تندرج هذه المادة ضمن ملف "أسرار الروائح الشرقية"
تلقي الحرب الدائرة بظلال مدمرة على حياة الشعب السوداني، ولا سيما المرأة التي باتت في خطر المواجهة حتى باتت احتياجات أسرتها واحتياجاتها الخاصة في مهب الريح، لتصبح تقاليد السودانيات على شفير الضياع، مما يفقد المرأة إرثاً ثقافياً ومجتمعياً طويلاً، تميزت خلاله بفنون الجمال والعناية بتفاصيل الذات.
حفرة الدخان تواجه شبح الزوال
في الساعات الأولى من الصباح الباكر اعتاد المارّة في شوارع الخرطوم وأم درمان أن يشهدوا طابور الشاحنات الضخمة المتجهة نحو "الزرائب" وهي محلات بيع الحطب والفحم في الأسواق الشعبية المترامية هنا وهناك، حيث تمثل واحداً من أهم منافذ بيع احتياجات المنزل السوداني، الذي لا يزال قطاع كبير منه يعتمد على الأخشاب والفحم في الطهو، لكن الوضع بعد الحرب ليس كما قبلها، فقد ارتفعت أسعار بعض أنواع "أجولة" الفحم قرابة الضعف، وزال تكدس عربات النقل الضخمة أمام المحلات والمخازن، ومعظم "الزرائب" أغلقت أبوابها في وجه الجمهور بسبب الغلاء الفاحش الذي ضرب أسعار السلع التي تقدمها للمواطنين، حتى باتت من أهم الموروثات لدى المرأة السودانية تواجه شبح الزوال.ارتفعت أسعار الأخشاب كالطلح والشاف" والتي تستخدمها السودانية في حفرة الدخان لترطيب وتعطير جسمها
تمثل أخشاب "الطلح" و "الشاف" و "الهبيل" أهمية كبرى لدى المرأة السودانية، إذ ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـ"حفرة الدخان"، التي تعتمد عليها المرأة من أجل ترطيب وتعطير جسمها، وتنتشر حفر الدخان بكثرة في منازل الأحياء الشعبية في كافة ولايات السودان، وهي عبارة عن حفرة في الأرض على عمق قرابة 50 سم، بداخلها إناء فخاري يتم حرق الحطب بداخله، يعلوها الـ"برش" المصنوع من جريد النخل بفتحته الدائرية بحجم الحفرة، وهو بديل من "نطع" الذي كان يتم صنعه من الجلد المدبوغ، إذ تجلس المرأة على شفا الحفرة مغطاة بالـ"شملة" وهي نسيج خشن من شعر الغنم يمنع تطاير الدخان لتتلقى دخان الحطب على جسدها العاري، بينما تدهن جسمها بالشحم المخلوط بزيوت السمسم والزيتون بالإضافة لعدد من العطور الطبيعية وماء القرنفل، وتعد حفرة الدخان إحدى أهم سمات المرأة المتزوجة بالسودان، ويٌقَدَّر استخدام المرأة السودانية للحفرة من 4 إلى 8 مرات شهرياً.
تضاعف الأسعار وعزوف عن شراء الحطب
في حي"أبوروف" بمدينة أم درمان، حيث تنتشر "زرائب" بيع حطب الدخان، تبدو الأجواء هادئة، وحركة البيع شبه منعدمة، التقى رصيف22 محمد المسعودي، أحد أقدم بائعي الحطب في المنطقة، وبسؤاله عن أوضاع السوق، أشار إلى انخفاض القوة الشرائية للحطب والفحم بنسبة قد تصل إلى 50% منذ الأسبوع الثاني للحرب، وذلك بعد إقبال كثيف لتخزين حطب الطعام مع بداية الصراع، مؤكداً أن أرباحه خلال الأسابيع الثلاثة الماضية بالكاد تغطي قيمة الإيجار ومصروفات النفايات ورواتب العمال. وعن أسباب عزوف المواطنين عن شراء الحطب، أفاد بأن ارتفاع أسعارالطلح والشاف التي تمثل العائد الأكبر في تجارته أدت إلى عدم اهتمام الغالبية بشرائه، وذلك باعتباره من سلع الرفاهية، رغم اعتماد النسوة عليه بشكل كبير.تجلس المرأة على شفا الحفرة مغطاة بالـ"شملة" التي تمنع تطاير الدخان لتتلقى الدخان على جسدها العاري، بينما تدهن جسمها بالشحم المخلوط بالزيوت وماء القرنفل
واستطرد العم محمد: "غاب الغازولين بسبب الحرب فارتفعت أسعار النقل، خاصة أن الفحم والحطب مصدرهما الأساسي ولاية القضارف البعيدة، كذلك يتخوف سائقو الشاحنات على أنفسهم في ظل انعدام الأمن على الطرق، مما اضطر المزارع لأن يرفع الأسعار كثيراً ليغطي احتياجاته بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية".
ويشير إلى أن سعر قنطار حطب الطلح والشاف تجاوز 18 ألف جنيه سوداني، أي ما يعادل (30 دولاراً)، فيما كان سعره قبل الحرب الجارية حوالى 10 آلاف جنيه.
ارتفاع أسعار العطور والبخور والزيوت
الأوضاع لا تختلف كثيراً في "الختمية" في الخرطوم بحري، المواجهة لـ"حي العرب" بأم درمان، حيث مئات محلات العطارة المتخصصة ببيع العطور والبخور والحناء ومستلزمات العناية بالجسم، التي تعتمد عليهن المرأة السودانية بشكل كبير في زينتها الشخصية، فالتبخير وفنون رسم الحناء أحد الموروثات في الثقافة السودانية، ومؤخراً في ظل الحالة الاقتصادية الطاحنة تأثرت صالونات السيدات وهي من المشاريع التي تدر دخلاً كبيراً للعديد من الأسر السودانية، إذ يتم تحنين السيدات أي تجميلهن، وإعداد تركيبات الكريمات والزيوت العطرية للجسم، بالإضافة إلى تسريحات الشعر المتنوعة التي تشتهر بها نسوة أعالي وادي النيل.يقول محمود اليمني وهو صاحب إحدى حانات البخور والعطور أن أوضاع تجارته قد تضررت هي الأخرى جراء الحرب الجارية، إذ ارتفعت أسعار "الصندل" و"المسك" و"الضفرة" و"الصاروخ" و"السواردباريس" و"الفلوردمور" بصورة ملحوظة، وجميعها من المنتجات الطبيعية الأساسية التي تستخدمها المرأة لتبخير نفسها ومنزلها، بالإضافة لاستخدام زيوتها في العطور، كما شهدت بعض أنواع كريمات البشرة وزيوت الشعر المستوردة غياباً واضحاً أدى إلى تضاعف أسعارها في حال وجدت.
تأثرت صالونات التجميل حيث يتم تحنين النساء وإعداد التسريحات التي تشتهر بها نسوة أعالي وادي النيل
يقول: "لقد خسرنا موسمنا التجاري للعام الحالي، إذ اعتدنا أن تزداد القوة الشرائية لدينا خلال مايو/أيار ويونيو/حزيران من كل عام بسبب موسم الأفراح والزواج السنوي، لكن يبدو أن المسؤولين كان لهم رأي آخر.
حنّانات صالونات الخرطوم بلا عمل
"من فروع الحنة وزهرة التفاحهاج بلابل فكري النسيم الفاح"
اعتادت المرأة السودانية منذ القدم أن تزدان، حتى أصبحت الزينة مما تشتهر به، ولا شك أن الحناء إحدى أدوات التجمل الفريدة لدى السودانيات، لدرجة أن المرأة أصبحت تتلقى العتاب من أهلها وزوجها وصديقاتها اذا أحجمت عن استخدام الحناء وبخور الجسد لفترة طويلة، وفي الوقت الذي لم تتغير خلاله أسعار أوراق الحنة القناوية كثيراً في السودان، فإن جميع مكوناتها من العطور الطبيعية والمثبتات قد تعرضت لارتفاع سعرها خلال الفترة الأخيرة، وهو ما أثر على أسعار جلسات التدليك ورسم الحناء في صالونات الخرطوم وأم درمان.
"أم حسين" وهي إحدى الحنانات المتخصصات في رسم الحنة، والتي تعمل في هذا المجال منذ أكثر من ثلاثين عاماً، تشتكي بدورها من عزوف الإقبال على جلسات العناية بالبشرة والشعر في الصالون منذ اندلاع الحرب، وتقول إن النسوة أصبحن يلجأن لجلسات التحنين بأنفسهن في المنازل لتوفير أجرة الحنانة، خاصة في ظل زيادة أسعار "المحلبية" و"الميسو" و"السورتيه"، وهي المواد المستخدمة في جلسات رسم الحناء، كما أضحت مبيعات "الدلكة" وهي تركيبة سودانية تشكل مزيجاً من عجين الذرة والعطور الطبيعية المدخنة على نار الطلح، وتستخدم في تدليك وتنعيم الجسم، أصبحت قليلة بسبب ارتفاع أسعار العطور وحطب الدخان.
وتؤكد أم حسين إلى أن الإقبال على صالونات النسوة في السودان بات ضعيفاً ويمكن للجميع تمييز تراجعه بوضوح، في ظل اضطرار الأسر إلى ترشيد استهلاك الأموال بسبب الحرب، وتوفيرها من أجل السلع الغذائية التي باتت تمثل عبئاً كبيراً بسبب نقصها وغلاء أسعارها.
الفوطة الصحية أزمة مستمرة
في الوقت الذي تعاني خلاله غالبية الأسر السودانية من اقتراب خطر المجاعة، وفي ظل الظروف الاقتصادية المتدهورة كل يوم نتيجة اندلاع الحرب الجارية، تضاعفت أزمة الفوط الصحية بعد أن كانت قد تفاقمت بشكل كبير قبل الحرب، فقد قامت هيئة التأمين الصحي خلال عام 2021 بدعم الفوط الصحية لتكون ضمن الحزم التي يكفلها التأمين الصحي للنساء من خلال الصيدليات بقيمة 50% من إجمالي قيمتها، بالإضافة إلى دور حملة "فوطة تسد الخانة" النسوية التي سعت لتوفير كميات ضخمة من الفوط الصحية للنساء في ولايات السودان المختلفة بعد أزمة ارتفاع أسعارها منذ عام 2020؟أطلت الحرب بوجهها القبيح لتعيد أزمة الفوط الصحية من جديد، بعدما ارتفع سعر عبوة الفوط الصحية من 7500 جنيه سوداني (12.4 دولار) إلى 11 ألف جنيه (18.3 دولار)، في الوقت الذي تغيب فيه المنتج خلاله عن أرفف الصيدليات التابعة للتأمين الصحي في ولاية الخرطوم، في ظل تأكيدات إدارة عدد من أفرع سلسلة صيدليات "شوامخ" في ولاية الخرطوم لرصيف22 أن مبادرة دعم الفوط الصحية قد توقفت قبل الحرب بأشهر، فيما ازداد سعرها في بعض الصيدليات في ظل أزمة حادة تحول دون توفيرها.
أزمة الفوط الصحية سبقت الحرب، لعدم وجود مصنع محلي لهذا المنتج، حيث يتم استيراده بضرائب مرتفعة لتصنيفه من الرفاهيات، اليوم يتجاوز سعر العبوة 18 دولار
تقول نبأ صلاح إحدى الناشطات في حملة "فوطة تسد الخانة" لرصيف22 إن الحملة تسعى لتوفير كميات من الفوط الصحية للمساعدة في سد العجز السوقي الذي حدث نتيجة الحرب الجارية، بالإضافة إلى دور الحملة في دعم المجتمعات الريفية وسجون النساء وفتيات المدارس ودور إيواء البنات باحتياجاتهن من الفوط الصحية ومواد النظافة الشخصية، مشيرة إلى أن ارتفاع أسعار الضرائب الخاصة بالفوط الصحية باعتبارها سلعة رفاهية هو أحد أهم أسباب استمرار غلاء أسعارها.
في نفس السياق، قالت الناشطة الاجتماعية ليلى فضل لرصيف22 إن الفوط الصحية شأنها شأن كل السلع التي تضاعفت أسعارها بسبب الحرب الجارية، ولا تقل أهمية لدى المرأة عن الغذاء، ولكن الغالبية من النساء يضطررن إلى استخدام الأنواع المصنوعة من الأقمشة التي يمكن إعادة استخدامها مجدداً، بسبب الارتفاع المبالغ فيه لأسعارها، مطالبة بأن يكون هناك مشروع لصناعة الفوط الصحية محلياً في السودان بدلاً من الاعتماد على الاستيراد حصراً وكلفته المتزايدة في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي تتأثر بها البلاد.
شهر من الحرب في السودان كان كفيلاً بأن يجعل المرأة السودانية تدفع الثمن باهظاً إثر غياب متطلباتها الخاصة الأساسية، وأدوات زينتها ورفاهيتها الشخصية، التي تمثل خصائص تراثها الفريد، لتلقي بها في هاوية التقهقر، دون أن تشكو أو تتذمر وإن كان ذلك على حساب ضرورياتها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون