شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!

"إنتي لازم تترعبي"... قالتها الطبيبة في المستشفى

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة

الاثنين 29 مايو 202310:46 ص

في صباح يوم غائم ودافئ نسبياً من أيام الشتاء الماضي، كنت أظن نفسي قد تجاوزت كل شيء، وأنا أحمل ابنتي التي كادت تكمل شهرها الأول، لكني لم أكن أتخيل أن ما بنيته حول نفسي من سدود مضادة للقلق المرضي، هي سدود من ورق حتى وقعت هذه الكلمة على أذني.

قالتها طبيبة في عيادة للوراثة والدعم النفسي تابعة لأحد أكبر الجامعات المصرية، حين ذهبنا لنطمئن على ابنتنا حديثة الولادة في شكل فحص شامل، ظننا أنه يقوي من عزيمتنا ونحن نواجه "تروما" فقد الابن الأول والتعايش مع الابنة الثانية، ولم تكن تمزح: "إنتي لازم تترعبي، إنتي عندك ابن مات".

وكأن الحياة لم تكن تذكرني كلما التقطت أنفاسي، أن ابني الأول قد مات بشكل مفاجئ، لم نعلم سبب وفاته حتى اللحظة، وكأنها تراني متماسكة للحد الذي أرادت معه أن تثير فيّ القلق كي لا أهمل، أو أتقاعس عن حماية صغيرتي الجديدة. كانت جافة كالثلج، وكنت أهش من ورقة، ويومها قررت أن يكون هذا اليوم هو آخر عهدي بالبكاء على ما فات، استناداً إلى ما لدي من عند، و"يقين" في الله.

كنت أظن نفسي قد تجاوزت كل شيء، وأنا أحمل ابنتي التي كادت تكمل شهرها الأول، لكني لم أكن أتخيل أن ما بنيته حول نفسي من سدود مضادة للقلق المرضي، هي سدود من ورق

بدأت القصة قبل اللحظة التي أكتب فيها الآن بـ 4 سنوات تقريباً، عقب زواجي بشهرين، صرت حاملاً، وكان ما في بطني ذكرٌ، قرّرنا أن نسميه حمزة، ليأخذ الحياة عنوة، وليقول جملة حمزة بن عبد المطلب، حين ضرب أبا جهل قائلاً: "ردها عليّ إن استطعت"، ويعيش كما الأبطال الخارقين أمثال "بات مان".

قبيل ولادة حمزة، فاجأتني الطبيبة التي تتابع حالتي بأنني لا أستطيع أن ألجأ إلى الولادة الطبيعية أبداً، فالمشيمة التي تغذي الجنين هي مشيمة متقدمة ومتمركزة أمام عنق الرحم، وهو الأمر الذي قد يعرض حياة الأم والجنين للخطر، وأنه علينا أن نحمد الله أن ما مضى مر بسلام، وأن نكون مستعدين في أي لحظة للولادة، خاصة مع اقتراب انتهاء الشهر الثامن.

كان انهياراً صغيراً الذي شهدته في هذا اليوم، صرت أتخيل الموت وهو قريب تماماً، تفصلني عنه أيام أو ساعات، وأتخيل شكل مطبخي وحمزة يلعب ويسأل عني، بينما عينا أبيه مغرورقتان بالدموع، وهو يعد له طعامه مثلاً.

تخيلته في يومه الأول في المدرسة، في يومه الأول في الجامعة، وأنا أسترجع كل مشاهد الأفلام العربي التي أعرفها، وماتت فيه الأم بينما البطل يتذكرها بعد رحلة نجاح، وأزيل وجه الأم الراحلة وأضع وجهي مكانها، كنت كما يقول البعض: "بخرط بصل على القصة"، لكني لم أتخيل أبداً أن أفقده.

*****

هل كان الجميع يرون العلامات لكنهم يكتمونها عني بكلمة "عادي"؟ ابني عنده مغص طول الوقت، وبكى بالأمس لساعة متواصلة يا دكتورة، وبيحزق، تقول الطبيبة: "ده؟! أنتي أكيد بتغزي العين عنه".

"بكرة يضحك لك بصوت، وكل ده يبقى أيام وتفتكريها"، كل أسئلتي كانت تُجاب بـ"عادي"، وأنا أيضاً كنت أرى أنه عادي، لكني لا أعلم ماذا حدث لكي يصير العادي "مش عادي خالص".

*****

استيقظت في الصباح على بكاء الصغير، كان قلبي يقول لي إن هذا البكاء غير عادي، استيقظ أبوه أيضاً على بكائه، ونظر إليّ، لا أعرف لماذا طلبت منه أن ننزل إلى أقرب مستشفى، ولا يعرف لماذا خضع لرأيي، وفي مدينتنا الهادئة والتي تصنف من المدن الجديدة ذات الصيت في القاهرة، توجهنا إلى أحد أكبر وأفضل مستشفيات الأطفال.

كان شيء في رأسي يقول لي إني لن أخرج من هذه المستشفى به، كما أتيت، لكني كنت أستعيذ، وكنت أحارب الأفكار السلبية، واستدعيت كل مأزق في حياتي خرجت منه على خير، وأقول لنفسي سنخرج.

تقول الطبيبة في أسى:" أنا بقولك عشان الطفل اللي جاي". وأقول: "والطفل ده ماله؟"، فتسكت

فجأة انقلبت المستشفى، عناية مركزة للأطفال، ورئيس القسم والممرضات، أسئلة لا تنقطع، هل سقط منكما؟ هل ارتفعت درجة حرارته؟ هل يعاني من أمراض مزمنة؟

أشعة وتحاليل ورسم قلب وقياس سكر، كل الأشياء لا تنذر بخير، لكن عيني متعلقة بالشاشة التي ترصد مستوى الأكسجين ومعدل نبضات القلب، تنكتم أنفاسي حين تنخفض، وأعود بعدما ترتفع.

تقول الطبيبة في أسى:" أنا بقولك عشان الطفل اللي جاي". وأقول: "والطفل ده ماله؟"، فتسكت.

انتهى اليوم بعد ساعات مرّت علينا كدهر، لا أريد أن أغرق في تفاصيلها أكثر، لأني لا أعرف ما الذي يبكيني الآن، لكني أتذكر جملة الأديب الإيراني، أمير حسن جهلتن، في روايته "طهران الضوء القاتم": "أما أنا فأبكي لكل الأسباب الباعثة على البكاء".

في هذا اليوم شهدت غسل ابني ودفنه، بعدما قبّلناه وألقينا عليه بعض كلمات أخيرة، ثم كفّنه أبوه، وحملناه معاً إلى المقابر، وأنزله أبوه إلى مرقده الأخير.

فجأة انقلبت المستشفى، عناية مركزة للأطفال، ورئيس القسم والممرضات، أسئلة لا تنقطع، هل سقط منكما؟ هل ارتفعت درجة حرارته؟ هل يعاني من أمراض مزمنة؟

منذ ذلك اليوم، وأنا مريضة بالقلق، أخاف من صوت الهاتف، ومشاهد المرضى في التليفزيون، وصوت الشاشة التي تحمل القياسات، ورائحة الديتول لأنها تذكرني برائحة المستشفيات، وأخاف من اللجوء إلى الأطباء، فأسبّح وأحوقل وأسمع دقات قلبي كلما اضطررت، أو اضطر أحد أعرفه.

لا أفضّل سماع أن أحداً دخل إلى المستشفى، فالنهاية تُرسم بخيالي، وأغالب في عقلي الخوف وأغالب في قلبي الانكسار، وأنا أصل إلى هذا السطر أجد نفسي أتذكر الطبيبة التي صرت أطلق عليها بنت "سلطح بابا"، وأضحك وأوجه لها مزيداً من الشتائم واللعنات، ألا يكفي كل ذلك يا كتكوتة، كي أكون مرعوبة كفاية؟!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard