ارتبطت التوسعات العسكرية الإسلامية في القرون الوسطى، في المقام الأول، بمفهوم الجهاد الديني. وذهب الاعتقاد الراسخ في الذهنية الإسلامية الجمعية إلى أن العالم مقسم إلى فسطاطين أولهما مؤمن وثانيهما كافر. ومن هنا ذهب الرأي الإسلامي التقليدي إلى ضرورة متابعة أعمال الغزو والفتح في الأقاليم والبلدان المتاخمة لشبه الجزيرة العربية.
في هذا السياق، ضمت الدولة الإسلامية الناشئة مساحات واسعة من بلاد فارس وبلاد الشام والعراق ومصر وبلاد المغرب الكبير. وتدريجياً، وصلت الدولة إلى حدود شبه مستقرة، فدعت الحاجة إلى تأسيس جيش نظامي دائم للدفاع عن تلك الحدود ضد الأخطار الخارجية التي هددتها بين الفينة والأخرى.
ورغم ذلك، بقيت قوات المتطوعة، أي القوات الشعبية أو غير النظامية، ذات تأثير كبير في ميادين العمل العسكري والسياسي على جميع الجبهات.
في صدر الإسلام
في السنوات الأولى من عمر الإسلام، عندما كانوا في المدينة المنورة، لم يعرف المسلمون الأوائل شكل الجيش النظامي. كان من المعتاد في تلك الفترة أن يقوم النبي بدعوة القبائل المسلمة للقتال والجهاد في سبيل الله قُبيل كل غزوة. وكان قوام الجيش عندها يتألف ممن استجابوا لتلك الدعوة. على سبيل المثال يذكر الواقدي في المغازي أن النبي لمّا أراد المسير لغزوة تبوك في السنة التاسعة للهجرة فإنه "بعث إلى القبائل، وإلى مكة، يستنفرهم إلى غزوهم...".
ظلت تلك الطريقة قائمة طوال فترة الخلافة الراشدة، ومن خلالها حشد الخليفتان أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب المقاتلين في حروب الردة والفتوحات المبكرة. على سبيل المثال، يذكر ابن كثير الدمشقي، في كتابه "البداية والنهاية"، في أحداث السنة الـ13 من الهجرة أن "عمراً استنفر قبائل العرب لغزو العراق والشام فأقبلوا من كل النواحي، فرمى بهم الشام والعراق...".
وطرأ تغيير جوهري على تشكيل الجيوش الإسلامية في عهد الخليفة الثاني، تمثل في تأسيس ديوان الجند. يوضح جرجي زيدان أهمية هذا الديوان ويشرح طريقة تنظيمه، في كتابه "تاريخ التمدن الإسلامي"، فيقول: "ديوان الجند في المدينة، أسسه عمر بن الخطاب ودون فيه أسماء الرجال وفرض أعطياتهم، ولم يكن هذا الديوان يومئذ يعرف بديوان الجند، لكنه كان يسمى ‘الديوان’ فقط، وكان يشمل أسماء المسلمين من المهاجرين والأنصار ومن تابعهم، ومقدار أعطياتهم تبعاً للنسب النبوي والسابقة في الإسلام، وكان لكل مسلم راتب يتناوله لنفسه، ورواتب لأهله وأولاده، فكأنه ديوان المسلمين، باعتبار أن المسلمين كانوا كلهم جنداً في ذلك الحين، وظل العطاء باعتبار النسب والسابقة، حتى انقرض أهل السوابق، وصار الجند فئة من المسلمين قائمة بنفسها، فترتب الجند باعتبار الشجاعة والبلاء في الحرب".
وعقب اندلاع الحرب الأهلية بين المسلمين، إثر مقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان سنة 35هـ، تغير شكل الجيش في الدولة الإسلامية. عرف الأمويون أنه صار من الضروري تعبئة قوات دائمة لحماية الدولة من خطر البيزنطيين المترصدين. وفي عهد الخليفة عبد الملك بن مروان، وُضعت اللبنة الأولى في بناء تلك القوات النظامية عندما رتب والي العراق الحجاج بن يوسف الثقفي قوات مقاتلة خاضعة بشكل كامل لأمر الخليفة، إذ كانوا "يرحلون برحيل أمير المؤمنين وينزلون بنزوله"، بحسب ما وصف ابن كثير. معنى ذلك أن تلك القوات تحررت من ولائها لكل من القبيلة والعشيرة، وأنها صارت تابعة بشكل كامل للدولة نفسها.
في العصر العباسي
ظهر تأثير القوات الشعبية للمرة الأولى بعد تأسيس الجيوش النظامية في أواخر القرن الثاني الهجري، بالتزامن مع نشوب الحرب الأهلية بين الأخوين محمد الأمين وعبد الله المأمون، ابني هارون الرشيد.
يذكر المسعودي، في كتابه "مروج الذهب"، أن الخليفة محمد الأمين لما تيقن من هزيمة جيوشه النظامية أمام الجيش الفارسي الذي بعث به المأمون، استعان بالآلاف من الشطّار واللصوص، فأخرجهم من السجون، ورتبهم على هيئة جيش بحيث كان كل عشرة منهم تحت قيادة عريف، وكل عشرة عرفاء تحت قيادة نقيب، وكل عشرة نقباء تحت قيادة قائد، أما الأمير فكان يشرف على عشرة من القادة. ويشير إلى أن عدد هؤلاء المتطوعة المدافعين عن بغداد وصل إلى ما يقرب من 100 ألف جندي.
في السياق ذاته، تحدث ابن الأثير، في كتابه "الكامل في التاريخ"، عن الاضطرابات الكثيرة التي أحدثها جيش المتطوعة في بغداد قُبيل سقوطها في يد قوات المأمون فقال: "وذل الأجناد (يعني الجند النظامي في جيش الأمين) وضعفوا عن القتال إلا باعة الطريق، والعراة وأهل السجون والأوباش والطرارين وأهل السوق، فكانوا ينهبون أموال الناس".
رغم المجهودات الكبيرة التي بذلها الخليفة المأمون في سبيل إخضاع القوات الشعبية والحد من خطورتها ونفوذها، إلا أن تأثير تلك القوات على الساحة السياسية سرعان ما أطل برأسه مرة ثانية في ثلاثينيات القرن الثالث الهجري بالتزامن مع وقوع محنة خلق القرآن.
يذكر ابن الأثير أن الكثير من قادة تلك القوات ذهبوا إلى أحمد بن نصر الخزاعي، وهو أحد المعارضين للقول بخلق القرآن، وعرضوا عليه التأييد والنصرة ضد الخليفة الواثق بالله، "فبايعوه في السر على القيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والخروج على السلطان لبدعته، ودعوته إلى القول بخلق القرآن". ورغم الموافقة المبدئية التي أبداها الخزاعي على هذا العرض، فإن ثورته وئدت في مهدها بعدما قُتل على يد الخليفة في سنة 231هـ.
"في السنوات الأولى من عمر الإسلام، عندما كانوا في المدينة المنورة، لم يعرف المسلمون الأوائل شكل الجيش النظامي. كان من المعتاد في تلك الفترة أن يقوم النبي بدعوة القبائل المسلمة للقتال والجهاد في سبيل الله قُبيل كل غزوة"
كما هي العادة، اختفى تأثير القوات الشعبية لفترة قصيرة قُبيل أن تستعيد حضورها المهم عقب تسلط الجند الأتراك على الدولة في أواخر عهد الخليفة المتوكل على الله. مثلت تلك القوات الكفة المقابلة للقوات النظامية التركمانية التي لم يعد بوسع الخلافة السيطرة عليها. في الكثير من الأحيان، استنجد الخلفاء المغلوبون على أمرهم بالعامة والمتطوعة للوقوف معهم ضد القوات التركمانية. من ذلك ما وقع سنة 251هـ عندما ساند العامة الخليفة المستعين وحاربوا معه ضد الأتراك الذين خلعوه وعينوا المعتز بالله بدلاً منه.
في سياق آخر، عملت الدولة العباسية على الاستفادة من المتطوعين الذين رغبوا في الجهاد المستمر في سبيل الله. أرسل العباسيون الآلاف من هؤلاء المتطوعة إلى منطقة الثغور والعواصم الواقعة بين الإمبراطورية العباسية والإمبراطورية البيزنطية، والتي امتدت في الجزء الشمالي الغربي لسوريا الحالية وجزء من جنوب تركيا الحالية.
يقول الباحث جميل عبد الله محمد المصري، في كتابه "طرسوس صفحة من جهاد المسلمين في الثغور": "استعمل ]الخليفة العباسي أبو جعفر[ المنصور وسائل إغراء كثيرة لحث الجند والناس على العمل في الثغور واستيطانها منها: زيادة العطاء لكل مقاتل عشرة دنانير إضافية وتخصيص معونة قدرها مائة دينار لكل واحد منهم، وبناء بيوت خاصة لإقامتهم مع عوائلهم...". تسبب ذلك في تأمين الجهات الغربية من دولة الخلافة، كما استنزف القدرات العسكرية البيزنطية بشكل هائل عبر السنين.
ضد الصليبيين والتتار
لعبت القوات الشعبية أدواراً مهمة في التصدي للأخطار الخارجية التي تعرضت لها الدولة الإسلامية في القرون الوسطى، وكانت مشاركاتهم في قتال كل من الصليبيين والتتار أهم النماذج على ذلك.
يمكن القول إن معركة سرمدا أو ساحة الدم، سنة 513هـ، كانت أول المعارك التي شهدت تأثيراً واضحاً للقوات الشعبية الإسلامية في مسيرة الحروب الصليبية. تذكر المصادر الإسلامية أن قاضي حلب الشيعي أبا الفضل ابن الخشاب، لمّا شعر بالخطورة التي تهدد مدينته، أرسل إلى الأمير إيليغازي بن أرتق التركماني عارضاً عليه حكم حلب. واستجاب إيليغازي للعرض، والتقت جيوشه النظامية بقوات القاضي الشعبية، وحقق التحالف انتصاراً كبيراً على قوات أنطاكية الصليبية في سرمدا.
تكرر الحضور الشعبي في ساحات القتال مرة أخرى بالتزامن مع قدوم قوات الحملة الصليبية الثانية سنة 543هـ لحصار مدينة دمشق. يذكر ابن كثير أن الآلاف من العامة خرجوا من دمشق وحلب وسائر المدن الشامية للتصدي للحصار الصليبي، وتسبب ذلك في إفشال الحملة وفك الحصار عن دمشق.
"لعبت القوات الشعبية أدواراً مهمة في التصدي للأخطار الخارجية التي تعرضت لها الدولة الإسلامية في القرون الوسطى، وكانت مشاركاتهم في قتال كل من الصليبيين والتتار أهم النماذج على ذلك"
في معركة حطين سنة 583هـ، شارك الكثير من المتطوعين في المعركة. وبعد تحقيق الانتصار شاركوا أيضاً في استعادة بيت المقدس. يقول ابن كثير: "وطار في الناس أن السلطان عزم على فتح بيت المقدس فقصده العلماء والصالحون والمتطوعة من كل فج عميق… فاجتمع من عباد الله ومن الجيوش المتطوعة خلق كثير وجم غفير، فعند ذلك قصد السلطان بيت المقدس بمَن معه…".
في السنوات الأخيرة من عمر الدولة الأيوبية، لعب العامة دوراً مهماً في إفشال مخططات الحملة الصليبية السابعة التي قادها ملك فرنسا لويس التاسع. يقول الدكتور جمال الدين الشيال في كتابه "تاريخ مصر الإسلامية" واصفاً الدور الذي لعبته القوات الشعبية في معركة المنصورة سنة 648هـ: "أقام الأهالي المتاريس في الطرقات، واشتبك الفريقان في قتال عنيف في شوارع المدينة وأزقتها، واتخذ السكان حصوناً من منازلهم يلقون من نوافذها بالقذائف والحجارة على الفرنسيين وانتهت المعركة بالقضاء على فرقة الفرسان". وتؤكد بعض المصادر التاريخية على التأثير الكبير للمتطوعين في تلك المعركة. على سبيل المثال، يقول ابن أيبك الدواداري، في كتابه "كنز الدرر وجامع الغرر": "وقع القتال بينهم وبين المسلمين، وكانت الفرنج تخاف من الحرافيش ]يقصد العامة[ أكثر من العساكر".
من الملاحظات المهمة التي يجب الالتفات إليها ها هنا أن أغلبية المتطوعين الذين شاركوا في تلك المعارك كانوا يأتمرون بأمر بعض شيوخ الصوفية من ذوي المكانة العالية في تلك الفترة. في هذا السياق، تحدث شيخ الأزهر الأسبق عبد الحليم محمود، في كتابه "قضية التصوف"، عن الدور الكبير الذي لعبه أبو الحسن الشاذلي وابن دقيق العيد وعز الدين ابن عبد السلام في حشد المتطوعة وتعبئتهم، فقال: "لقد كان مجرد سيرهم في الحواري والشوارع، تذكيراً بالنصر أو الجنة، وكان حفزاً للهمم، وتثبيتاً للإيمان، وتأكيداً لصورة الجهاد الإسلامية… وقد اجتمع هؤلاء الأعلام في خيمة من خيام المعسكر يتجهون إلى الله بصلاتهم ودعائهم، يلتمسون منه النصر…".
ظل حضور القوات الشعبية الإسلامية قائماً في عصر الدولة المملوكية في مصر والشام. بطبيعة الحال، تصدر المماليك المشهد العسكري باعتبارهم الجند المقاتلين المنافحين عن بيضة الإسلام. رغم ذلك، دوّن المؤرخون بعض الإشارات التي تؤكد على مشاركة القوات الشعبية والمتطوعة في العديد من المعارك المهمة.
على سبيل المثال، ظهر المتطوعون في معركة عين جالوت، سنة 658هـ، والتي خاضها المماليك ضد التتار. يقول الدكتور راغب السرجاني في كتابه "التتار من البداية إلى عين جالوت" في سياق وصفه لأحداث تلك المعركة: "بينما قطز في سهل عين جالوت إذا بأعداد غفيرة من المتطوعين المسلمين من أهل فلسطين يخرجون من القرى والمدن ليلتحقوا بالجيش المسلم... وهؤلاء لم يكونوا كالجيش النظامي في قدراته ومهاراته، ولكنهم متحمسون متشوقون إلى العمل في سبيل الله، وهذه الحماسة في ميدان القتال تنفع كثيراً، فقطز استخدمهم في سلاح الخدمات، ووفر الجنود الذين كانوا في سلاح الخدمات في أعمال أخرى قتالية، وبالإضافة إلى ذلك كان لهم أهمية أخرى كبيرة جداً في تكثير سواد المسلمين".
الأمر نفسه وقع في معركة شقحب التي دارت بين المماليك والمغول الإيليخانيين في سنة 702هـ. يذكر ابن كثير، في "البداية والنهاية"، أن الفقيه تقي الدين ابن تيمية الحراني قاد مجموعة كبيرة من متطوعة بلاد الشام إلى أرض المعركة، وأن هؤلاء المتطوعة حاربوا إلى جانب فرسان المماليك حتى تحقق لهم النصر على أعدائهم في نهاية المعركة.
من جهة أخرى، كان للمتطوعين دور مهم في نشأة الإمبراطورية العثمانية في القرن الثامن الهجري. تذكر الكتابات التاريخية التي تناولت ظروف تأسيس الدولة العثمانية أن عثمان بن أرطغل لمّا أعلن عن إمارته في منطقة الأناضول ومارس الجهاد المستمر ضد البيزنطيين، تقاطر عليه متطوعون مسلمون من الساكنين في آسيا الصغرى والأناضول وشمالي الشام، من كل حدب وصوب. وتسبب ذلك في تعاظم قوة الإمارة الصغيرة ونجاحها في ما بعد في الاستيلاء على مجموعة من المدن المهمة الواقعة في تلك المنطقة ومنها قراجة حصار، ويني شهر، وبورصة.
أيضاً، كان للمتطوعين جهود مشهورة في محاولة إنقاذ مسلمي الأندلس من الظلم الذي تعرضوا له على يد ملوك إسبانيا بعد سقوط غرناطة سنة 897هـ. يلقي الباحث فتحي زغروت الضوء على بعض تلك المحاولات، في كتابه "العثمانيون ومحاولات إنقاذ مسلمي الأندلس"، فيذكر أن سلاطين بني عثمان عملوا على تقديم العون للموريسكيين المضطهدين في الأندلس من خلال تسفير الآلاف من المتطوعة المسلمين للقتال ضد ملوك إسبانيا.
الأمر نفسه أكده أحمد توفيق المدني، في كتابه "حرب الثلاثمائة سنة بين الجزائر وإسبانيا"، إذ يقول إن دعم المتطوعين للموريسكيين الأندلسيين وصل إلى أوجه في ولاية الوالي العثماني علج علي باشا حاكم الجزائر، والذي قام بإرسال ما يقرب من ستين ألف مجاهد متطوع من الجزائر إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. ولكن لم يتمكن هؤلاء من التأثير بشكل فعلي في مجريات الحرب بعدما ضلت أغلبية سفنهم طريقها وتحطمت على سواحل الأندلس والمغرب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين