يدرس طلّاب لبنان أهمية القطاع السياحي في بلدهم منذ الصفوف الأولى، فالاقتصاد اللبناني، قبل الحرب الأهلية وبعدها، كان يعتمد على السياحة بشكل أساسي، ففي العام 2003 على سبيل المثال، ضخّت السياحة 6 مليارات و347 مليون دولار في البلاد، وارتفع الرقم عام 2009 إلى 7 مليارات و200 مليون دولار، ونحو 12 مليار دولار عام 2010، أي قبل أن يبدأ القطاع بالانهيار لأسباب سياسية متعددة.
لكن، بعيداً عن السياسة وتأثيراتها، يتحمل القيّمون على القطاع السياحي في لبنان جزءاً من المسؤولية في تراجعه، إذ لا توجد سياسة سياحية واضحة، ولا تفكير إستراتيجي في كيفية إعادة لبنان إلى موقعه السياحي من خلال جذب السياح، مع العلم أن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي ضربت لبنان ولا تزال منذ العام 2019، شكّلت فرصةً ثمينةً لبناء تفكير إستراتيجي يُعيد لسياحة لبنان بريقها، لكن لم يُستفَد منها، طبعاً.
مؤخراً، لم يعد لبنان وجهةً سياحيةً للعرب وعدد كبير من الأجانب، بسبب الظروف السياسية، وبسبب غياب التجدد وفقدان البنية التحتية وأبسط الخدمات، وضعف عوامل الجذب وغلاء الأسعار. وبرغم ذلك لم يتعلم أحد من تجارب الماضي، وها هي تُعاد اليوم بالطريقة نفسها.
لا توجد سياسة سياحية واضحة، ولا تفكير إستراتيجي في كيفية إعادة لبنان إلى موقعه السياحي من خلال جذب السياح
والسؤال المطروح أكثر من أي وقت مضى: كيف يُنافس لبنان الدول القريبة والبعيدة بالسياحة، خاصةً أن مقولة "التزلج والسباحة" في يوم واحد مرّ عليها الزمن: بخدمات الدولة الغائبة، أم بالمشاريع السياحية الاستثمارية الفريدة، أم بأسعاره الخيالية؟
الحلول ليست بالترقيع
تبدأ المشكلة من أسعار تذاكر الطيران إلى لبنان، فهي بحسب وزير السياحة السابق فادي عبود، من الأغلى في المنطقة. إذ يقول عبود في حديثه إلى رصيف22: "أسعار بطاقات السفر إلى لبنان، بالمقارنة مع عمان والقاهرة وإسطنبول وقبرص، وحتى مع العدو الإسرائيلي، مرتفعة جداً، وهذا الموضوع من الضروري معالجته، والمعالجة تتم من خلال زيادة التنافس وليس خفض الأسعار، أي أن نسمح لشركات طيران ومنها منخفضة الثمن، أن تأتي إلى لبنان، ومن هنا تبدأ الحلول".
ويضيف: "بعد ذلك، يأتي موضوع الأمن وموضوع الخدمات في المطار، كخدمة التوصيل، وموضوع الانتظار في المطار في العودة وفي المغادرة، وهذا الموضوع يجب أن يُعالج، بدءاً من تأمين الموظفين الضروريين لهذه المهام، حتى لو اضطررنا إلى تأمين رواتبهم بالدولار، ومعالجة الخلل بماكينات الكشف التي تعمل بنصف طاقتها دائماً"، مشيراً إلى أنه بعد الخروج من المطار هناك مشكلة السير والزحمة وعدم الالتزام بالقوانين، وهذا أيضاً يتطلب معالجةً أمنيةً وقانونيةً وحتى إعلامية عبر حملات التثقيف.
مع بداية الأزمة الاقتصادية عام 2019، كانت المئة دولار في لبنان بمثابة ثروة لممتلكها، بسبب وجود بعض الدعم على المواد الأساسية، وعدم اعتياد أصحاب المصالح على ارتفاع الدولار، لكن مع مرور الوقت عاد كل شيء إلى ما كان عليه قبل الأزمة، علماً بأن الحد الأدنى للأجور في لبنان أصبح 9 ملايين ليرة، أي نحو 100 دولار أميركي في حال استمر سعر الصرف على 100 ألف ليرة لكل دولار، بينما كان الحد الأدنى للأجور قبل الأزمة 600 ألف ليرة، أي 400 دولار أمريكي.
عقلية الربح السريع
قبل الأزمة الاقتصادية التي يمرّ بها لبنان منذ العام 2019، كانت أسعار المسابح على سبيل المثال تتراوح بين 20 و50 دولاراً، بينما سجلت انخفاضاً كبيراً عامي 2021 و2022، حيث كانت تتراوح بين 50 ألفاً و400 ألف ليرة لبنانية كثمن للدخول، أي ما بين دولارين إلى 15 دولاراً بحسب أسعار الصرف في العام 2022، وكانت أسعار الخدمات من مأكل ومشرب، أيضاً متدنيةً، بالنسبة للوافدين من الخارج، وهذا ما جعل المغترب يرغب في العودة للسياحة في لبنان، والسائح كذلك، إذ تُشير أرقام وزارة السياحة إلى أن عدد السائحين الوافدين إلى لبنان بلغ نحو 1.4 ملايين سائح في العام 2022، أي بارتفاع بنسبة 60 في المئة عن العام 2021.
في ظل المعاناة في لبنان، وغياب الخدمات، لا يمكن جذب السياح سوى بالكلفة المنخفضة للسياحة، ففي حال أصبحت الكلفة مرتفعةً كما في السابق، لأي سبب سيختار السائح لبنان لكي يزوره؟
اليوم، عادت أسعار الخدمات السياحية إلى سابق عهدها، في عدد كبير من المطاعم والمقاهي والملاهي والمسابح، وذلك لا يدلّ سوى على أن أصحاب هذه المصالح يبغون الربح السريع بدل التفكير الإستراتيجي، ففي ظل المعاناة في لبنان، وغياب كل مقومات العيش، وتقاعس الدولة عن تأمين الخدمات، والضعف في الطاقة، لا يمكن جذب السياح سوى بالكلفة المنخفضة للسياحة، ففي حال أصبحت الكلفة مرتفعةً كما في السابق، لأي سبب سيختار السائح لبنان لكي يزوره؟
يقول مدير مطعم معروف في بيروت، إن "الأسعار ارتفعت في كل المطاعم التي تستورد جزءاً من إنتاجها بسبب ارتفاع الدولار الجمركي، كذلك بسبب تصحيح الرواتب والأجور، فمع بداية الأزمة كانت الرواتب قليلةً مقارنةً بما هي عليه اليوم، هذا من دون الحديث عن ارتفاع كلفة الإيجارات، والخدمات الأخرى كافة".
بالنسبة إلى عبود، "صحيح أن الأسعار ارتفعت وعادت إلى ما كانت عليه قبل الأزمة، لكن ليس في كل الأماكن، فاليوم يمكن للزائر دفع 30 أو 35 دولاراً والحصول على وجبة غداء كاملة على الطريقة اللبنانية"، مشدداً على أنه "بالنسبة إلى موضوع العرض والطلب، هناك المئات من المطاعم بل الآلاف وهناك جلسات تبدأ من 10 دولارات وقد تصل إلى 100 دولار أمريكي، وتالياً الخيار موجود".
ويرى أن "في لبنان الكثير من الأسعار التي تسمح للسائح بأن يقصد البلاد، والحصول على خدمة بسعر معقول، وإذا أردنا المقارنة مع الدول الأخرى، فأسعار الخدمات في لبنان هي أسعار مقبولة، ولكن موضوع السياحة لا يقتصر على سعر بطاقات السفر، فهناك خدمات عدة أخرى أساسية، منها الكهرباء، فاليوم صاحب المطعم أو الفندق، يعدّ ما يدفعه على الكهرباء أعلى مبلغ في الكرة الأرضية، علماً أنهم يحسبون الفاتورة على أساس أن الخدمة مقدمة 24 ساعةً في اليوم، في الوقت الذي تعطى فيه لمدة ساعات فقط، وهذا يسمى سرقةً بكل ما للكلمة من معنى، وهذه انعكاسها يظهر جلياً على الأسعار في كل المحال".
كيف ننافس الدول المجاورة؟
يتحدث نقيب أصحاب الفنادق في لبنان بيار الأشقر، بحزن كبير عن واقع الفنادق، "فبعد أن كانت نسبة الإشغال ما بين الأعوام 2008 و2010، تصل إلى حدود 78 في المئة في لبنان، و100 في المئة في بيروت، أصبحت لا تصل إلى 70 في المئة في العاصمة في عز الموسم"، مشيراً لرصيف22، إلى أن الأسعار في الفنادق اللبنانية أقل من الأسعار في كل الدول المحيطة، مقارنةً بحجم الخدمات المقدّمة.
كانت نسبة إشغال الفنادق ما بين الأعوام 2008 و2010، تصل إلى حدود 78٪ في لبنان، و100٪ في بيروت
في جولة سريعة على أسعار الفنادق بين بيروت وإسطنبول، يتبيّن أن الأسعار في لبنان لفنادق النجوم الخمس، أقل منها في إسطنبول بنحو النصف، فعلى سبيل المثال كلفة قضاء 3 ليالٍ لشخصين بالغين في فنادق بيروت الفاخرة، تتراوح كلفتها بين 380 و880 دولاراً، ففي فندق الرامادا تبلغ الكلفة 375 دولاراً، و480 في فندق الريفييرا، و630 في فندق الرويال، و830 في الموفمبيك، وأخيراً 880 في فندق فينيسيا.
بينما في إسطنبول، تبلغ كلفة الليالي الثلاث، لبالغين اثنين 1،271 دولاراً في فندق " CVK Park Bosphorus Hotel Istanbul"، و1،030 دولاراً في فندق " Grand Hyatt Istanbul"، و1،265 دولاراً في فندق "The Stay Boulevard Nisantasi"، و902 في فندق "The Marmara Taksim".
ويؤكد الأشقر أنه نسبةً إلى الكلفة التشغيلية والخدمات التي ارتفعت أسعارها، تبقى فنادق لبنان الأرخص، مشيراً إلى أن الأسعار لم تعد إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
قد لا يمكن للفنادق رفع أسعارها أكثر من ذلك بسبب المنافسة الشرسة التي تلقاها من بيوت الضيافة من جهة، ومن المنازل التي يمكن استئجارها عبر تطبيق "airbnb" الشهير الذي ينتشر في العاصمة بيروت وفي بعض المناطق اللبنانية، فبالنسبة إلى بيوت الضيافة أو الشاليهات الخاصة، فإن كلفة قضاء الليلة فيها صارت أغلى من الفندق، وتبدأ من 150 وتصل إلى 300 دولار لشخصين أو أربعة أشخاص، بينما الأسعار في تطبيق "airbnb" بحسب ما تقدمه يمكن أن تصل إلى أكثر من 100 دولار لليلة الواحدة.
للأثرياء فقط
إن كان المغترب الذي يعود إلى لبنان من الخارج، وحتى الأجنبي السائح الذي يأتي حاملاً عملات صعبةً في جيبه، يجد صعوبةً في الاعتياد على أسعار القطاع السياحي في لبنان، فكيف يكون حال الساكنين في لبنان الذين يرون أن من حقهم القيام ببعض النشاطات للترفيه عن أنفسهم؟
لنأخذ على سبيل المثال رياضة المشي في الطبيعة، أو "الهايكينغ"، فبرغم ارتفاع كلفة النقل كانت هذه الرياضة عام 2021، تكلف الشخص نحو 50 ألف ليرة لبنانية، وكان سعر صرف الدولار 12 ألف ليرة، أي 4 دولارات، بينما اليوم أصبحت تكلف نحو 18 دولاراً، أما المطاعم فقد بات روادها من فئة واحدة من اللبنانيين، وكذلك أماكن السهر واللهو.
أكثر من مليون ونصف المليون سائح من المتوقع قدومهم إلى لبنان هذا الصيف، وعليه يجب النظر بجدية إلى تحسين الخدمات، وتخفيض الأسعار، لأن المنافسة اليوم باتت كبيرةً والاستمرارية تتطلب الكثير من العمل والجدية والتفكير بعيد المدى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...