تزخر صفحات المراكز البحثية التوثيقية ومواقعها، بتقارير توثّق الانتهاكات التي تعرّض لها الشعب الكردي في مدينة عفرين شمال حلب، إذ لم يمضِ عامان على سيطرة تركيا على المدينة، حتى قالت لجنة التحقيق الخاصة بسوريا عام 2020، والمنبثقة عن مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن الانتهاكات التي تُرتكب في عفرين قد ترقى إلى جرائم حرب، وكانت تقصد ممارسات الفصائل المسلحة وجرائمها، ومنها تعرّض أبناء المجتمع المحلي للاختطاف والابتزاز المالي ومُصادرة الممتلكات والقتل والاستيلاء على مقدرات المدنيين، وتدمير أشجار الزيتون، والتي بلغت أكثر من 120 ألف شجرة، وفرض الإتاوات وتخريب الأراضي الزراعية، والقتل تحت التعذيب والاعتقال التعسفي.
كذلك قامت الفصائل التي تنضوي تحت مسمّى الجيش الوطني، بتغيير المناهج التعليمية وتقليص عدد حصص اللغة الكردية، وحذف الصور التي تشير إلى الفلكلور والتراث الكردي، واستبدالها بأخرى ذات توجه ديني وزيّ عربي فقط. كذلك تم استهداف المواقع الأثرية والتاريخية وتخريب مراكز عبادة الإيزيديين ودورهم، وتغيير أسماء الساحات العامة والشوارع والقرى كما فعلوا بتمثال كاوى الحداد، من كسر وتغيير اسم الساحة التي كانت تُعرف باسمه، والذي يُعدّ رمزاً للحرية وشعلة عيد نوروز القومي الكردي.
وفي السنوات الماضية أيضاً، تم استقدام عشرات العوائل من سكّان مختلف مناطق الصراع المسلح في سوريا، وتسجيلهم على قيود المنطقة، بهدف طمس الهوية الكردية في عفرين، وتغيير تركيبتها الديمغرافية وخلق واقع سياسي وإداري جديد، وهي الانتهاكات التي يعيد الأكراد في سوريا هدفها إلى الحقد القومي والكراهية تجاههم برغم كونهم أصحاب الأرض الفعليين.
مجزرة غيّرت كل شيء
المجزرة الأخيرة التي قامت بها مجموعة عناصر من فصيل الشرقية، التابع للجيش الوطني، حين فتحت النار مباشرةً على المحتفلين عشية عيد النوروز في 21 آذار/ مارس الماضي، بسبب إشعالهم النار أمام فناء منزلهم، ومقتل أربعة أفراد من عائلة واحدة، أحدثت نقلةً نوعيةً على صعيد الموقف من المعارضة السورية، والعلاقات الكردية-العربية، ومستقبل العيش المشترك في سوريا المقبلة، خاصةً أن تلك الفصائل تضم أسوأ الأشخاص خلقاً وسيرةً شخصيةً، وكأن الشرط المركزي للانضمام إلى الفصائل هو أن يكون الفرد ذا سمعة سيئة، ومن أصحاب السوابق، ومستعداً لارتكاب الفظائع والجرائم على اختلاف أنواعها ومسمياتها.
السؤال الأهم: كيف لشباب عائلة "بشمرك" أن تنسى ما حصل لأبنائها؟ وهي الحالة التي تسود لدى غالبية الشباب الأكراد، نتيجة تكرار الجرائم بحقهم على الهويّة
وتلك الممارسات كلها، تتم تحت أسماء ذات هويّة ودلالات دينية، وغالبيتها تدور في فلك هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقاً، المصنّفة على لائحة الارهاب، وأبرزها فصيل "سليمان شاه" المعروف بـ"العمشات"، وفصيل "فرقة الحمزة" المعروف بـ"الحمزات"، و"الفرقة 55"، و"السلطان مراد"، و"أحرار الشرقية"، والأخيرة، بحسب سكان عفرين ونازحين سكنوا فيها، ارتكبت جرائم وفظائع خطيرةً.
كيف سيعيش الكرد والعرب معاً؟
برغم أن نسبة العرب في عفرين حتى قبل 2011، لم تكن تتجاوز الـ2% من مجموع السكان فيها وفقاً لمصادر عديدة، لكن لم يشهد التاريخ في عفرين حوادث كراهية أو تعدّي الأكراد على العرب بسبب الهويّة، بل كان التأقلم والاستقرار المجتمعي عنواناً عريضاً للمكونات في المدينة، وتوفرت بينهم جميع أشكال العلاقات التقليدية للعيش المشترك والسلم الأهلي من مصاهرة وشراكة تجارية، إلى درجة أنهم أتقنوا اللغة الكردية، ومن الصعب معرفة العربي من الكردي خاصةً في الجيل الجديد.
خلال الفترة الماضية، كان واضحاً حجم التعاطف والتعاضد الذي أبداه النازحون العرب من المحافظات السورية إلى عفرين، مع ذوي ضحايا المجزرة، سواء عبر وسائل التواصل الاجتماعي، الانخراط في الاعتصامات، التغطية الإعلامية لوسائل إعلام سورية معارضة، وبيانات الإدانة من أطراف مسيحية عربية منخرطة في الائتلاف السوري أو غيره من الجهات السياسية.
لكن مشكلةً معقدةً تنتظر تبيان شكل العلاقات الكردية العربية في سوريا الغد، لأربعة أسباب مركّبة؛ إذ إن أغلب الأطراف المنتقدة للجريمة المرتكَبة لم تطالب بإخراج الفصائل من عفرين، بل إن موقفها كانت حدوده بيان الاستنكار.
السؤال الأهم: كيف لشباب عائلة "بشمرك" أن تنسى ما حصل لأبنائها؟ وهي الحالة التي تسود لدى غالبية الشباب الأكراد، نتيجة تكرار الجرائم بحقهم على الهويّة، خاصةً أن لسان حال أغلبيتهم يُعيد منبت الجريمة إلى تاريخ 20 آذار/ مارس 2008، حين قتل الأمن السوري ثلاثة أطفال في مدينة القامشلي نتيجة احتفالهم بنار النوروز، بمعنى أن العقلية والنَفَس القمعي وثقافة القتل هي هي، لم تتغير.
الذهنية التراكمية للظلم وفقدان العدالة والمساواة وحماية المجرمين، تخلق توجهاً شديد الخطورة، بالإضافة إلى مخاوف من أن تُصبح فصائل مجرمة، مثل "الشرقية" و"العمشات" و"الحمزات"، جزءاً من الجيش السوري المستقبلي، وعليه نسأل: كيف سيعيش الأكراد معهم حينها؟
الأخطر من هذا كله وذلك، أن صوت العقلاء والسياسيين السوريين حول القضية الكردية ومستقبلها في سوريا، ينحصر في المناسبات الحزينة أو السعيدة لا غير، من دون تقديم مشروع سياسي واضح المعالم يحدد طبيعة العلاقة الهويّاتية بين الأكراد والعرب في سوريا.
لا تقدّم مقاربات وطنيةً
لم تشهد عفرين أيّ هياكل حكم واضحة من محاكم وعدالة وحياة سياسية، أو ديناميكيات تحكم طبيعة العلاقة بين المجتمع المحلي وأيّ نوع من السلطة، ما خلا مجالس محلية لا قدرة لها على القيام بأي شيء، وفاقدة للصلاحيات، ولا يُمكنها نقل "عسكري" من قطعة إلى أخرى. والواضح أن الأجسام السياسية المسيطرة على عفرين، من حكومة سورية مؤقتة، وائتلاف سوري معارض، لا يتجاوز موقفها أكثر من بيانات خجولة في معظمها، خاصةً أنها لم تقدّم طوال خمس سنوات من فترة حكمها للمنطقة، أيَّ مقاربة وطنية لحل المشكلات التي تحولت إلى جرائم قتل على الهويّة، من ثم تغطية أغلب المجازر والانتهاكات تحت ستار الشك في علاقة الضحايا مع الإدارة الذاتية و"العمال الكردستاني" قبل خروجهما من المنطقة.
وهذه الشماعة، أقل ما يُقال فيها أنها تافهة، فمن بقي في المدينة ولم يخرج معهم، لا علاقة له بها أبداً، وإنما ما يحصل هو نتاج ثقافة جمعية لم تتمكن المعارضة السورية من تغييرها، خاصةً أن عبارات "ملاحدة، كفّار، مجوس، النوروز معادي لشرع الله"، هي أكثر العبارات المتداوَلة والمستخدمة من قبل تلك الفصائل التي تزهق الأرواح بغير حقّ، وتنهب ممتلكات الآخرين، وتستولي عليها بقوة السلاح، وهي المقاربات الوحيدة التي تحكم طبيعة العلاقة بين الشعب الكردي في عفرين وتلك الأطراف.
الجرائم الممارَسة من قبل تلك الفصائل، ليست أخطاء شخصيةً أو غير مقصودة، بل هي سلوكيات وثقافة وتربية وممارسة، عن سابق إصرار وترصد. طفح كيل الأكراد منهم
لذا، من حيث المبدأ، فإن الائتلاف السوري ووزارة الدفاع في الحكومة المؤقتة، يتحملان قسماً كبيراً من المسؤولية الأخلاقية والسياسية، في إيجاد حلول سريعة وناجعة وإخراج تلك الفصائل خارج المدينة وتسليم أمر حمايتها وتسيير شؤونها للشرطة المدنية وضم أبناء المجتمع المحلي لمختلف مراكز القوة والقرار في عفرين.
أيضاً، كان يُمكن تحجيم الاعتصامات التي عمّت أغلب مناطق تواجد الأكراد في سوريا وكردستان العراق وأوروبا وضبط إيقاعها، عبر تقديم الجناة، مرتكبي مجزرة جنديرس، إلى محكمة مباشرة، خاصةً أن جميع الأدلة حول الجريمة متوافرة، بدلاً من توسيع رقعة التأجيج والاضرابات الحالية والمستقبلية، لكن الواضح أن "فصيل الشرقية"، وغيره من فصائل النهب والسلب والقتل العمد، لن يجرؤ أحد على الاقتراب منها، علماً أن العرب الوافدين إلى عفرين لم يسلموا من شرّها.
قُضي الأمر
الجرائم الممارَسة من قبل تلك الفصائل، ليست أخطاء شخصيةً أو غير مقصودة، بل هي سلوكيات وثقافة وتربية وممارسة، عن سابق إصرار وترصد. طفح كيل الأكراد منهم، فالممارسات المشينة تحوّلت إلى ماركة مسجلة باسم ميليشيات متجردة من أي واعظ أخلاقي أو ضمير أو وطنية أو روابط سورية، إذ من الواضح أن هدفها هو إخضاع المجتمع الكردي والمجتمع الوافد لكل أشكال الظلم، والأكذوبة الأكثر ترويجاً من قبلهم؛ هي أنهم ثوار وخرجوا في ثورة، ولكن الواقع يقول إنهم لصوص وقُطاع طرق، ولا عيش معهم. وإن رغبت مختلف الأطراف السورية في كسب الأكراد إلى جانبها، فلتفهم أنها تكتفي بمشاهدتهم وهم يُذبحون كالخراف بسبب هويّتهم، وحتى تركيا التي كانت قاب قوسين أو أدنى من خسارة أكراد العراق إبان الاستفتاء التاريخي في 2017، فإنها تتجه إلى خسارة أكراد سوريا بسبب الفصائل المسلحة المسيطرة على مناطق خاضعة لسلطتها.
مرتكبو جرائم الإبادة ينطلقون من ثقافة التفوق والأولوية وعقدها، وضرورة استبدال الآخر لكامل منظومته الفكرية والانتمائية والهويّاتية طوعاً أو عبر الاستلاب والاختراق والقوة، والمعضلة أن تلك الزمر المارقة لا تحمل أيّ أفكار سياسية أو مشاريع وطنية يُمكن الاهتداء بها والعمل على تطويرها لكي تُصبح جامعةً، فهي ليست سوى مجموعات تستقوي على الآخر، في ظل غياب أيّ بوادر لنواظم قانونية تحمي طبيعة العلاقة بين المواطن والسلطة.
في المحصلة، لا يُمكن تحميل العرب في سوريا مغبة تلك الجرائم، ولا جواز للقول إن تلك الفصائل تُمثّل المكوّن العربي، لكن غياب أيّ مقاربات وطنية للقضية الكردية، ومحدودية المواقف، والدعم الخجول سياسياً ورسمياً للمتضررين من المجزرة، عمّقت التباعد، وفي مكان ما العداء، وجعلتنا نسأل: متى ينطلق الشركاء العرب من قاعدة راسخة، مفادها أن خمس سنواتٍ من الظلم في عفرين صنعت شرخاً وتشظياً بينهم وبين الأكراد في سوريا، ولن يندملا طالما أنه لا خطوة نحو الحل، وإن وُجدت فيشوبها الكثير من التثاقل، وقلّة الوعي، وكأن المطلوب، هو الإلغاء، ككل ما يحصل في سوريا منذ 12 سنةً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.