"أنا رجل تكتنفني الغربة في كل الأركان، توقفت عن المسير مؤقتاً، أجلس الآن داخل علبة سجائر فوق رف، أعرض فوقهم الحظ معلقا، فوق حبل، أوراق يانصيب."... (قصة مخلوقات براد الشاي المغلي، 1979)
عام 1968، صدرت مجموعتان قصصيتان للقاص الشاب - وقتها- محمد حافظ رجب، المولود في العام 1935، الأولى بعنوان "غرباء" وضمت نصوصاً كلاسيكية لم تخل من إرهاصات لما سيبدأه في مجموعته الثانية "الكرة ورأس الرجل"، ما دفع نجيب محفوظ إلى تقديمه في ندوته الأسبوعية بأنه "سيريالي في عالم واقعي"، وقال عنه الناقد د. صبري حافظ إنه "أول من فجر قضية الأدب الجديد وطرح الأسئلة حول هويته"، وكتب عنه يحي حقي: "هو فنان يسبق زمانه ولا ريب".
في العام 2011، دخلت المخرجة هند بكر شقة حافظ رجب في منطقة الورديان بالإسكندرية، حيث شاء أن يقضي عزلته الاختيارية عن العالم برفقة ابنته سامية منذ عام 1968، وظلت المخرجة تصور حياته في العزلة على مدى ست سنوات متفرقة في حوارات مصورة، كانت تبحث خلالها عن إجابة لسؤالها: متى نفقد رغبتنا في الاستمرار؟
توقفت هند فترات عن العمل بسبب الاكتئاب الذي أصابها أثناء محاولة الدخول إلى عقل عبقري طحنته الحياة، بين ما عاصره منذ كان بائعاً متجولاً يبيع اللب والسوداني أمام سينما ستراند في الإسكندرية ويكتب القصص وينشرها في مجلة القصة وهو ابن 16 عاماً، ثم استدعاء يوسف السباعي للكاتب الشاب الموهوب عام 1957 مع احتدام الفكر الثوري وشعارات صعود الطبقة العاملة كي يأخذ مكانه المستحق بين كتّاب العاصمة، ثم اصطدامه بالحياة في القاهرة وما في الوسط الثقافي من تناقضات.
تدخل هند عالم حافظ رجب وفق إيقاعه الشخصي، ورؤيته للعالم، تبتكر أدوات سينمائية لنقل العالم بماضيه وحاضره إلى شقته الصغيرة، فتعرض له باستخدام "بروجكتور" على حائط فوق سريره، تفاصيل العالم الذي عاشه في الماضي وما آل إليه في الحاضر
موضوع فيلمها هو رجب، وكتابته المتفلتة عن معايير عصره، وبدايته للكتابة الجديدة في جيل الستينيات، ورفعه لشعار "نحن جيل بلا آباء" وما تبعه من صراعات مع جيل الكبار، ثم عودته للإسكندرية مستسلماً لمصير أسطوري أرغمه على العزلة حتى وفاته في 13 فبراير/ شباط 2021.
الناتج هو فيلمها التسجيلي الطويل "جولة ميم المملة"، عن القاص الإشكالي محمد حافظ رجب، الذي عرض في عدد من المهرجانات الإقليمية، منها مهرجان قابس في تونس، كما شارك في مهرجان أسوان لسينما المرأة، وتستعد هند لعرضه في القاهرة والإسكندرية خلال الأسابيع القادمة.
تدخل هند عالم حافظ رجب وفق إيقاعه الشخصي، ورؤيته للعالم، كأنه يشاركها في كتابة السيناريو، تبتكر أدوات سينمائية لنقل العالم بماضيه وحاضره إلى شقته الصغيرة، بعد رفضه الخروج تماماً، فتعرض له باستخدام "بروجكتور" على حائط فوق سريره، تفاصيل العالم الذي عاشه في الماضي وما آل إليه في الحاضر، كما تعرض له الأفلام القديمة التي كان يشاهدها أثناء عمله كبائع متجول أمام سينما ستراند. يشاهد حافظ كل هذا وهو مستلق على سريره، أو يشاهد التلفزيون مع ابنته، أو يراقب مشاهد اعتيادية من بلكونة بيته على العبارات التي تحمل مواد البناء في ترعة النوبارية المقابلة له، أو قطار شحن البضائع، وغيرها من المشاهد التي تشبه إيقاع روحه، حتى الموسيقى التي استعانت بها بالمشاركة مع سامح نبيل تعكس صدى هذا الإيقاع بأنينه وغموضه، وأصوات الحياة من حوله.
جيل بلا أباء!
"أنتم غرباء بالفعل علينا، فلنترك للناس الحكم، ولتسمحوا لنا بأن نقف معكم فوق المنصة، ومن يصفق له الناس يستمر في الإنشاد". في معرض سجال حافظ مع رشدي صالح عام 1963
أسس حافظ الرابطة الثقافية للأدباء الناشئين بالإسكندرية عام 1950، كان ما زال بائعاً متجولاً لم يحصل سوى على الإبتدائية لكنه مغرم بالقراءة والكتابة والسينما، وكان يرسل القصص للنشر في المجلات بالقاهرة، خاصة بعد ثورة يوليو 1952 إذ تنامى لدى جيله ما أسماه "إحساس الوارثين في الأرض".
يرى حافظ أنه قدم كتابة جديدة رفضها الكبار رغم أنهم قدموا محاولات مشوهة لتقليده. وأفردت أعداد من جريدة الجمهورية ومجلة الثقافة للهجوم عليه. تسأله المخرجة: "كيف ترى الكتابة الجديدة؟" فيجيب: "تفتتيت اللغة وتصورها، الكتابة الجديدة هي صور"
الشاشة تعرض الأماكن التي لم يرها منذ عقود وهو يتحدث عنها، تظهر صورة له وهو يصافح عبد الناصر أثناء زيارته لمصنع حلوى في الإسكندرية، حيث عمل حافظ فترة قصيرة. يحكي للمخرجة أنه أرسل رسالة إلى الكاتب الراحل لطفي الخولي يطلب فيها العمل في القاهرة، وأرسلها الخولي ليوسف السباعي الذي عينه سكرتير للجنة السرد (ضمن لجان المجلس الأعلى للثقافة). كرر حافظ في موضع آخر بالفيلم: "كنا تحت مظلة وهمية… عبد الناصر وهم كبير".
كل شىء انقلب بعد ندوة أدارها أحمد رشدي صالح، أشار خلالها إلى فضل الراحل يحي حقي على جيل الستينيات، ليرد عليه حافظ: "نحن جيل بلا آباء" ليصبح رجب بعدها منبوذاً مطارداً من حكّام دولة الثقافة في القاهرة.
في مشاهد أخرى، تعرض له المخرجة على البروجكتور لقاء كبار المثقفين مع طه حسين يظهر في الصورة يوسف السباعي، ثروت أباظة، أمين يوسف غراب، عبد الرحمن الشرقاوي، نجيب محفوظ، أمين العالم، أنيس منصور، كامل زهيري، فيعلق حافظ: "القاهرة نفسها وحشه، لكن دول كانوا بيمثلوا ما هو أشد من القاهرة. يمثلوا طغيان المادة الميكانيكية"
تعرض الشاشة صورة له بعد نقله إلى الأرشيف ويتحدث عن الحملة التي ثارت ضده بسبب عبارته الشهيرة، يقول إنه اتصل بحسنين هيكل (الكاتب الصحافي المقرب من عبد الناصر ورئيس تحرير الأهرام وقتها) وأرسل له مقال يحي حقي عنه طالباً العمل في الأهرام، "فأرسل لي لويس عوض تلغراف" وكان عوض كاتباً في الأهرام، لكن بسبب الهجوم الحاد على رجب وقتها، طلب منه لويس عوض العودة إلى الإسكندرية والكتابة من هناك، يعلق حافظ رجب: "كنت أعتقد أن الكاتب له رونق".
يرى حافظ أنه قدم كتابة جديدة رفضها الكبار رغم أنهم قدموا محاولات مشوهة لتقليده. وأفردت أعداد من جريدة الجمهورية ومجلة الثقافة للهجوم عليه. تسأله المخرجة: "كيف ترى الكتابة الجديدة؟" فيجيب: "تفتتيت اللغة وتصورها، الكتابة الجديدة هي صور".
إبراهيم أصلان ورفاق الكتابة الجديدة
"فررت من القاهرة. لكن هذه المدينة حقيقية يا إبراهيم، كل من خارجها يلعب ألعابه لتحث المعجزة وتلتفت مرة إليه.... أخوك/حافظ" (من رسائله إلى إبراهيم أصلان)
تعرف الراحل إبراهيم أصلان على حافظ في بداية الستينيات، سكن حافظ في غرفة في العجوزة بينما كان يقيم أصلان في الكيت كات.
قال عنه أصلان في كتابه "خلوة الغلبان": "مضت السنوات إذن وتوقف حافظ رجب عن الكتابة إلي. صمت عني وعن الآخرين. استقر موظفاً بسيطاً، هادئاً ومنسياً في أرشيف المتحف الروماني بالإسكندرية. لقد تعاقبت الأجيال وبهتت الصور، وبدا حافظ منسياً إلا من أبناء جيله الذين احتفظوا له بمكانة لا يطاوله فيها إلا القليلون".
كان حافظ ينتظر مساندة أصلان له في معركته للدفاع عن الكتابة الجديدة التي انتهت بفراره من القاهرة، لكن إبراهيم كان أقل صدامية منه، يشير في كتابه السابق ذكره إلى لقائه الأول معه وهجوم حافظ على ضياء الشرقاوي باعتباره منتمياً لتيار الواقعية الإشتركية، وتوطد العلاقة بين الكاتبين العلمين في جيل الستينيات حتى عودة حافظ إلى الإسكندرية واستمرارهما في تبادل الرسائل لفترة من الزمن.
تسأله هند: "واضح إنه كان بيحبك؟" فيرد حافظ: "مش حب، مش حب". ثم يصمت، وكأن شيئاً ما كان يريد قوله وسقط من ذاكرته! يقرأ رسالة من رسائله لأصلان: "أردت أن أراك، أن أقتلك"، فتصحح له هند الجملة ثلاث مرات: "أردت أن أراك، أن أقبلك"، فيصر على تعبير "أقتلك!"
تسأله هند: "واضح إنه كان بيحبك؟" فيرد حافظ: "مش حب، مش حب". ثم يصمت، وكأن شيئاً ما كان يريد قوله وسقط من ذاكرته! يقرأ رسالة من رسائله لأصلان: "أردت أن أراك، أن أقتلك"، فتصحح له هند الجملة ثلاث مرات: "أردت أن أراك، أن أقبلك"، فيصر على تعبير "أقتلك!"
ورغم مشاعر حافظ الشائكة تجاه أصلان، ما بين صداقة ومحبة كبيرة، وسخط وإحساس بالتخلي فإن أصلان قدم أفضل ما كتب عن حافظ في "خلوة الغلبان"، إذ يقول عنه: "وإذا كان بوسع أحد، مثلي، أن يظن بأنه كان من الناجين، فلقد حدث ذلك لأننا كنا أبناء شرعيين لهذه "لقاهرة، وليس بالتبني، لم نتوقع منها شيئاً لذلك فوتنا عليها، وعلى أنفسنا، مشاعر الخيبة والمرارة. ما أعاننا على الاستمرار (أنت.. يا من هناك) إننا كنا أقل طيبة منك، وأكثر قسوة".
قتل الأب والابنة!
"يا بني، أنت قاتلي، وقاتل أبناءك وأبنائي...." (من قصة جولة ميم المملة 1968)
الكاميرا ثابتة داخل الشقة مركزة على وجه حافظ بينما نسمع صوت المخرجة وهي تلقي الأسئلة في محاولة لتحفيزه على الخروج عن صمته، أو صوت حافظ وهو يجيب عما يروقه بشكل متشظٍ، أو صوته وهو يقرأ إحدى قصصه، أو صوت المخرجة وهي تعلق أو تقرأ قصة، فيتنوع ما يدور في شريط الصوت رغم محدودية المساحة التي تتحرك فيها الكاميرا، في مشاهد أخرى ينقسم الكادر نصفين بين الابنة سامية في حجرتها والأب حافظ في حجرته، الابنة في المطبخ تعد الطعام، والأب حافظ في الحمام يتوضأ، تتكرر لقطات الوضوء ويبدو مستغرقاً وهو يمرر المياه بعناية بين أصابعه، تضع كاميرا هند، بالمشاركة مع أحمد مجدي مرسي ومحمد الحديدي، جولات حافظ داخل ذاته في إطار لايكسر حالة التكرار والرتابة التي يعيشها كأنها قدر محتوم، ولكنها تدفع المشاهد لتأمل الحالة والرغبة في معرفة ما يحيطها من غموض. تطلب هند أن يتحدث أكثر عن والده فتلمع عيناه ويقول: "كان بيحبني أكتر من أي حاجة وبيكرهني أكتر من أي حاجة" وحين تسأله إن كان قد أحبه فيجيب: "أنا بعبده!".
تبدو الابنة، سامية، بطلة رئيسية ومشاركة للقاص المنعزل، تحلق له ذقنه، وتعد الطعام، وتشاركه في مشاهدة التلفزيون. تبدو على الشاشة صورة لسامية شابة تتسلم جائزة في الشعر عام 1997، تنتقل الكاميرا إلى سامية في عزلة أبيها وقد تخطت الستين
تزوج حافظ في السابعة عشرة بناءً على رغبة أبيه، وهو ما اعتبره "غلطة" أو "خطيئة" حتى أنه هرب يوم زفافه وشاهد فيلماً لتشارلي شابلن في السينما، لم يشجع الأب ابنه على الكتابة، ولم يوافق على مغادرته الإسكندرية، لكن حافظ كان متمرداً، وحين فر من القاهرة كان الأب قد توفى.
لاحقاً، اضطرته الظروف أن يكون أباً وأماً في حياة ابنتيه. في الفيلم، تبدو الابنة، سامية، بطلة رئيسية ومشاركة للقاص المنعزل، تحلق له ذقنه، وتعد الطعام، وتشاركه في مشاهدة التلفزيون. تبدو على الشاشة صورة لسامية شابة تتسلم جائزة في الشعر عام 1997، تنتقل الكاميرا إلى سامية في عزلة أبيها وقد تخطت الستين، وحافظ يقول: "لم أكن أريد لبناتي أن يكونوا أدباء فالإبداع شاق، لم أجعلهم يقرأون". كان يخشى أن تصبحا مثله! الكاميرا تعود إلى سامية وهي منهمكة في إعداد الطعام. في مشهد آخر تسأله هند: "في ناس محظوظين يا عم حافظ؟" فيجيب: "آه، معظم الناس العاديين"، فتسأله: "علشان كدا كنت عايز بناتك يبقوا محظوظين" فأجاب: "آه".
في مقال نشره صبري حافظ بمجلة الطليعة عام 1972 عن محمد حافظ رجب، بعنوان "تقديم أجنة الرؤى الجديدة"، يشير إلى أثر جريمة قتل الأب في أعماله القصصية، ويقول في إحدى فقراته: "في هذه الأقاصيص محاولة دائمة لتناول هذا النزوع البالغ التعقيد بقتل الأب، وميل دائم إلى تجسيد حالات النزوع في تقمصها للبطل وتسلطها عليه. يقول فرويد إن جريمة قتل الأب هي الجريمة الأساسية والأولية للبشرية، وكذلك للفرد، وهو على أي حال المصدر الرئيسي للشعور بالذنب، رغم أننا لا نعرف ما إذا كان هو المصدر الوحيد".
وليس بعيداً عن ذلك، ما رواه حافظ لهند، وجسدته بموسيقى تصويرية وأضواء مبهرة تعبر عن حالة كالحلم. يحكى حافظ رجب عن الصوت الذي سمعه في حجرته في العجوزة، بعد كل ما حدث معه في القاهرة، يقول إنه اخترق الحائط ودعاه إلى جامع السيدة زينب، وهناك وجد نفسه يزحف أرضاً، حتى وجد نفسه في محطة رمسيس فانتصبت قامته وعاد إلى الإسكندرية. لا يبدو أن لديه شكاً في أن فراره من القاهرة كان بأمر سماوي!
محكمة جيل التسعينات في الإسكندرية !
قال الرجال المجربون في نفس واحد: نحن_الرجال_المجربين_ نقول: هذا الصغير أحمق فليرجع عن غيه ابنك هذا، وإلا فستسقط اللعنة عليه، كان غيره أشطر منه، لو كان في إمكاننا أن نحضر لبن العصفور من ثدي أمه لكنا قد أحضرناه من زمن، العالم أبلى جلودنا حتى فهمنا، أدركنا، الحقيقة موجودة عندنا هنا، حيث نولد، ونكبر، ونعمل، ونتزوج، وننجب أولاداً ونعيش، كل ما عدا ذلك أوهام يخلقها الرجال الكاذبون، يأكلون لحم موتانا، هؤلاء المتأنقون ويقولون: آمين… "فقرة من قصة جولة ميم المملة".
في إحدى مراحل التصوير، أنضم للحوار القاص أحمد عبد الجبار، وهو أحد أعضاء ندوة أصيل الأدبية السكندرية في التسعينيات، انضم إلى رجب في جلسة الشرفة المطلة على العالم من بعيد، يقول عبد الجبار للكاميرا إن زيارته لحافظ من أجل دعوته لندوة عنه في التسعينيات جعلته لا يخلص للكتابة بعد أن صدم في صورة كاتبه المفضل في عزلته، وتغيرت علاقته بالعالم والكتابة واعتبر ما رآه مصيراً لا بد من تجنبه.
يسأل عبد الجبار كاتبه المفضل لماذا لم يحضر الندوة آنذاك؟ كانت ابتسامة حافظ رجب عند الرد لا تخلو من الاستهجان، وقال إنه منقطع عن الأجيال كلها، مؤكداً على أن العزلة قدر ربنا وعقاب لكنه لا يتقبله! يسأله عبد الجبار: "هل الكتابة ذنب؟" فيجيب: "الكتابة تكفير عن الذنب". وحين يسأله ما هو الذنب يرد بشكل قاطع: "لاّ"، وأشاح بوجهه وصمت.
يسأل عبد الجبار كاتبه المفضل لماذا لم يحضر الندوة آنذاك؟ كانت ابتسامة حافظ رجب عند الرد لا تخلو من الاستهجان، وقال إنه منقطع عن الأجيال كلها، مؤكداً على أن العزلة قدر ربنا وعقاب لكنه لا يتقبله! يسأله عبد الجبار: "هل الكتابة ذنب؟" فيجيب: "الكتابة تكفير عن الذنب"
جلس حافظ على سريره يستمع إلى شرائط الندوة التي أقيمت عام 1995 ولم يحضرها، بدا النقاش كأنه محاكمة لحالته، أو محاولة للفهم من مجموعة كتاب شباب، يخافون من الوقوع في نفس المصير، ما بين إحالة الأمر لحالته النفسية أو لظرف اجتماعي عاشه منافٍ لطبيعة النموذج الوجودي الذي قدمه في كتابته، بينما اعترض آخرون على التعرض لحياته الشخصية. وبدا كأنه قد فقد اهتمامه وبدأ يتناول طعامه وهو يستمع لهذا السجال، يقطع بالشوكة ما في طبقه ويفتته ولا يظهر على وجهه أي تعبير. يعلق في مشهد آخر: "أنا كل ما كنت أتعرض لهزيمة كنت أكتب، فلا أملك رداً لمن يسألون عن توقفي عن الإبداع!" وهو ما عبر عنه في موضع آخر: "كلما شعرت أني مطارد أكتب نصاً جديداً".
أشارت هند في مقطع صوتي إلى أنها قد رأت حافظ لأول مرة في حفل توقيع أعماله الكاملة، ربما كان أول وآخر مرة يخترق فيها عزلته الطويلة، منذ هذا اليوم كان الفيلم يداعب مخيلتها، أن تصنع فيلماً تسجيلياً بنزعة روائية عن أديبها المفضل
فيلم تسجيلي بنزعة روائية
"هل يمكن لأي إنسان أن يعيش وحده برفقة رعبه؟" (من قصة حديث شاعر مهزوم)
صدرت الأعمال الكاملة لمحمد حافظ رجب عن دار العين للنشر عام 2011 على جزءين، بتحرير الشاعر أشرف يوسف، وضم الجزء الأول نصوصه القصصية منذ مجموعة غرباء 1968 ، ومجموعة الكرة ورأس الرجل 1968، مروراً بمجموعات مخلوقات براد الشاي المغلي 1979، حماصة وقهقهات الحمير الذكية 1992، اشتعال الرأس الميت 1992، طارق ليل الظلمات 1995، رقصات مرحة لبغال البلدية 1999، ومجموعة عشق كوب عصير الجوافة 2003، أما الجزء الثاني فقد ضم مجموعة قصصية غير منشورة وقصصاً متفرقة غير منشورة أيضاً، وكل ما كتب عنه من مقالات نقدية ومعارك ورسائل ووثائق وصور وغير ذلك.
أشارت هند في مقطع صوتي إلى أنها قد رأت حافظ لأول مرة في حفل توقيع أعماله الكاملة، ربما كان أول وآخر مرة يخترق فيها عزلته الطويلة، لكنه ظل صامتاً ثم قال: "ما مضى قد مضى والمأساة تتكرر تتكرر" ثم انصرف. منذ هذا اليوم كان الفيلم يداعب مخيلتها، أن تصنع فيلماً تسجيلياً بنزعة روائية عن أديبها المفضل، منذ كانت تسير في شارع الاستاد الطويل بالإسكندرية وتشعر بثقل ورهبة، حتى قرأت قصة حافظ عن حارس الشارع الذي مات وسكن الحزن مكانه، فأندهشت من الأثر الذي نتركه وراءنا وتعلق خيالها بنصوصه، وحين عادت للشارع الذي سكن فيه حافظ بحي المتراس، الذي أطل على تفاصيله من شرفة عزلته، وكان أحد أبطال فيلمها، وجدته قد تغير تماماً، وأختفت معالمه بعد إقامة كوبري، وكأن عالم حافظ الواقعي قد انتهى بموته، لكن عالمه الخيالي ما زال حياً في إبداعه الذي سبق عصره، كما أن الفيلم وثيقة حية على تجربته الإنسانية.
---------------------------------
المقاطع بالخط الثقيل كلها منقولة عن الأعمال الكاملة لمحمد حافظ رجب المنشورة في جزئين من منشورات دار العين
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون