطفأتها في فخذي، نظرت إليَّ وبابتسامة خبيثة قالت: "إن كنتِ لا تستطيعين تحمّل هذا الحرق الصغير، فكيف لكِ بتحمّل نار الآخرة العظيمة؟"
بدأ الخوف يتملّكني، فتلك الشيخة كانت تطلب مني الصلاة وتجلس لتراقبني من كثب، وكانت دائماً تقول لي إن صلاتي خطأ وتحتاج إلى الكثير ولكنها لم تقل لي ما الخطأ ولا مرة واحدة، وعندما كنت أسأل، كانت تجيبني بأن أهدأ وأتروّى فالمسمار البارز مصيره الطرق، وعندما ضقت ذرعاً وبدأت بالتمهيد لأمي عن رغبتي في العودة، عَرِفَتْ على الفور، وفي اليوم التالي أول ما حدث بعد جلسة الموعظة ظهراً، هو مصادرة هاتفي من قبل الشيخة، التي قالت إن مجتمعي بأكمله فاسد بدءاً من أولئك الذين ربوني وصولاً إلى كل من أعرفهم من أصدقاء، ومنعتني من أي طريقة تواصل مع العالم الخارجي.
لم أقوَ يوماً على الاعتراض، فقد كنت أخاف من نظرتها، وأخاف من هذا المكان الذي إن عطست فيه، سوف تعرف، حتى أنني كنت أخاف أن أفكر، فتعرف ما يدور في عقلي قبل أن ينطق به فمي. اكتشفت بعد فترة قصيرة أنني سجينة لهذه الشيخة، لا سيما بعد أن وجدتني أدخّن، لأنفّس عن غضبي واستيائي ورعبي بأي طريقة، وكان التدخين بالنسبة لي وقتها فعلاً متقطعاً.
تسللت ليلاً إلى الطابق السفلي، ووقفت بجانب حوض السباحة الخارجي، وفجأةً ظهرت من خلفي الشيخة بملامح باردة. أخذت السيجارة مني وأطفأتها في فخذي، فأحدثت ثقباً في بنطالي وأحرقت جلدي -هذا الأثر موجود إلى اليوم مع أنني قادرة على إزالته- لكنّ فظاعة الموقف جمّدت شعوري وجمّدتني في مكاني. لم أشعر بالألم أبداً إلّا لاحقاً. في مساء تلك الليلة المشؤومة، نظرت إليَّ وبابتسامة خبيثة قالت: "إن كنتِ لا تستطيعين تحمّل هذا الحرق الصغير، فكيف لكِ بتحمّل نار الآخرة العظيمة؟".
أدركت سخرية ما أنا فيه، فالشيخة تعمل على تحويلي إلى أَمَةٍ تستعبدها بنفسها. رفضت الشيخة كل محاولاتي للتواصل مع والدتي متذرعةً بأنَّ أمي لا ترغب في محادثتي، وبأنَّها تخلّت عني، وأكدت لي في مرات كثيرة أنَّ الأمر لن يستغرق الكثير من الوقت قبل أن تصبح هي الوصي الشرعي عليّ، إذ كنت قاصراً آنذاك، وقد مُلئ قلبي بالرعب من هذه الفكرة. وكطفلةٍ لم تعتَد بعد على نفاق الكبار المتعمّد لغايات دنيئة، شعرت بالخوف والخطر وقررت الهروب من هذه المهزلة، فحزمت أمري، وبعد أيام، عندما كان الباب الرئيسي مفتوحاً، وكل من في المنزل في الغرف بسبب أعمال صيانة المصابيح يومها، قمت بالركض بأقصى سرعة أملكها، مرتديةً ملابس المنزل الواسعة التي لم تكن لي حتى. كل ما أمكنني الشعور به في ذاك اليوم الحار هو الهواء الذي لامس وجهي إذ لم أعد حبيسة ذلك المنزل.
كانت تجربةً استمرت لمدة خمسة عشر يوماً فقط، لكنها بقيت ندبةً بقية حياتي، وسرعان ما بدأتُ بالبكاء ليس فرحاً، بل لأنني اكتشفت ما وضعت نفسي فيه. لم أكن أملك قرشاً واحداً أو حتى هاتفاً، وكنت في مكان بعيد عن مركز المدينة، فركضت بمحاذاة الطريق حتى توقفت لي سيارة يقودها رجل عجوز سألني إن كنت بحاجة إلى "توصيلة" إلى مركز المدينة، فوافقت من دون تفكير. كان لطيفاً، وأخبرني بأنني أُشبه واحدةً من حفيداته. كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي سمعتها، مع أنه كان كثير الكلام إلّا أنّ تفكيري كان منشغلاً بسؤال واحد لا غير: كيف سأواجه أمي؟ وكيف سأواجه عائلتها؟ هل تخلّت عني حقاً؟ هل ورطت نفسي وصرت الفتاة التي هربت من منزل الشيخة إلى الأبد؟
تقيم سناء اليوم مع والدتها، لكنهما لم تتكلّما منذ أكثر من سبع سنوات. حتى أن سناء قالت إنها تخلت عن الزواج وعن الرغبات الدنيوية لأنها تريد تكريس نفسها، جهدها ومالها، في سبيل الشيخة
وصلت إلى المنزل، فأجهشت أمي بالبكاء ما أن رأتني، وأنا في حالة من الجمود، فردّة الفعل التي حصلتُ عليها كانت آخر توقعاتي، وبدأت بمعاتبتي عن سبب تمنعي عن الحديث إليها وعن أنها مدركة لوجود العديد من الشروخ بيننا، ولكن أن أصرّح بكرهي لها فهذا أمر كان صعباً وكبيراً عليها. دُهشت من كلامها وأخبرتها بأنها هي من كانت ترفض التواصل معي، وهي من كانت ستتخلى عن وصايتي كما قالت لي الشيخة!
حينها، أدركت أمي أنَّ الشيخة اختلقت الفتنة بيني وبينها بعد أن أخبرَتها بأنني أكرهها ولا أرغب في العيش معها. هنا أدركتُ أنا أيضاً أن تلك الشيخة كانت تحيك هذا الأمر طوال الوقت؛ ربما لحيازة المال المتبقي من ورثة والدي المكتوبة باسمي، أو لاستعبادي كخادمة جديدة لن تضرّ في جميع الأحوال، أو ربما حتّى لأنني قمت باستفزازها ولا أعلم إن كانت عندها نوايا مبيتة بخصوصي، وكل الذي أعرفه أنني لم أكن الوحيدة.
كنت مستلقيةً على سريري في منزلي عندما تذكرت سلوك فتاة كانت مكاني في يوم من الأيام في ذلك القصر. كانت تُدعى سناء وهي ابنة صديقة والدتي. فمنذ أن بدأت سناء بحضور الجلسات الدينية الخاصة بهذه الشيخة تغيّرت كثيراً، وأصبحت والدتها تشعر بأن طفلتها تبتعد عنها شيئاً فشيئاً، لتكتشف بعد ذلك الفظائع التي كانت تقولها الشيخة عنها، وأنها يجب أن تبتعد عن أمها وتُعرِض عنها وأنها لن تنفعها لا في دينها ولا دنياها، وعن كمية الأخطاء المرتكبة من قبلها في تربية سناء.
منذ ذلك الوقت فقدت صديقة والدتي ابنتها، إذ إن الشيخة استطاعت التأثير الكامل عليها. شعرت أنا بالدهشة، فسناء كانت فتاةً مثقفةً ومتحررةً، ولكنها تغيرت كثيراً. كدت لا أعرفها لاحقاً في ذاك اليوم عندما قررت البحث عن حسابها الشخصي على مواقع التواصل الاجتماعي، إذ قامت بحذف جميع صورها، وعن طريق منشوراتها ومواقفها كدت حقاً أن أشك في أنه حسابها الشخصي، وللأسف لم تعد سناء إلى اليوم.
هي تقيم في منزلها مع والدتها، لكنهما لم تتكلّما منذ أكثر من سبع سنوات ولا كلمة واحدة! حتى أن سناء قالت إنها تخلت عن الزواج وعن الرغبات الدنيوية لأنها تريد تكريس نفسها، جهدها ومالها، في سبيل الشيخة.
أنا من هرب من الشيخة ومن طريق الصواب بنظر الجميع، لا أبالغ إذ أقول إنَّ بعض الفتيات كنّ يحسدن المقيمات عند الشيخة ظناً منهن أن قصرها جنّة. لكنني بعد تجربتي أقول: إن كانت جنتي في ذاك المنزل فأهلاً بجحيمي خارجه.
في النهاية، ربما لم يبالغ مسلسل "ما ملكت أيمانكم"، في إظهار صورة القبيسيات، ولا أريد التعميم، ولكن كم من سناء لدى هذه الشيخة وغيرها من اللواتي من أمثالها؟ وبأي حق يقررن عن أمهاتنا الطريقة الصحيحة لتربيتنا؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.