العالم العربي بمئات الملايين من أهله، واتساع مساحته الجغرافية، ومنجزه التراثي الفائق غيرَه من اللغات، وبتروله وغازه، واحتكار السلطة، وتكديس أسلحة لا توجه إلى العدو، وثوراته المجهضة، وانقلاباته الناعمة والدامية، واستهلاكه الغشيم لفوائض التكنولوجيا، وثرواته المستثمرة في شراء أندية رياضية أوروبية، وامتلاك حكامه وأثريائه عقاراتٍ في العواصم والمنتجعات حول العالم؛ هذا العالم العربي، في مجال إنتاج المعرفة، يبدو افتراضياً. ولا يملك ما يقدمه إلى العالم إلا الإبداع العلمي والثقافي. وأزمة الإبداع الأدبي والفني أنه لا يبلغ الضفاف الأخرى، ولا يأخذه "الآخر" بالجدية اللائقة. هذه حقيقة لا يخفف مرارتها إنجاز فردي هنا، ونبوغ هناك، انتظاراً لخطة طويلة المدى، وبرنامج زمني لتنفيذها.
من تسوقه مصادفة، أو ترتيب خاص، لقراءة قصيدة في محفل سيتباهى بتمثيله الشعر العربي. ومن يترجم له نصّ سيوثّق في حساباته التواصلية أنه "الأديب العالمي". لقب طاووسي لا يدّعيه أدباء حققت أعمالهم "العالمية"، وظلوا ينتسبون إلى جنسيات بلادهم، لا فرق بين هيمنغواي الأمريكي وماركيز الكولومبي. ونجيب محفوظ آخر المنشغلين بسراب "العالمية"، وكان حصوله على جائزة نوبل عام 1988 تنبيهاً إلى أهمية الترجمة، وبدونها يظل استهلاك الإبداع محلياً. وقد تضمنت حيثيات الفوز أربعة أعمال ليس منها رواية "الحرافيش"، ذروة إبداعه. فلا يعرفها أعضاء الأكاديمية. وفي كتاب "بيت حافل بالمجانين" يتحدث تسعة أدباء منهم محفوظ، ولا يذكر الثمانية الأجانب شيئاً عن العرب.
المصارحة تكبح التطاوس، وتدعو إلى التواضع، وتنجي العقلاء من فخاخ الأنانية والبارانويا. في كتاب "بيت حافل بالمجانين" لم يفاجئني تماماً تجاهل ثمانية أدباء كبار عالمنا العربي، تراثاً وبشراً وآداباً. هذه مفاجأة جزئية مهّد لها كتاب «دليل القارئ إلى الثقافة الجادة»، وظننت أن المسافة الزمنية بين الكتابين قد دمجت العرب في العالم، وأسهمت في حلول الأدب العربي في ذاكرة الآخر، واستحضار هذا الأدب كمرجعية جمالية إنسانية. وآمل أن يشهد جيل عربي آخر صعود رموزنا من الهوامش المحدودة إلى العناوين، كما في "بندول فوكو" لأمبرتو إيكو، "شفرة دافنشي" لدان براون، و"كافكا على الشاطئ" لهاروكي موراكامي، و"أن تقرأ لوليتا في طهران" لآذر نفيسي.
أضيف أيضاً روايتين ترجمها الشاعر المصري محمد عيد إبراهيم، ورحبتُ بنشرهما عام 2015 في سلسلة "رواية الهلال" حين كنت رئيساً لتحرير الهلال. أولاهما "مثل ترنيمة... قناع هندي لحياة دستويفسكي" للكاتب الهندي بيرومبادافام سري دهاران الذي تنازل عن حقوقه، وأسعده تلقي خمس نسخ من الترجمة. والثانية "في عشق جيفارا" للكاتبة الكوبية آنا ميناندس.
العالم العربي، بصفات وحقائق بدأتُ بها المقال، فخارج الخرائط الجمالية والفكرية. وأتاحت الثورات فرصة لتغيير يؤدي إلى تغيير الصورة الذهنية عن العرب، لولا التواطؤ والتداعي على الفريسة
أما العالم العربي، بصفات وحقائق بدأتُ بها المقال، فخارج الخرائط الجمالية والفكرية. وأتاحت الثورات فرصة لتغيير يؤدي إلى تغيير الصورة الذهنية عن العرب، لولا التواطؤ والتداعي على الفريسة. أين نحن من زيارة شون بِن، للتنهئة والاحتفال في "ميدان التحرير" الذي فرض اسمه العربي من دون الحاجة إلى ترجمته؟
يكتسب البلد حضوره من رموزه التاريخية وإنجاز أبنائه. أترك العواطف جانباً، وأطل على صورتنا في المرآة الأخرى. أستعيد الآن إطلالة صادمة على كتاب "دليل القارئ إلى الثقافة الجادة"، وقد نبهني إليه مترجمه الكاتب الفلسطيني أحمد عمر شاهين.
في عام 2002 أصدر المركز القومي للترجمة بالقاهرة ترجمة الطبعة 23 للكتاب الصادر في نيويورك عام 1990، تحرير كل من آرثر والدهورن، آرثر زيجر، أولغا. س. ويبر. هذا الدليل صدر للمرة الأولى عام 1932، ثم صار عام 1947 كتاباً مرجعياً للقراء، وتطورت طبعاته التالية التي كانت تمحص كل أربع سنوات على أيدي مفكرين ونقاد جعلوا منه منهجاً في القراءة، دالاً على الكتب العظيمة.
يتكون الدليل من خمسة أقسام عامة هي: فترات تاريخية، والثقافة الإقليمية وثقافة الأقليات، والأنواع الأدبية، والإنسانيات والعلوم الاجتماعية، والعلوم التطبيقية. وينتهي بقسم خاص بالمراجع، وتضم الملاحق أهم مئة كتاب وكتاب: في العصور القديمة لا نصيب للعرب.
وفي العصور الوسطى وعصر النهضة يذكر "ألف وليلة وليلة" و"القرآن"، بجوار كلاسيكيات منها دون كيخوتي لثربانتس، والكوميديا الإلهية لدانتي، والديكاميرون لبوكاتشو، والرباعيات لعمر الخيام، وأعمال شكسبير. ومن القرن السابع عشر إلى القرن العشرين تخلو هذه القائمة من كتاب عربي. وتشمل القائمة المختصرة للقراءة بعد التقاعد أعمالاً من دائرة المركزية الأوروبية والأمريكية، باستثناء سيرة غاندي، ورواية لماركيز، وأخرى للياباني جونيشيرو تانيزاكي، وثالثة للنيجيري وول سونيكا.
في قسم الثقافة الإقليمية وثقافة الأقليات، وتحت عنوان "الشرق الأوسط"، يرد ذكر الأدب العربي والفارسي والتركي والإسرائيلي والأرمني في 14 صفحة من الكتاب البالغ 725 صفحة. مدخل بانورامي تتجاور فيه أسماء أبي نواس والمعري وابن سينا والغزالي وابن رشد وابن عربي، والفردوسي والخيام وجلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي وسعدي الشيرازي وصادق هدايَت وفُروغ فرّخ زاد. يلي ذلك سطران عن حصول محفوظ على جائزة نوبل والثلاثية وقصص "دنيا الله"، وإشارة إلى توفيق الحكيم، و"الأيام" لطه حسين، ومقدمة ابن خلدون، و"ألف ليلة وليلة"، و"قصص عربية قصيرة" إعداد دينيس جونسون ديفيز، و"نساء الهلال الخصيب" مختارات من قصائد المرأة العربية، تحرير وترجمة كمال بلاطة.
ربما أفسحت طبعة حديثة من "دليل القارئ إلى الثقافة الجادة" صدرها لأعمال عربية جديرة بالانضمام، والترشح للقارئ الذكي. وما بين عام 1990 حين صدرت الطبعة الثالثة والعشرون لهذا الدليل، وصدور كتاب "حوارات باريس ريفيو 2" عام 2007، زمن معقول يسمح بأمل "الحضور". الحوارات ترجمها الشاعر المصري أحمد شافعي، وأضاف حوارا نشر في صيف 2008، أجرته ليلى عزام زنجانة مع أمبرتو إيكو، واحتلّ الفصل الأخير من كتاب "بيت حافل بالمجانين... حوارات باريس ريفيو" (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2015). أتركُ الحوارات القديمة مع هيمنغواي وهنري ميلر، وأقفز إلى كارلوس فوينتس الذي كان سفيراً للمكسيك في فرنسا حتى عام 1977، للبحث عن مرجعياته.
حدود إدراك فوينتس وإيكو وسوزان سونتاغ للإبداع الإنساني تبدأ باليونان القديمة. يتفق فوينتس مع قول فرجينيا وولف: "المرء حينما يجلس ليكتب، لا بدّ له أن يشعر بتراثه كله في عظامه، وصولا إلى هوميروس". فماذا عن تراثه المحلي؟ يذكر فوينتس أنه فصل من المدرسة شهراً؛ "لأنني تجاسرت واحتفلت بميلاد بينيتو خواريث الهندي الذي أصبح رئيساً للمكسيك وكان بمثابة أيقونة ليبرالية في بلدي". انتخب خواريث عام 1858 حتى وفاته عام 1872. والتنكر لذكرى رئيس من السكان الأصليين تقابله مرجعية أوروبية، إذ نصحه عميد جامعة سيفيل الإسبانية بقراءة رواية "الجريمة والعقاب" لو أراد فهم القانون الجنائي، وبقراءة بلزاك إذا أراد فهم القانون التجاري.
أزمة الإبداع الأدبي والفني أنه لا يبلغ الضفاف الأخرى، ولا يأخذه "الآخر" بالجدية اللائقة. هذه حقيقة لا يخفف مرارتها إنجاز فردي هنا، ونبوغ هناك
فوينتس يؤكد أنه "مدمن سينما"، ولا يذكر عنوان فيلم عربي، جهلاً أو تجاهلاً. ولعل السينما العربية خارج دائرة إدراكه الذي يحدد له "الأفلام العظيمة"، مثل "المواطن كين"، وأفلام لويس بونويل. وحين يخرج من الدائرة الأوروبية يقفز بعيداً عن العالم العربي، بأدبه وأفلامه، ويصل إلى اليابان مستشهداً بفيلم "أوغتسو مونوغاتاري" الذي أخرجه كينجي ميزوجوشي عام 1953. ويقول إن هذا "الفيلم الياباني العظيم" ألهمه فكرة رواية "أورا" (1962). أما سوزان سونتاغ ففي مكتبتها نحو خمسة عشر ألف كتاب في الفنون والآداب الأوروبية، "ومئات الكتب في الأدب الياباني وعن اليابان". مؤلفات دالة على الأطر الأدبية والموسيقية والفلسفية والنقدية، وكلها في دائرة المركزية الأوروبية.
تذكر سوزان سونتاغ أن المخرج الفرنسي جان-لوك جودار "كان غذاء أساسياً لحساسيتي، ومن ثم لكتابتي بصورة حتمية". ولا يختلف أمبرتو إيكو في مدّ جذوره المعرفية إلى الحكيم الروماني شيشرون، وفي مكتبته الضخمة نحو خمسين ألف كتاب لا يذكر منها عنوان كتاب عربي.
لعل هذه الحقائق تبصّر الأدباء والسينمائيين العرب بطبائع الأمور على الأرض، وتدعوهم التأمل العقلاني منزوع التطاوس، ولا أقول جلد الذات. وبعد ذلك تبدأ اقتراحات خطة للتفاعل مع العالم، تسلتهم أصالة مشروع نجيب محفوظ، وندية تجربة إدوارد سعيد الذي فكك الفكر الغربي وساجل رموزه، وحفر مساراً غير مسبوق، واحتلّ مكانة لا ينافسه فيها عربي آخر، إلى الآن على الأقل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومينأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومينحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 4 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 5 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 5 أيامtester.whitebeard@gmail.com