شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"هاتي هالبرجيس يا فوزية"... لعبة الحرب التي أنهتها الحروب من بيروت إلى دمشق

حياة نحن والتاريخ

السبت 13 مايو 202311:23 ص

"يسمّونها برجيس... كنا نلعبها مع والدتي منذ الصغر في منزلنا في منطقة السوديكو في بيروت، عام 1975. وقد تعلّمتها في زمن الحرب الأهلية اللبنانية"؛ بهذه الكلمات تسترجع أم مروان (63 عاماً)، ذكريات لعبة تراثية قلّما باتت تُلعب اليوم في البيوت البيروتية.

تروي أم مروان، لرصيف22، عن ذكريات طفولتها عندما كانت في الـ15 من عمرها: "علّمتنا والدتي لعبة البرجيس أنا وأخوتي. وهي لعبة مخصصة للنساء فقط. كنا نجتمع في بيت العائلة خوفاً من القصف، ونلعب البرجيس عندما تنخفض أصوات الاشتباكات، كي ننسى صوت الرصاص، إذ كان الخروج من البيت نادراً جداً، أما عندما يشتدّ القصف، فننزل إلى الملاجئ ولا نستطيع التفكير في أي شيء سوى الموت الذي يلاحقنا".

تضيف: "تتميز هذه اللعبة بالصبر والذكاء والتركيز، فلا تستطيع بكل بساطة أن تأكل وتلعب في الوقت ذاته، لأن الخسارة تكون حليفتك. كنّا نذيب الشمع داخل الصدف، كي نستطيع رميها لأنها خفيفة الوزن ولا تُرمى بعيداً، وطبعاً خسرت كثيراً مع والدتي بسبب مهارتها وسرعتها في تحريك أحجارها وإدخالها إلى المربع في المنتصف"، مشيرةً إلى أنه "بعد الحرب الأهلية، اندثرت اللعبة، فأفراد العائلة تفرّقوا ومنهم من تزوج وأصبح في منزله، وباتوا قلةً من يعرفون البرجيس، ولكن أهل بيروت يعرفونها جيداً".

تُعدّ البرجيس لعبةً شعبيةً ذات أصول هندية، كما يُنسب أصلها إلى بلاد فارس، وقد اشتهرت في تراث بلاد الشام

أصول هندية أو فارسية

تُعدّ البرجيس لعبةً شعبيةً ذات أصول هندية، كما يُنسب أصلها إلى بلاد فارس، وقد اشتهرت في تراث بلاد الشام، ويُقال إن السوريين هم أوّل من أدخلها إلى المنطقة العربية في بداية القرن العشرين، وهي منتشرة في الأردن وفلسطين أيضاً، وأصبحت اليوم من الإرث الثقافي، كما أنها كانت جزءاً من جهاز العروس آنذاك.

تتكون البرجيس من قطعة قماش، غالباً ما تكون سوداء اللون، مُطرّزاً عليها شكل مصلّب مربّع، كل ضلع من أضلاعه على شكل مستطيل، ويُقسم إلى ثلاثة أطوال، وكل طول منها ينقسم إلى مربعات صغيرة عددها في كل ذراع ثمانية مربعات في الطول، وثلاثة في العرض. كما يتم استخدام قطع معدنيّة عدة وأصدافاً في اللعبة. يلعب فيها عادةً لاعبان أو أربعة لاعبين يتوزعون على فريقين، أي اثنين في كل فريق، ولكل فريق حجر خاص به، يحمل الأول أربعة أحجار من ذوات رأس الحصان، والثاني يحمل الأحجار من ذوات رأس القبة. يرمي اللاعب أحجار الودع بحسب نوعيته، ثم يبدأ اللعب عن طريق السير بالأحجار بحيث يلفّ كل حجر الشارات الأربع، ثم يوصل الشارة الوسطى إلى المطبخ (وسط المستطيلين).

وإذا تصادف وجود حجر حصان في إحدى الشارات، وجاء في الشارة نفسها حجر قبة، فإنه يخرجها من اللعبة، وعلى اللاعب هنا أن يبدأ من جديد، ومن يوصل الحجارة الأربعة أولاً إلى المطبخ، يفوز باللعبة. وإذا أدخل أحد اللاعبين الأحجار الصدفية جميعها من دون أن يدخل خصمه أي حجر فتكون نتيجة الفوز "مرس" (مضاعفةً).

كما تتألف رميات الودع من "الشكة"، "الدست"، "الدواق"، "الثلاثة"، "الأربعة"، "البنج"، و"البارة"، ولكل تسمية عدد معيّن من الحركات.

سهرات بيروت القديمة

يصف الباحث والمؤرخ في التراث اللبناني زياد عيتاني، في مقال كتبه على صفحته في فيسبوك، ونشرته جمعية "تراثنا بيروت"، أيام الشتاء الباردة، في شهرَي كانون الثاني/ يناير وشباط/ فبراير، "حيث السهرات الشتوية الطويلة، واجتماع الأهل في البيت الواحد، من الآباء والأبناء والخالات والعمّات، وفي الخارج يُسمع صوت نزول المطر وأصوات الرياح والعواصف، وبعدما تكون 'الستّات' قد انتهين من تأمين كل مستلزمات السهرة من طعام، خصوصاً الأكلات الدافئة، والحلوى التي تُحضّر في المنازل، بالإضافة إلى المشروبات الساخنة كالشاي والقهوة العربية والسحلب... يحين وقت راحتهنّ ولهوهنّ وتسليتهنّ، فيفرشن 'رقعة البرجيس' على السجادة، وينقسمن إلى فريقين للتحدي في ما بينهن".

كانت السهرات بحسب عيتاني، "مليئةً باللعب والمزاح والغش و'التزريك'، كما يقال في اللهجة العامية اللبنانية، وبعض الأهازيج الخاصة بلعبة البرجيس التي تُرتّل خلال السهرة، ومثال على ذلك:

لعب وغش و'تزريك'/ معها نقضي ليالي

فرح وسرور وهنا/ وترتاح معها النفسية

برجيس حلو ومرتب/ وكله مشغول بإيدي

وبيجتمعوا بالسهرة/ الجيران والأهلية

وما ننسى الحلوة سعدية/ نعزمها الصبح بتجي العشية

هاتي هالبرجيس يا فوزية/ وقهوتنا حليها شوية

وتبدأ اللعبة بشروط/ والمغلوب يحلينا بنابلسية".

طرابلس أيضاً

لا تقتصر لعبة البرجيس على النساء البيروتيات فقط، بل انتقلت إلى نساء طرابلس خلال الحرب الأهلية. تروي الخياطة عليّة نور الدين عواد (56 عاماً)، وهي من سكان الضنية في قضاء طرابلس، لرصيف22، كيف تعلّمت هذه اللعبة من عمّها، ففي مدينتها، الرجال أيضاً كانوا يلعبونها، حتى أنها خيّطت اللعبة بيدها كي تحافظ عليها إلى وقتنا الحالي. تقول: "جلبت الأحجار والزهر على شكل صدف من سوق الملاحة في طرابلس، حتى أني أعدّها مميزةً وإرثاً قديماً".

كنا نجتمع في بيت العائلة خوفاً من القصف، ونلعب البرجيس عندما تنخفض أصوات الاشتباكات، كي ننسى صوت الرصاص

وتضيف: "تعلمتها عندما كان عمري 13 عاماً على يد عمي. كان منزله بالقرب من منزلنا، وكان يلعبها باستمرار، ولم أكن وحدي، بل كان معي كل أخوتي وأولاد عمي الذكور والإناث، وكنّا نلعبها أكثر الأوقات في فصل الشتاء بجانب مدفأة المازوت، وكنا نستمع إلى راديو إذاعة لندن عن أخبار الحرب. كانت أياماً جميلةً جداً، حتى أننا كنا نلعبها أيضاً في الصيف. كانت أيام ألفة ومحبة، قبل أن تتغير الحال ونتفرّق لأسباب عدة".

من بيروت إلى دمشق!

باتت لعبة البرجيس قليلةً ونادرةً في هذه الأيام بين الجيل الحالي، ففي بيروت أنهتها الحرب الأهلية بسبب افتراق العائلات والزواج، وهذه الحال انعكست أيضاً على النساء الدمشقيات، فبعد اندلاع الثورة السورية عام 2011، باتت آلاف العوائل مهجرةً داخل البلاد وخارجها، وانقسم الأشقاء في المنزل بين مؤيد ومعارض، إلا أنها لا تزال موجودةً بين العوائل الدمشقية إلى يومنا هذا ولكن بقلة، حيث تختلف تسميتها عن بيروت ويقال لها برسيس، بدلاً من البرجيس، مع المطبح في دلالة على المربع وسط القماشة.

"كلما تذكرت تلك الأيام أبكي ذكريات مليئةً بالأقارب والمحبة. هي أيام لن تعود"، تروي صفاء الخياط (63 عاماً)، لرصيف22، بعدما هاجرت من سوريا بسبب الحرب، وكانت قد هُجرت سابقاً خلال الحرب من منطقة عدرا العمالية. تروي تفاصيل تلك الأيام في بيت جدها في منطقة شارع بغداد في العاصمة السورية دمشق: "كان بيتاً عربياً دمشقياً قديماً، وكنا نجلس في غرفة 'النسوان'، ونقضي ساعات في لعب البرسيس. تعلمت اللعبة عندما كان عمري 12 عاماً، أي في عام 1970 تقريباً، وهي تنتقل من جيل إلى جيل، وكانت الجدّة تعلّمها للبنات ثم الأحفاد".

وتتابع أم أحمد: "تتميز اللعبة بجلساتها الجميلة واجتماع العائلة حول المدفأة، الجميع في غرفة واحدة، لم يكن حينها التلفاز موجوداً، لذلك كانت السهرات جميلةً، وكان من يملك تلفازاً من الطبقة الغنية، أما نحن فنلعب البرجيس، وجدّي يجلس ويستمع إلى راديو إذاعة لندن، أما في الصيف فكانت سهرات البرسيس على الأسطح، مع المدّ العربي والأكلات البسيطة كالبزر والموالح ويقال لها 'نقرشات'، وحلو وفواكه".

تختلف العادات بين نساء بيروت ودمشق، إذ لا توجد مراهنات بين البيروتيات، ولكن بين النساء الدمشقيات كانت هناك رهانات دائمة، "فمن تخسر تخرج إلى 'باب الزقاق' ليلاً، تفتحه وتغلقه، وطبعاً كانت الناس تخاف في ذلك الوقت بسبب العتمة، أو تذهب إلى المطبخ في الظلمة وتجلب كأساً من المياه، لأن المنزل العربي كان كبيراً وموحشاً ليلاً"، كما تقول أم أحمد.

برجيس حلو ومرتب/ وكله مشغول بإيدي
وبيجتمعوا بالسهرة/ الجيران والأهلية
وما ننسى الحلوة سعدية/ نعزمها الصبح بتجي العشية
هاتي هالبرجيس يا فوزية/ وقهوتنا حليها شوية

وتضيف: "كان الرهان أيضاً على الأكل، وصنع طبق من الرز بحليب، أو 'سليق' وهو عبارة عن ثلج ودبس في الصيف، وكان يباع على عربات في دمشق القديمة، أو دبس وخس في الشتاء. طبعاً كانت والدتي تغلبنا كثيراً، وتُدخل كل أحجارها إلى المطبخ، ويُعدّ المرس سبع هزائم، ويعني الهزيمة مضاعفةً والعزيمة أكبر. طبعاً ما زالت هذه اللعبة مستمرةً ولكن ليست كما كانت سابقاً. اليوم والدتي تلعب مع زوجة ابني، ولكن نادراً بسبب الحرب والتهجير، فضلاً عن التكنولوجيا والهاتف المحمول، الذي دمّر هذه اللعبة وقضى عليها. إلا أن البعض يعدّها من الطقوس وما زال يلعبها خصوصاً في ظل انقطاع التيار الكهربائي".

لعبة الترابط الأسري

تقول أستاذة العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية، أديبة حمدان، إن "البرجيس من الألعاب التراثية التي كانت منتشرةً بكثرة في لبنان، وخلقت نوعاً من الألفة، كما تُعدّ إحدى طرق توثيق العلاقات بين أفراد الأسرة، من خلال اللعب، وأي لعبة هي مهمة في حياة الإنسان سواء كان طفلاً أو راشداً أو كبيراً في السن".

وتضيف في حديثها إلى رصيف22: "تكمن أهميتها في أنها للتسلية وتمضية الوقت، وهي لعبة من شخصين أو 4 أشخاص، ونحن نعلم أهمية موضوع التسلية في حياة الإنسان، لأن العمل المتواصل يحتاج إلى فسحة لتنفيس الضغوط، فهذه اللعبة لكبار السن كانت لعبةً ترفيهيةً غير مكلفة، عكس اليوم، حيث بات الترفيه أمراً مكلفاً لمختلف الأعمار، وطبعاً البرجيس مميزة بأنها جماعية تخلق نوعاً من الحماسة والتسلية والمزاح، كما أنها بسيطة، ويمكن صنعها في المنزل وموادها متوافرة في الأسواق".

تختلف العادات بين نساء بيروت ودمشق، إذ لا توجد مراهنات بين البيروتيات، عكس الدمشقيات

وتشير حمدان إلى أن "سبب انتشارها في سوريا، وفلسطين، ولبنان، والأردن، أن هذه الدول منفتحة على بعضها ومتشابهة في الثقافة والعادات والتقاليد نوعاً ما، كما أنها كانت موجودةً أيام الحرب الأهلية في لبنان، وكانت العوائل تلعبها في الملاجئ كي تنسى الخوف وصوت الرصاص، وهي من الألعاب التي توضع في الجيب وتُحمَل إلى أي بيت، وأنا أذكر جارةً ما زالت إلى اليوم متعلقةً بهذه اللعبة وكانت تضعها في جيبها، عندما تقوم بزيارة أقاربها كي تحظى بجولة من البرجيس مع أحدهم".

"ما يميز هذه اللعبة أن الأب يلعب مع ابنه، والأم تلعب مع ابنتها أو ابنها، الأمر الذي يعزز العلاقات العائلية، ويخلق نوعاً من التساهل والتسامح بين أفراد العائلة، خصوصاً عندما يكون الأب سلطوياً، ما يعكس نوعاً من التبسيط لصورة الأب المتسلط، وتالياً التقرب من أطفاله أكثر"، تقول الدكتورة حمدان.

وترى أن "التكنولوجيا ساعدت في اندثار البرجيس، لأن وسائل التواصل الاجتماعي أصبحت تخدّر الناس، وباتوا يمضون ساعات عديدةً على الهواتف، وباتت المرأة اليوم مختلفةً عما كانت عليه سابقاً، إذ صارت تهتم بجمالها وعملها أكثر من ذي قبل". وتعتقد حمدان أن "هذه الألعاب القديمة ستعود يوماً ما بسبب ما نحن عليه اليوم من أزمة اقتصادية، وانعدام القدرة المعيشية، ما سيعيد مشهد لعبة البرجيس إلى المنازل للبحث عن التسلية بدلاً من ارتياد المقاهي الأكثر كلفةً".

وإلى اليوم، وبرغم التطور الذي دخل إلى المجتمعات والتنوع الثقافي، لا يزال الجيل القديم ما بعد الحرب الأهلية اللبنانية، يحافظ على هذه اللعبة ويلعبها كلما سنحت له الفرصة، كما أن بعض النسوة يصنعنها يدوياً، عبر تخييطها وجلب الصدف والأحجار من الأسواق الشعبية في طرابلس وبيروت، أما في دمشق فلا تزال تُمارَس "البرسيس" بشكل قليل أيضاً، وتباع في أسواق دمشق القديمة، ومنها سوق الحميدية. 


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها…

لكن رصيف22، هو صوت الشعوب المضطهدة، وصوت الشجعان والمغامرين. لا نخاف من كشف الحقيقة، مهما كانت قبيحةً، أو قاسيةً، أو غير مريحة. ليست لدينا أي أجندات سياسية أو اقتصادية. نحن هنا لنكون صوتكم الحرّ.

قد لا توافق على كل كلمة ننشرها، ولكنك بضمّك صوتك إلينا، ستكون جزءاً من التغيير الذي ترغب في رؤيته في العالم.

في "ناس رصيف"، لن تستمتع بموقعنا من دون إعلانات فحسب، بل سيكون لصوتك ورأيك الأولوية في فعالياتنا، وفي ورش العمل التي ننظمها، وفي النقاشات مع فريق التحرير، وستتمكن من المساهمة في تشكيل رؤيتنا للتغيير ومهمتنا لتحدّي الوضع الحالي.

شاركنا رحلتنا من خلال انضمامك إلى "ناسنا"، لنواجه الرقابة والترهيب السياسي والديني والمجتمعي، ونخوض في القضايا التي لا يجرؤ أحد على الخوض فيها.

Website by WhiteBeard
Popup Image