تمر السنون، وتظل كلمة "العيدية" تعويذة ساحرة، تداعب مخيلة الصغار كلما اقترب العيد، وتبقى لحظة الحصول عليها للمرة الأولى عالقة بالذاكرة مهما مر الزمن وتبدلت الأحوال.
لكنها ككل شيء يمر عليه الزمن، طالتها يد التغيير. فلم تعد كما كانت العادة: عملات ورقية أو معدنية جديدة لامعة، يشعر متلقيها أن يداً لم تمسسها قبله. لكن أصبح لتقديم "العيدية" طقوس وأدوات مساعدة من بطاقات وأكياس وصناديق ملونة. ليتحول تقديمها إلى بيزنس وتجارة تروج مع اقتراب مواسم الأعياد.
وبين مرحب بالتجديد ورافض للتغيير، تنوعت ردود الفعل تجاه تلك "التقاليع" التي أنتجت مهناً جديدة، لا تضيف إبداعاً أو تسد احتياجاً حقيقياً.
أصبح لتقديم "العيدية" طقوس وأدوات مساعدة من بطاقات وأكياس وصناديق ملونة. ليتحول تقديمها إلى بيزنس وتجارة تروج مع اقتراب مواسم الأعياد
"الشِلِن" أصبح 100 جنيه
رغم انتقاله إلى المدينة ليعيش في حي شبرا القاهري العريق، لا تزال ذكريات العيدية في قرية شبشير الحصة التي نشأ فيها، تلح على ذاكرة الكاتب الصحافي هشام يحيى: "كنت أستنى العيد الصغير زي بقية العيال، للحصول على العيدية، كنت خبير في التفرقة بين أقاربي، مين بيدي عيدية محترمه، ومين ماسك ايده".
ويتذكر: "زوج عمتي ابن عمدة القرية كان برنس في نفسه، فكان يمنحني دائماً شِلِن فضة (خمس قروش). وهذا لو تعلمين مبلغ عظيم. كنت استأجر منه عجلة (دراجة) وآكل كشري، وأدخل سينما شبرا بالاس، كل هذا من الشلن".
الآن بات يحيى هو مانح العيدية، لا متلقياً لها. وباتت عيديته الضخمة عند مقارنتها براتبه، لا تثير الانبهار نفسه في نفوس أطفال العائلة: "لما بدأت أدفع عيديه كانت الدنيا اتغيرت والشلن أصبح عمله بلا قيمة. ووجدت نفسي متورط في دفع ورقة بـ 100 جنيه، ينظر لها الاطفال بالعجب والاستهانة، فهي لا تكفي لمنحهم نفس المتع التي كنت أحوزها أنا بالشلن في طفولتي".
ورغم تلك الحاجة الدائمة لدى الكبار لإبهار الصغار، يرفض هشام يحيى تحسين وضع عيديته في نظر الصغار من خلال استخدام أي من التقاليع الجديدة التي باتت مصاحبة للعيدية، مثل الأكياس القماشية أو الصناديق الخشبية التي تحوي بعض الهدايا. يقول: "الكلام دا ميهمش الاطفال في حاجة، اهم حاجة بالنسبة لهم يمسكوا الفلوس ف يإيديهم لأن العيدية فرصتهم للتحكم وشراء ما يريدونه هم لا ما يفرضه الكبار".
الآن بات يحيى هو مانح العيدية، لا متلقياً لها. وباتت عيديته الضخمة عند مقارنتها براتبه، لا تثير الانبهار نفسه في نفوس أطفال العائلة
جنيه وساعة "أورينت"
الدكتور محمد أمين عبدالصمد، الباحث في الانثروبولوجيا الثقافية، ابن قرية بني سلامة بمحافظة الجيزة حكى لرصيف22 عن ذكرياته مع العيدية في قريته الصغيرة التي يغلب عليها الطابع البدوي: "الكلمة نفسها تثير الكثير من الشجون والحنين لأيام ماضية لن تعود. العيدية بالنسبة لي لم تكن مجرد مصروف للعيد، بل كانت كنزاً يتجدد مرتين سنوياً. كان والدي رحمه الله يعطيني العيدية قبل الذهاب لصلاة العيد. وبعد العودة من الصلاة تكون العيدية من والدتي. ولأني الأصغر في الأسرة ويسبقني أخان أكبر مني أحصل على عيدية من كل منهما. كما كنت أحصل عليها من الأعمام وأولاد العمومة الكبار. وإذا كان هناك واجب عيدية، يتم رده لأسرتي في شخصي بوصفي الأصغر. ويتجمع مبلغ كبير لدي بسبب تلقيَّ أغلب العيديات التي توجه لأسرتي، وكذلك لأني الأصغر حتى في أبناء العمومةـ ويُضاف إليهم الأخوال الكبار والخالات".
يواصل عبدالصمد مبتسما: "الطريف أنني عندما كبرت انقطعت العيديات إلا من أبي وأمي وأخويَّ وكأنني لم أغادر مرحلة الطفولة، وكانت العيدية أقرب إلى عدم قطع العادة أو المداعبة التي لا تنقطع لأنني الأصغر حتى ولو صار شعري كله أبيض".
لم تكن العيدية نقوداً فحسب كما أكد عبدالصمد، بل كانت أحياناً هدايا ذات قيمة، يذكر منها الساعة "أورينت" أهداها إليه شقيقه الأكبر: "كانت تلك الساعات مفخرة ما بعدها مفخرة للرجال الكبار، فما بالك بطفل صغير!".
تمر السنوات ويصبح الطفل الصغير زوجاً وأباً ويصير ملزماً بتقديم العيديات للأبناء والأقارب. لكنه برغم اختلاف الزمن يصر على تقديمها بشكلها التقليدي "عملات ورقية جديدة" من دون إضافات، ويرفض تماماً التقاليع الجديدة التي باتت مرتبطة بتقديم العيدية. يقول: "دخول الرأسمالية والتجارة في أي شيء يتعلق بالعادات الاجتماعية يفقدها معناها ويشوه تلقائيتها التي تذوقناها وعرفنا حلاوتها، لذلك أعتقد أنني وكل من تعود الشكل التقليدي للعيدية نرفض استخدام تلك التقاليع التي لا معنى لها".
"بنات أفكاري"
على الرغم من أنها تنتمي لجيل أصغر، تتشابه إنجي محي الدين "صاحبة دار نشر" مع هشام يحي ومحمد أمين عبد الصمد في تمسكها بالعيدية التقليدية ورفضها لمسايرة العصر واستخدام ما جد من أدوات. تقول إنجي ابنة حي المعادي لرصيف22: "أحرص كل عيد على أن يقدم زوجي العيدية بشكلها التقليدي لطفلينا عمار وليال. أما أنا فأحاول أن أصنع لهما ذكريات حلوة تظل مرتبطة بهذه المناسبة السعيدة مهما كبرا. فأشتري الألعاب وأخفيها في أماكن مختلفة في المنزل ليستيقظا صباح العيد ويبدآن رحلة البحث عنها. إنها لحظات مبهجة لا ينسيانها أبداً".
تؤكد إنجي أنها "لا تعترف بالتقاليع التي تزدحم بها الأسواق مع كل عيد" وترفض استخدامها وترى فيها "استسهالاً"، وتحاول في كل عيد أن تبتكر أساليب جديدة لإدخال السعادة إلى قلوب أفراد أسرتها الصغيرة.
"معرفش يعني إيه عيدية"
حسناء حسن، بنت الإسكندرية الحاصلة على ليسانس الدراسات الإنسانية من جامعة الأزهر، عاشت سنواتها الأولى في مدينة العريش، بعيدة عن الأهل والأقارب، تقول لرصيف22: "ماكنتش أعرف يعني إيه عيدية وأنا صغيرة، لكن لما كبرت بدأت أمي تديني عيدية زي أصحابي وفاكرة كويس إنها كانت 30 جنيه في العيد الصغير وأربعين في الكبير عشان أصرف كل يوم عشرة جنيه".
حسناء أم لطفلين يحصلان على العيدية من عماتهما اللواتي يبتكرن أفكاراً جديدة كل عيد تبهجهما، لذلك ترحب باستخدام "تقاليع العيدية" المنتشرة في الأسواق، مثل الكروت والصناديق، وتراها "مبهجة" وتؤكد أنها سوف تصبح ذكرى جميلة يحتفظ بها طفلاها لسنوات.
مدحت شطا صاحب محل لعب أطفال بمدينة دمياط الجديدة يؤكد أن أكسسوارات تقديم العيدية باتت تجارة رائجة منذ عامين تقريباً، وأن المتحابين يشكلون السوق الأساسية لرواج تلك الأكسسوارات.
لكن التقاليع الجديدة، بحسب شطا، ليست واسعة الانتشار، ويقبل عليها أبناء الطبقات التي تستطيع تحمل تكلفة الهدايا المصاحبة لمبلغ العيدية، الذي بات لا يقل عن مئتي جنيه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...