"حين تزور الزاوية التِجَانِيَّة في فاس، تستقبلك الأسرار والأنوار وتتوقف حينها أبعاد الزمن والمكان لتنأى النفوس عن كل محسوس وتسير بك المعاني إلى حقائقها"؛ هكذا يصف محمد أحمد أولي، مهاجر سينغالي من مريدي الطريقة، لرصيف22، المنزلة الروحية التي وصل إليها عند زيارته الزاوية التجانية في فاس. لا فرق في الزاوية بين مريد وآخر، كل الأعمار والأجناس حاضرة، وأنظارهم وقلوبهم متوجهة إلى هناك، حيث يرقد شيخ الطريقة ومؤسسها.
سيدي أحمد التيجاني... شيخ الطريقة ومؤسسها
"صورة الرسول تمشي على الأرض"؛ بهذا الشكل يتمثّل مريدو الطريقة التجانية شيخهم سيدي أحمد التجاني. هو الجامِع، في نظرهم، بين علم الظاهر والباطن. وفق معتقدهم، فإن تشبّثهم بنهجه هو الطريق الأقرب إلى الله ورسوله. وغايتهم في ذلك الرّفعة إلى مقام الإحسان ويرجون الجمع بين الشريعة والطريقة والحقيقة. وجهتهم فاس، حيث الزاوية الأم والمرجع في "التجانية"، بيت التعبد والتفكر والوصل.الطريقة التجانية، وفق المنتسبين إليها، هي تطبيق سلوكي لنصوص الدين الإسلامي. يعتقد المريدون أن الرسول محمد هو من أودع في الشيخ هذه الطريقة، بأورادها وآدابها وشروطها ونُظُمها. يتضمن كتاب "الطريقة التجانية: شروطها وأورادها"، لجامعه محمد الكبير بن سيدي أحمد بن سيدي محمد الكبير التجاني، شروط الدخول في الطريقة التجانية وبعض الأذكار اللازمة وغير اللازمة. ما يميز "التجانية" أيضاً أننا نجد فيها "صلاة الفالح" التي تختص بها الطريقة ويدّعي التجاني أنّه تعلمها من النبي محمد مباشرةً في لقاء حسيّ مادي.
"صورة الرسول تمشي على الأرض"؛ بهذا الشكل يتمثّل مريدو الطريقة التجانية شيخهم سيدي أحمد التجاني
الشيخ سيدي أحمد التجاني، مؤسس الطريقة، مولود سنة 1737 (1150هـ)، في عين ماضي في منطقة الأغواط في الجزائر حاليّاً، حيث عاش وتربى قبل أن يبدأ رحلته العلمية التي قادته إلى الكثير من علماء عصره. زار خلالها جامع تلمسان وجامعة الزيتونة وجامعة الأزهر ووصل إلى بلاد الحرمين. كما زار فاس قبل أن يدخلها دخولاً أخيراً سنة 1798، حين استضافه حاكم المغرب وقتها السلطان مولاي سليمان الذي أهداه أحد قصوره وهو "دار المرايا"، حيث كان يقيم مجالس الذكر والعلم ويستقبل الوفود قبل أن يؤسس زاويته التي دُفن فيها سنة 1815.
زاوية فاس... أم الزوايا ومحجّ المريدين
"ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون"؛ حين تقف قبالة الضريح، أول ما يشدّ انتباهك هذه الآية القرآنية المنقوشة على قبر الشيخ التجاني المرصع بالرخام الأبيض الممتاز والمسيّج بأبواب من النحاس الأصيل. قبل أن تطل عليك الأبيات الشعرية من كل الزوايا، شعر في مدح الشيخ والطريقة، تجده في المحراب وخارجه، جزء منه مكتوب بالجبس وجزء آخر منقوش بالزليج على الجنبات والأبواب المصنوعة من خشب الأرز.
في مرقد الشيخ أحمد التجاني، في زاويته في فاس العاصمة الروحية للمغرب، لا تكاد الزيارات تنقطع. الزاوية منارة للتجانيين كلهم والمحج الثاني بالنسبة لهم بعد الحرمين. تستقبل الزاوية على مدار السنة أفواجاً من كل دول إفريقيا، من السينغال ومالي ونيجيريا وموريتانا والنيجر وغينيا بيساو والسودان، بل حتى من كولومبيا، وغيرها من الدول الإفريقية وغير الإفريقية حيث تنتشر الطريقة بشكل كبير وينتمي إلى فروعها عشرات الآلاف. كلهم يأتون للتبرّك أو ليحضروا الاحتفالات والطقوس التي تقيمها الزاوية، خاصةً في ليلة القدر وذكرى المولد النبوي، حيث يتم تخصيص رحلات طيران مباشرة بين عدد من المدن الإفريقية وفاس، وتقديم تراخيص خاصة لتسهيل حضور المنتسبين، من طرف السّلطات المغربية التي جعلت الدبلوماسيّة الدينيّة وسيلةً من وسائل ربط علاقاتها مع دول غرب إفريقيا.
أشخاص يُصَلّون، وآخرون يناجون ربهم عبر شيخهم، والبعض يتلو ما تيسر من القرآن والبعض الآخر منهمك في هاتفه، مصاحف مرتبة في كل الجوانب وزرابيّ مغربية مزخرفة يغلب عليها اللون الأخضر يستلقي عليها المتعبون والزاهدون والباحثون عن السكينة. أينما ولّيت وجهك ترتطم عينك بعظمة الفسيفساء والأقواس المرصعة بالطراز المغربي، كل ذلك تحت نور "الثريات التقليدية" التي تضيء الأمكنة والأفئدة، وسط جو نسيم مصدره المكيفات التي تحف الزاوية. كل التفاصيل هنا مسخَّرة لتجعلك تندمج في الحالة وتمرّ بتجربة صوفية ترى من خلالها بعين المريدين وتعيش رحلةً تنطلق من فاس عبر إفريقيا لتعود إليها من جديد متحرراً منتشياً. حتى الساعات التقليدية العملاقة المجانبة للأسوار تساعدك على عبور هذه الرحلة الزمنية الروحية.
منذ بناء الزاوية التجانية الكبرى التي تقع في حي البليدة المسمى قديماً بحومة الدرداس، بالقرب من جامع القرويين، عرفت مراحل توسع وترميم وإصلاح، لكن "قدسيّتها" ظلت هي نفسها، فهي فضاء روحي يستوعب الدين والدنيا، تقام فيه حلقات الذكر ودروس التعليم والوعظ والإرشاد والتزكية والخلوة وتعلم القرآن والأوراد، بل حتى الصلوات الخمس تقام هناك.
لم يكن اختيار فاس للاستقرار فيها قراراً اعتباطياً، فقد كانت حينها قطباً علمياً ومعرفياً، وهي التي تحوي جامعة القرويين، أقدم جامعات العالم، ومجمع العلم والعلماء في عصرها.
الزاوية التجانية بوصلة رمزية وثقافية للأفارقة حيثما وُجدوا، تتجاوز حدودها الروحية لتخلق مساحات من التواصل الاجتماعي تجعل منها نقطة التقاء وعبور. تلعب دور الوسيط وتؤدي وظيفة الوسطيّة الدينيّة حسب مريديها
يقول عمر مسعود، مُقَدَّم الطريقة التجانية في السودان: "حينما أراد سيدي أحمد التيجاني أن يبث طريقته، جاء إلى فاس بلد العلماء، صيانةً وحفظاً لها، إذ كان الناس قديماً يقولون إن العلم كاد أن يتفجر من حيطان فاس، فالعلم منتشر فيها كانتشار الورود في الأرض الطيبة. فقد جاء الشيح مزوداً بالعلم والمعرفة وبتمكنه من الشرع ليقرر طريقته في أرض فاس أمام علماء فاس، حتى يكون إقراراهم له شهادةً على صحة نهجه وصحة طريقه".
الزاوية المُشيَّدة في اتجاه مكة، بوصلة رمزية وثقافية للأفارقة حيثما وُجدوا، تتجاوز حدودها الروحية لتخلق مساحات من التواصل الاجتماعي تجعل منها نقطة التقاء وعبور. تلعب دور الوسيط وتؤدي وظيفة الوسطيّة الدينيّة حسب مريديها. وبرغم امتداد الطريقة وانتشارها كان لا بد لها أن تحافظ على الوصل مع الأصل. يقول أحمد دريسي، الباحث في الأنثروبولوجيا في تصريح لرصيف22: "إن الزاوية التجانية تمثل للمريدين الأفارقة الزاوية المركز، منها جاء التأسيس والانطلاق، وهي بذلك العاصمة الروحية والدينية. فزاوية فاس هي صلة رحم مع شيخهم الأكبر المدفون هناك وتجديد للعهد معه ومع الطريقة".
وبرغم أن "التجارة مع الله هي الرابحة"، لكن ذلك لا يمنع من وجود تجارة أخرى خارج أسوار الزاوية. يجد الجميع ضالتهم هناك، ففي أول الطريق في اتجاه الزاوية يوجد محل تجاري يحمل اسم "باب إفريقيا". عبره، وعلى امتداد الأزقة والدروب الضيقة المؤدية إلى الزاوية تمر بالعديد من "الحوانيت" التي يبيع بعضها الأثواب والبلاغي (أحذية تقليدية) والملابس التقليدية، وبعضها مختص ببيع المنتجات الجلديّة والبعض الآخر يعرض مختلف أنواع البخور والحليّ. سلع مغربية تقليدية وأخرى إفريقية يتوجه بها الباعة إلى الزائرين. بل حتى طالبو العلم لهم نصيبهم من مكتبة توجد قبالة الضريح تحمل اسم "المكتبة التجانية" تعرض كتباً في التجانية وعنها. علاقة الدين بالتجارة كانت على الدوام علاقة تيسير وتعبيد للطريق. لذلك فالبعد التجاري كان مساهماً بشكل كبير في نشر الطريقة حسب الباحث في الأنثروبولجيا أحمد دريسي.
الأفارقة يدخلون في التيجانية أفواجاً
لم ينتقل التجاني قط إلى غرب إفريقيا، ولكن التجانية وجدت لها مستقراً هناك، عبر شيوخ وعائلات تقفّت الأثر وحملت الرسالة ووصلت بها إلى أبعد البقاع، حتى أصبح القول الشائع في إفريقيا: "حيثما يوجد الإسلام توجد الطريقة التجانية". وأضحت من أكثر الطرق الصوفية انتشاراً هناك.
على امتداد قرنين من الزمن، استطاعت الطريقة أن تنتشر في كل ربوع إفريقيا جنوب الصحراء والساحل الغربي. وكان لها الدور الأكبر في نشر الإسلام. يقول مسعود مقدّم الطريقة التجانية في السودان: "حين بسط الشيخ علومه لأصحابه الذين أخذوا عنه وتربّوا على يديه، طلب من كل من فُتح عليه في هذه الطريقة أن يغادر ويذهب إلى بلاد أخرى فينشرها، لذلك سافر كُثر إلى بلاد كثيرة وكان هذا سبب انتشار الطريقة في ربوع العالم كله".
لم ينتقل التجاني قط إلى غرب إفريقيا، ولكن التجانية وجدت لها مستقراً هناك، عبر شيوخ وعائلات تقفّت الأثر وحملت الرسالة ووصلت بها إلى أبعد البقاع
انتشرت الطريقة التجانية في موريتانيا، ومنها في إفريقيا بواسطة شيوخ كثر، أبرزهم الشيخ محمد الحافظ بن المختار الذي أجازه الشيخ التجاني مباشرةً ومكث معه ثلاث سنوات في فاس قبل أن يعود إلى موريتانيا، والحاج عمر الفوتي الذي حاول تأسيس دولة إسلامية في إفريقيا وامتد نفوذه من نيجيريا إلى حدود موريتانيا. صحيح أن الاستعمار استطاع أن يقلل من سرعة انتشار التجانية، لكن الطريقة ظلت قويةً وظهر فيها مشايخ حافظوا عليها مثل الشيخ مالك سي المولود والحاج عبد الله إنياس والد الشيخ إبراهيم إنياس الذي يُعدّ مُجدّد القرن العشرين في نظرهم وناشر الطريقة التجانية في إفريقيا. ومن حينها إلى اليوم، يزداد عدد الشيوخ والمقدمين بشكل كبير ويزداد معهم عدد الزوايا في كل البقاع الإفريقية.
ولأن عين السياسة لا يمكن أن تخطئ هذا الكم من النفوذ، لم تكتفِ الطريقة بتغطية دورها الروحي والديني فقط، بل تخطّتها إلى لعب أدوار سياسية كبرى. إذ يسعى المغرب، الذي يحتضن زاوية فاس، والجزائر، التي تضم زاوية عين ماضي منشأ التجاني، إلى تحصين روابطهما مع شيوخ الطريقة وتقويتها واستثمار هذه الدبلوماسية الروحية والدينية وتوظيفها سياسياً، كون الكثير من رؤساء الدول الإفريقية وكبار المسؤولين فيها ينتسبون إلى الطريقة، وعبر ذلك يمكن ضمان عدد كبير من الولاءات وكسب نفوذ أكثر في إفريقيا. في هذا الصدد، يرى أحمد دريسي، الباحث في الأنثروبولوجيا في تصريحه لرصيف22، "أن مشايخ الطريقة التجانية يتمتعون بحظوة رمزية ويتنافس الساسة على استرضاء مقدّميهم وخلفائهم ويحظون بامتيازات خاصة"، فقد كان الملوك في المغرب والقادة في الجزائر يبحثون دائماً عن تجديد هذه الصلة وتمتينها والحفاظ عليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين