يُعدّ المسرح في لبنان بكافة أنواعه، من أبرز الوسائل التي يعبّر فيها الأفراد عن قضاياهم ومناصرة لحقوقهم، ولكن قضايا الجنسانية في المسرح هي "تابو"، ويعتبرها البعض "خادشة للحياء العام"، ويصعب طرحها على الملأ في ظل خطر الرقابة الأمنيّة والمجتمعيّة.
من التنميط إلى المناصرة
"في البداية كان الخطاب المتعلق بقضايا الجنس والجنسانية سلبياً، لكونه يرسّخ الصور النمطية والأحكام المسبقة، فمثلاً صورة المرأة التي تقدم الخدمات الجنسية في المسرح الشعبي اللبناني، والسخرية من مجتمع الميم-عين أيضاً على خشبة المسرح"، هذا ما قالته لميا أبي عازار، وهي عضو مؤسس لفرقة "زقاق" المسرحية، وممثلة وكاتبة مسرحية.
في حديثها مع رصيف22، اعتبرت أبي عازار أن التعبير عن مثل هذه القضايا في المسرح تتطور عبر الزمن: "بعد 17 تشرين 2019، كان هناك نقلة نوعية في الأعمال المسرحية المتعلقة بقضايا الجنس والجنسانية، وأصبح هناك ما يسمى مناصرة لمثل هذه القضايا على خشبة المسرح".
يُعدّ المسرح في لبنان بكافة أنواعه، من أبرز الوسائل التي يعبّر فيها الأفراد عن قضاياهم ومناصرة لحقوقهم، ولكن قضايا الجنسانية في المسرح هي "تابو"، ويعتبرها البعض "خادشة للحياء العام"، ويصعب طرحها على الملأ في ظل خطر الرقابة الأمنيّة والمجتمعيّة
نشأت فرقة "زقاق" المسرحية في العام 2006، وهذه الفرقة تعرف عن رؤيتها وأعمالها المسرحية بأنها مساحة للتفكير المشترك والجماعي، وهي بمثابة موقف ضد أنظمة التهميش، واللافت أن هذه الفرقة حجزت، على مرّ السنوات، مكانا مهمّاً في التعبير الحرّ عن القضايا السياسية، وأيضاً عن الجنس والجنسانية في الأعمال المقدمة على خشبة المسرح.
وشرحت لميا أن المسرحيات الكوميدية وتلك التي تعبر عن قضايا مجتمع الميم-عين ، إضافة لمسرحيات تطرح قضايا الاغتصاب الزوجي وتزويج القاصرات، كلها مواضيع تتعلّق بالجنس والجنسانية وبدأت تُطرح في المسرح الجديد، ولكن على الرغم من هذا التقدم، لا تزال هذه المسرحيات بعيدة عن الإضاءة الإعلامية الكافية، ولا تزال تُعرض على مسارح صغيرة وجمهورها محدود نوعاً ما ولكنه يكبر تدريجيّاً.
تختلف أشكال التعبير عن الجنس والجنسانية على خشبة المسرح ولكن بحسب لميا، فإن أبرز أشكال التعبير الذي ينال استحسان الجمهور هو الشكل الكوميدي: "هذه العروض لا تقلّل من قيمة هذه القضية، مثل العروض الكوميدية لشادن مثلاً".
وأضافت: "إن طرح الجنس والجنسانية وغيرها من المواضيع الحساسة هو أمر جيّد ومعبّر، الجمهور يتقبل هذه الطروحات، ومن خلال الضحكة سيعيد النظر بالسلوك التهميشيّ والأحكام المسبقة حول الجنس والجنسانية ومجتمع الميم-عين".
وتابعت بالقول: "الجمهور أصلاً لا يتخذ وضعية الهجوم والدفاع بهذه الطريقة، بل تفتح له أفق التفكير".
الرقابة تخسر شرعيتها
ماذا عن دور الرقابة؟ أجابت لميا: "الحديث عن الجنسانية ممنوع من الرقابة الأمنية، ولكن الشيء الإيجابي أن الدولة لا تراقب كثيراً المسرح، لأنها أصلاً تقلل من أهميته على الصعيد الفني وأيضاً السياسي، على الرغم من أهميته الكبيرة، كما أنه بعد 17 تشرين الأول 2019 قليلة هي العروضات التي أصبحت تقدم إلى الرقابة، لأنها بالنسبة لبعض الفنانين/ات قد خسرت شرعيتها، ولكن هذا الأمر بالطبع لا يمنع الخطر الأمني ولا يمنع وجود خطر مجتمعي على الممثلين والممثلات الذين يعرضون هذه القضايا، وخاصة أفراد مجتمع الميم-عين، الأكثر عرضة للخطاب التهميشيّ".
من ضمن المسرحيات التي تعبّر عن قضايا الجنس والجنسانية ، يظهر بشكل واضح "المسرح الكويري"، وهو يعرف بشكل عام أنه عمل فني مسرحي ينتجه أفراد من مجتمع الميم-عين، من الكتابة والإخراج إلى التمثيل، كما أنه كويري في المحتوى أيضاً من خلال الشخصيات على المسرح، فيتم التركيز على تجسيد وتمثيل شخصيات مجتمع الميم-عين مع التعبير عن الهواجس والقضايا التي تهم هؤلاء الأفراد.
"الحديث عن الجنسانية ممنوع من الرقابة الأمنية، ولكن الشيء الإيجابي أن الدولة لا تراقب كثيراً المسرح، لأنها أصلاً تقلل من أهميته على الصعيد الفني وأيضاً السياسي، على الرغم من أهميته الكبيرة"
في هذا الصدد، كشفت لميا أن هناك بعض الأعمال المسرحية التي بدأت تطرح مثلاً علاقة حب بين رجل ورجل أو بين امرأة وأخرى، كما تقدم "زقاق" عدداً كبيراً من المسرحيات الكويرية التي تطرح قضايا مجتمع الميم-عين، مثل مسرحية "جوكر" التي تعرض قصص ثلاثة أشخاص عابرين جنسياً، وأيضاً مسرحية "قفص" و"خيط حرير" التي تحكي عن تنميط العلاقات وتبرز شخصيات من مجتمع الميم-عين.
هذا وشدّدت لميا على أن الحديث عن علاقة حب بين امرأة وامرأة أو بين رجل ورجل يجب أن يكون أمراً طبيعياً على خشبة المسرح، وبهذه الطريقة يتقدم الخطاب تجاه هذه القضايا.
مسرح الكوير وتحرير الخطاب
ظهر مسرح الكويري بوضوح أكتر بعد ثورة 17 تشرين، لأن مجتمع الميم-عين بدأ يجد مساحات للتعبير عن نفسه أكثر، وفق لميا أبي عازار التي اعتبرت أن المسرح الكويري بدأ يطوّر نوعية الحوار والخطاب حول الجنس والجنسانية في لبنان تحديداً، لأن المسرح لطالما كان في لبنان له رسالة سياسية نوعاً ما وهادفاً: "الجنس والجنسانية وطرحها بالمسرح وكافة أنواع الفنون هو حق وحرية لأنها مواضيع تتعلق بحياتنا البشرية وهي جزء من هويتنا".
ما يمكن ملاحظته أن المسرح الكويري لا يتطرق فقط لموضيع أفراد الكوير، بل يطرح قضايا سياسية واجتماعية ويناصرها، أما الجمهور لهذا المسرح بدأ يكبر في لبنان وليس محصوراً فقط بمجتمع الميم-عين.
في حديثها مع رصيف22، قالت ديما ميخائيل متى، وهي كاتبة وممثلة في المسرح الكويري، إن المسرح الكويري، مثل أي شكل للمسرح، يمكن أن يتضمّن الكوميديا، السيرة الذاتية الرومانسية والغنائية، ولكن الفرق هو أن من ينتجه ويشارك ويمثل فيه هم من أفراد من مجتمع الميم-عين.
ظهر مسرح الكويري بوضوح أكتر بعد ثورة 17 تشرين، لأن مجتمع الميم-عين بدأ يجد مساحات للتعبير عن نفسه أكثر
وكشفت ديما أن أول مرة شاهدت فيها مسرحاً كويرياً في لبنان كان في الجامعة الأميركية في لبنان، وهي مسرحية للممثل والكاتب المسرحي الأردني رافاييل خوري، اسمها "أين أذهب لا يهم" وهي تعد أول مسرحية في العالم العربي تتحدث عن المثلية الجنسية، وقد عرضت في العام 2014 ضمن إطار مؤتمر "أجساد في الفضاء العام" في الجامعة الأميركية بيروت، وهذه المسرحية كانت تعرض تجارب النساء اللبنانيات المثليّات وعلاقاتهنّ مع الفضاء العام.
عن شعورها عند مشاهدتها العرض الأول، قالت: "كانت المرة الأولى التي أحسست بها بأن هناك مسرحاً يشبهني ويعبر عني، وفي تلك اللحظة قررت دخول مجال المسرح الكويري تحديداً بعد سنوات من التمثيل، وبدأت أكتب مسرحيات كويرية".
بالنسبة لديما فإن المسرح الكويري هو مساحة آمنة تعبّر عن أفراد مجتمع الميم-عين إن كان للجمهور الذي يشاهد المسرحية أو الأشخاص الذين يشاركون في كتابة وتقديمها على خشبة المسرح، والتعبير عن الجنس والجنسانية والجندر يأخذ حيّزاً مهماً من هذا المسرح، ولكن لا بد أن هذا المسرح في لبنان يواجه الكثير من العقبات، أولها الرقابة الأمنية والاجتماعية، وفق ما قالت ديما، والتي تابعت: "أول مسرحية كويرية كتبتها عرضتها على الأمن العام آنذاك، ولكن كون النص يوضح علاقة عاطفية بين امرأتين، وهذا الموضوع يمنع عرضه من قبل الأجهزة الأمنية، اضطررت لإجراء بعض التعديلات اللغوية في النسخة المقدمة للأمن العام، فأظهرت أن العلاقة العاطفية في النص هي بين شريكين (رجل وامرأة) وبدلت بعض الضمائر من "هي" إلى "هو" استثنائياً في نسختي المقدمة، وعرضتها لاحقاً بالنسخة الأصلية على خشبة المسرح، ولكن كان هناك خطر من أن يتم تسريب خبر للأمن العام ويمنع العرض".
كخطوة لمواجهة الرقابة الأمنية والتعبير عن الاعتراض، اتخذ عدد من الفنانين المسرحيين قراراً بعدم طرح النصوص المسرحية على الأمن العام اللبناني، وخاصة بعد ثورة 17 تشرين عام 2019، وعلى إثره قرّرت ديما عدم تمرير المسرحية الثانية التي ألفتها على الأمن العام، بقرار اتخذته مع باقي الفنانين والفنانات: "عدد كبير من المسرحيات الكويرية مثلاً تحاكي قصة شخصية حقيقية، ومنها المسرحيات التي أكتبها، ويبدو صعباً طرحها على الرقابة الأمنية للتفحص بتفاصيلها، وخاصة أنها تعبّر عن شخص من مجتمع الميم-عين، وهو أمر يهدّد أمننا الشخصي فعلاً".
إضافة للرقابة الأمنية، يواجه المسرح الكويري عقبات وضغوطات اجتماعية، وفق ما أوضحت ديما: "تفكيري بالعقبات المجتمعية والأمنية خلال كتابتي للمسرحية الكويرية الأولى أخّرني، وأخذت معي القطعة سنتين، لذلك اليوم أحاول ألا أفكر بالعقبات".
أما عن الأمور التي يجب أن تأخذها بعين الاعتبار عند كتابة المسرح الكويري، فهي أولاً أمان الأشخاص المشاركين والمشاركات معها في تقديم العمل المسرحي: "عليهم/نّ أن يعرفوا/ن إلى أي درجة هذا الأمر قد يشكل خطراً عليهم/نّ، وهل يفضلون/ن عدم الكشف عن الأسماء، إضافة إلى مكان عرض المسرحية، فيجب أن يكون مسرحاً آمناً لمجتمع الميم-عين".
على الرغم من الرقابة، بدأ عمل المسرح الكويري يتوسّع أكثر في المسرح الجديد، وهذه المسرحيات باتت تشجّع على طرح مواضيع الجندر والجنس والجنسانية بشكل طبيعي على المسرح، وهو أمر يساهم بتقدم الخطاب الإيجابي حول هذه القضايا .
"أول مسرحية كويرية لي كانت تحكي عن علاقة حب بين امرأتين وعن العلاقة العاطفية الجنسية وغيرها، الجمهور أول العرض أخذ يصفّق وتفاجأ من هذا الطرح، ولكن التجاوب وردة الفعل كانت رائعة ومشجعة لاستكمال أعمالنا المسرحية الكويريّة"، وفق ما قالت ديما لرصيف22.
وأضافت: "قرّرت أن آخذ هذه المخاطرة وأن أعبر عن نفسي وعن هذه القضايا، كوني فنانة وناشطة أيضاً، وهي الوسيلة الوحيدة لتحقيق التقدم في الخطاب على المسرح وبالتعتيم سنخسرها".
رقابة أمنيّة تلتف حول القانون
لجنة الرقابة على الأعمال الفنية في لبنان تندرج تحت الأمن العام اللبناني، وتضم أشخاصاً من مختلف الخلفيات الأمنية والوزارات.
في حديثه مع رصيف22، اعتبر المسؤول الإعلامي لمؤسسة سمير قصير، جاد شحرور، أن هذه اللجنة غير مختصة وممارساتها لا تندرج ضمن الممارسات الديمقراطية، مشيراً إلى أن الرقابة على الأعمال الفنية يجب أن يحدّد دورها بأمر واحد فقط، وهو "تصنيف الفئة العمريّة المناسبة لكل من الأعمال الفنيّة وتوقيت العرض، وليس منع أو إعطاء الإذن".
إن الرقابة بعد الأزمة الاقتصادية والثورة عموماً انخفضت، لأن الطبقة الحاكمة تحاول فقط الحفاظ على مصالحها وسلطتها، ولا بد للفنانين/ات، وخاصة أفراد مجتمع الميم-عين، أن يحققوا/ن مكاسب خلال هذه الفترة
في الواقع، تركز الرقابة على الأعمال الفنية بشكل عام ومنها المسرح على أمرين أساسيين: أوّلاً الدين، فتمنع لجنة الرقابة عرض أي عمل إذا كان هناك شخصية دينية في العمل، باعتبار أنها تسيء للدين، وأيضاً الرقابة على الأعمال التي قد تطرح علاقات اجتماعية وعاطفية وجنسية بين مثليي الجنس، أو قد تتطرق بشكل ما إلى قضية حقوق مجتمع الميم-عين، وتأتي بهدف التعتيم على "قضايا الجنس والجنسانية" وهي من أبرز المعارك التي يواجهها مجتمع مجتمع الميم-عين مثلاً مع السلطة.
أما أشكال منع العروض تأتي بطرق "ملتوية وليست ضمن القانون، بل تبعاً للأعراف"، وأضاف شحرور: "عادة تتواصل اللجنة مثلاً مع الجهات الدينية ويعطى لها هامش أخذ القرار بمنع عرض فني سواء كان مسرح أو فيلم".
أما الطريقة الثانية التي عادة ما تتبعها السلطة في حالة العروض الفنية التي تتناول قضايا مجتمع الميم-عين، فهي المماطلة بإعطاء الإذن بالعرض، فلا يعطى الإذن بالمواعيد المحدّدة إلى حين تفويت الموعد المحدّد، كما حصل مع العديد من الأعمال الفنية في لبنان.
وختم شحرور حديثه بالقول إن الرقابة بعد الأزمة الاقتصادية والثورة عموماً انخفضت، لأن الطبقة الحاكمة تحاول فقط الحفاظ على مصالحها وسلطتها، ولا بد للفنانين/ات، وخاصة أفراد مجتمع الميم-عين، أن يحققوا/ن مكاسب خلال هذه الفترة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...