في زيارتي الأخيرة للسعودية، ذهبت خصيصاً لرؤية المنتج الفني وكاتب سكيتشات "مسامير"، عبد العزيز المزيني، بعدما سألت عن مالك نجر، المخرج وشريكه في الكتابة، ولم أجده. كانت الزيارة من أجل أن أخبرهم بمدى تعلّقي بتلك الحلقات المذهلة التي أرى فيها السعودية الجديدة التي يمثلها جيل يعنيني وأعنيه، يحاول التخلص من حياة لم تعد صالحةً للمستقبل، وبات القرار الأفضل للتخلص من أوهام السنوات السابقة عنده هو تلك "المسامير" التي تصطدم بالقديم. لا يبدو أنها في معركة بقدر جموحها داخل أفكار ظلامية، ولم يكن مناسباً مجرد تخيلها من قبل. يولد الضحك من خيال محروم فيصبح أكثر صدقاً وصداميةً من دون أن يقصد.
المزيني ونجر تجاوزا في شركتهما "ميركوت"، وجود ممثلين أمام الشاشة، وقررا صناعة شخصيات من الكرتون ربما للتحكم وتجاوز الرقابة والسخرية من دون تردد في أي شيء، ضمن مجموعات شبابية أوسع من السعودية القديمة. هم في السعودية التي تناسبها محافظة مسامير الجديدة أكثر مما يناسبها حي جدّة القديم. وجد الجميع أنفسهم في شخصيات مسامير: سلتوح وسعد غنام وبندر إلى جانب النجم الأحب الذي سألت عنه شخصياً "طراد ريتشارد قلب الأسد"، الكلب الأخف ظلّاً في المسيرة الفنية العربية حتى الآن.
مسامير قدّم أول الأفلام العربية الحقيقية التي تخصّ المجتمع السعودي، أكثر مما تخصّ غيره، ليراه العالم على خلاف الإنتاجات العربية الأخرى التي لم ترِ أي جديد، فحاولت تعريب أعمال أثبتت نجاحها عالمياً
محافظة مسامير، ليس مجرد مسلسل كرتون سعودي. هو حي سعودي موازٍ على ركام القديم، ومدينة من لحم ودم تدقّ مساميرها الجديدة في نعش أخرى تحتضر، ويجمح بخيال أصحابه وينثر إبداعاً مدفوناً منذ سنوات، ويحاول أن ينقل الشباب من منطقة أمان نام فيها إلى أخرى أكثر حركةً ومدنيةً. رحلة طويلة خاضها شباب للتواجد في لحظة سابقة لم يلتفت إليها الجمهور، قدر التفاته إلى النجاح المدوي الحالي الذي يتناسى الرحلة، منذ 2011، لحظة خروجهم على اليوتيوب كأغراب عن الوسط الفني المعتمد فنياً وجماهيرياً، وصولاً إلى وقوفهم في قاعة مزدحمة بمشاهدين من حول العالم. ثمة مقامرة مغرية على مستوى البلد الأكبر، حدثت لنشاهد تطوراً كان آخره الموسم الثاني من "محافظة مسامير": درّة الإنتاج السعودي الترفيهي وأكثره جودةً وذكاءً وخفة ظل.
مسامير قدّم أول الأفلام العربية الحقيقية التي تخصّ المجتمع السعودي، أكثر مما تخصّ غيره، ليراه العالم على خلاف الإنتاجات العربية الأخرى التي لم ترِ أي جديد، فحاولت تعريب أعمال أثبتت نجاحها عالمياً، مثلما حدث في "أصحاب ولا أعزّ"، وغيره.
قصة كفاح ليست قصيرةً
قبل عشر سنوات تقريباً، بدأت شركة "ميركوت" لصناعة السكيتشات الكوميدية، وحازت على تفاعل كبير بين الأوساط الشبابية، تماماً كما الآن، ويتضح ذلك بتصفح قناة "مسامير" السعودية لأفلام الكرتون التي خرجت من رحم هذه القنوات. ربما ستكونون ضمن ملايين المتابعين لهذا الحدث السعودي الثائر على أوضاع المجتمع، والذي يُعدّ أول مسلسل كرتوني سعودي يُعرض على الإنترنت فقط، ويخضع لعملية إنتاج عالية الحرفية. وكثيراً ما لاقت مقالات مؤلفه اعتراضاتٍ رقابيةً من داخل الجريدة التي كان يعمل فيها فيصل العامر إلى برنامج كرتوني تخطّى حاجز الـ250 مليون مشاهد.
شجاعة التواجد أصبحت أكثر إغراءً مع تفاعل جمهور جديد من داخل المملكة يحاول البحث عن جديد، وجمهور من خارجها لم يصدّق أن ثمة شباباً سعودياً وراء نكتة جديدة متحررة تماماً. رؤية تصادف أنها ستزداد انتشاراً مع ظرف تاريخي سعودي سيتناسب معها تماماً.
سكيتشات مسامير أعادت اختراع فكرة الحبس في "أسانسير" مغلق، كمحاكاة لقصة نجيب محفوظ القديمة، والكشف عن المساوئ من الداخل.
بدأ الموسم الأول من المسلسل كعرض عالمي لا يخص السعودية فقط، على نتفليكس في حزيران/يونيو 2021، ليستمر تقديم الموسم الثاني كجزء من شراكة حصرية بين نتفليكس وشركة "ميركوت" في المملكة العربية السعودية لمدة خمس سنوات، تم توقيع اتفاقها في عام 2020، لإنتاج مسلسلات وأفلام عن المجتمع السعودي. يتناول المسلسل التغييرات التي تحدث في السعودية بنظرة فكاهية متمثلة في سكان محافظة مسامير، ومغامراتهم الغريبة، وتصرفاتهم الطائشة المرحة.
كما يتناول بالفكاهة الأغنية المصرية القديمة "بابا فين"، أو المشهد الشهير للممثل المصري أحمد زكي وهو يركض في الشارع نصف عارٍ، أو ظاهرة التعصب الكروي، أو يحاكي الفيلم الأجنبي الشهير cast away. ولم تكتفِ شراكة الثنائي الكوميدي ببرنامج مسامير فقط، إذ أنتجا الفيلم الكارتوني "الموت مرتين" وكذا برنامج "سنبر" الكوميدي، وكلاهما جاءا بالطابع الثوري نفسه الذي لم تعهده السعودية من قبل.
كوميديا سعودية أُسِّست على التقوى
قد يكون أبسط تعريفات الكوميديا، سرد حكاية بغرض السخرية والإضحاك، سواء كان السرد في فيلم أو رسوماً كارتونيةً أو stand up comedy أي عرض الشخص الواحد. وبعد الانتشار الكبير الذي حققته البرامج السعودية الكوميدية الساخرة المعروضة عبر موقع يوتيوب، بدايةً من برنامج "التاسعة إلا الربع"، جاء الاهتمام لاحقاً ببرامج لها الصبغة نفسها، مثل "على الطاير" و"لا يكثر" وغيرهما، مع ذلك يُمكن القول إن بداية الاهتمام باتجاهات الكوميديا الحديثة في السعودية، وبشكل مدروس، كانت في عام 2012، عندما أسس كل من رائد الأعمال أنمار فتح الدين، مع الكوميديان ياسر بكر والكوميديان بدر رضوان، ما يُعرف بـ"نادي جدة الكوميدي"، لاختيار مواهب فنية كوميدية.
بدأت القصة كوميدياً قبل أن تصل إلى مسامير الأكثر نضجاً، من "نادي جدة الكوميدي"، الأول من نوعه في السعودية في تقديم عروض وحفلات فنية بشكل دوري، ثم في 2014 انطلقت النسخة الثانية من "مهرجان الكوميديا الأوّل"، وكان آنذاك أبرز منصة سعودية لإنتاج الكوميديا. واستهدف المهرجان كبار نجوم الكوميديا، كما ألقى الضوء وفتح الباب أمام مواهب صاعدة، وأقام عدداً من الندوات حول فن الكوميديا. وفي آذار/مارس 2015، في النسخة الثانية من المهرجان، ازداد عدد الحضور المشاركين بشكل ملحوظ، كما ازدادت أعداد الجماهير السعودية المقبلة على الكوميديا، بوتيرة سريعة حتى وصلت إلى مرحلة مذهلة من التطور والتناول في "مسامير".
أوجدت شخصيات مسامير المجتمع السعودي بأطيافه المختلفة من دون تردد في قلبها. حلقات منفصلة لا تهذي أكثر مما تكشف عالمياً ( بل تكشف) كيف يمكن أن تصبح السعودية في الريادة كمساحة آمنة للإنتاج العربي، تمثّل السعودية الجديدة
استفاد مسامير بالطبع من تلك التجارب والحركة بوجهٍ عام. أوجدت شخصيات مسامير المجتمع السعودي بأطيافه المختلفة من دون تردد في قلبها. حلقات منفصلة لا تهذي أكثر مما تكشف عالمياً ( بل تكشف) كيف يمكن أن تصبح السعودية في الريادة كمساحة آمنة للإنتاج العربي، تمثّل السعودية الجديدة كما تمثّل جيل شباب كاملاً بات يملّ من الإنتاج المتشابه والشخصيات المحفوظة التي لا تقول شيئاً حقيقياً.
سكيتشات مسامير أعادت اختراع فكرة الحبس في "أسانسير" مغلق، كمحاكاة لقصة نجيب محفوظ القديمة، والكشف عن المساوئ من الداخل، وقدّمت في حلقة أخرى إعادة إنتاج لماضي صاحب المكتبة الذي يعاقب من يتأخر عن إرجاع الكتب المستعارة بالقتل، وغيرها من الشخصيات الكارتونية التي تكشف عن كوميديا خاصة تنبّه إلى مجتمع جديد له خصوصيته من خلال شباب يفهم الترفيه في التلفزيون والسينما عموماً، كما يفهم كيف يمكن إنتاج قصص من واقعنا لا الاكتفاء بمجرد النقل والإبهار.
تحياتي إلى صنّاع نتلمّس من خلال أعمالهم مساحات نقديةً عربيةً تخص المجتمع العربي ككيان أوسع أكثر مما تخص مجتمعات محليةً مغلقةً أو عالميةً، تتجاوز أزماتنا الشخصية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع