لطالما كان الاكتئاب عقدة العقد بالنسبة لكثيرين من الناس. تخيل أن تتوفر لك أسباب السعادة وسبلها كلها من دون أن تكون قادراً على الشعور بها، أو على الاستمتاع بما تحب وتشتهي من مأكولات ونشاطات وجنس ومشروب... إلخ.
يُعرّف الاستشاري في الطب النفسي الدكتور جميل الركاب، اضطراب الاكتئاب بقوله: "الاكتئاب هو -في الغالب- عملية حداد على فقدٍ لم يحصل في الواقع".
عندما تصاب العظام بالكسر، الجسم كله يتداعى لما حصل، ولكنه أيضاً يتهيأ لمساعدة منطقة الكسر على الالتئام؛ فتزيد الأوعية الدموية من تروية مكان الكسر، وتأتي الخلايا الدموية والالتهابية وتتجمع حوله لتأمين الإمدادات، ويتولد الألم لكي يمنع أي شيء آخر من مفاقمة الكسر، ويحفز الدماغ طلب المساعدة والالتزام بما يقوله الأطباء من أجل تخفيف الألم وتحقيق الشفاء في أقرب وقت ممكن. يتشابه السيناريو في أي مرض أو أذية تصيب أي عضو من أعضاء الجسم، ما عدا الأمراض النفسية وخاصةً الاكتئاب، حيث يصاب العقل المدبّر والآلية التي تحرّك الإنسان، ومكان تخزين الذكريات والأفكار والمعلومات والخبرات ومراكز الحس والحركة، فماذا يبقى إن مرض؟
الاكتئاب هو -في الغالب- عملية حداد على فقدٍ لم يحصل في الواقع
ازداد الاستهلاك العالمي للعقاقير المضادة للاكتئاب (AD) بشكل كبير في العقدين الماضيين، وكان الأوروبيون هم أكبر المستهلكين. وتضاعف استخدام مضادات الاكتئاب بمقدار مرتين ونصف تقريباً من عام 2000 إلى عام 2020، في 18 دولةً أوروبيةً، وفقاً لبيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD).
وتشير دراسة أجريت في ست مدن رئيسية في الصين، من عام 2013 إلى عام 2018، إلى ارتفاع وصفات مضادات الاكتئاب التي يصفها الأطباء بشكل كبير، من 244،626 في عام 2013، إلى 348،718 في عام 2018، ما يعني زيادةً بنسبة 42.6%.
كما ازداد الإنفاق على مضادات الاكتئاب، فارتفع من 48 مليون يوان صيني في عام 2013، إلى 64.8 مليون يوان صيني (نحو 9.4 ملايين دولار) في عام 2018. وكانت الوصفات المضادة للاكتئاب المكتوبة للنساء أكثر بمرة ونصف تقريباً مقارنةً بالرجال. وكانت الفئة العمرية الأكثر استهلاكاً لوصفات مضادات الاكتئاب هي 45-64 عاماً. ووجدت الدراسة أنّ زمرة مضادات الاكتئاب الأكثر استخداماً هي مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية (N06AB)، التي ينتمي إليها الزولوفت أو السيرترالين.
اختبار الشعور بالذنب
يقول سعيد، وهو طبيب مقيم في جراحة الأوعية الدموية في أحد مشافي دمشق، طلب عدم ذكر اسمه كاملاً: "أتذكر عندما كنت طالباً في كلية الطب البشري وفي أوّل محاضرة لمادة التشريح الوصفي، ومن خلال محادثاتنا مع زملائنا تبيّن أنّ دراسة هذه المادة غير ممكنة من دون وجود أطلس تشريح يحوي مصوّرات لجسم الإنسان، فتبرّع أحد الزملاء بأن يجلب لنا أطلس التشريح هذا باللغة العربية، وبالفعل أتى به في اليوم التالي على "فلاشة" أخذتها إلى المنزل، فكانت بجانب الأطلس كتبٌ طبية وكتابان آخران".
يضيف: "كان الكتاب الأول، 'نقد العقل المحض' لإيمانويل كانط، والثاني هو 'وهم الإله' لتشارلز دوغنز، فشعرت بالرعب من مجرد قراءة العنوان. فتحتُ الكتاب الأول، فظهرت لي عبارة: "الكتاب ممنوع في جميع الدول العربية"، فازداد قلقي وخوفي. قرأتُ المقدمة، فإذ بكثيرٍ مما كُتب، مُقنع بشدة بالنسبة لي ولم أستطع إخفاء تعطشي إلى قراءة المزيد، لكنّ شكوكي القديمة استفاقت وشعرتُ بالذنب والخوف في الوقت نفسه، وكأنني أقترب من نوبة هلع".
كان سعيد يخاف من أسئلة كثيرة، قد تجعل المحيطين به يستاؤون منه، من ضمنها سؤاله عن الدين والله، فما الذي تغير لديه بعد فترة من تناول مضادات الاكتئاب؟
أغلق سعيد الكتاب بسبب ما وصفه بـ"الشعور بالذنب تجاه أبي وأمي وأقاربي وجيراني ومجتمعي"، لكنه في الوقت نفسه، فتح في دماغه الكثير من الشكوك الجديدة والأفكار التي عادت تراوده من جديد.
يعرّف الطبيب النفسي السوري تيسير حسون، وهو مدرّب مشرف في منظمة الصحة العالمية، الشعور بالاكتئاب بالقول: "أن نشعر بتأنيب الضمير فهذا أمر طبيعي، وصحّي للفرد وللمجتمع، فهو يجعلنا نتجنب الوقوع المتكرر في الخطأ أو إلحاق الأذى بالآخرين. لكن تأنيب الضمير أو الشعور بالذنب عند المكتئب عميقان ولا يتناسبان مع السلوك المفترض. فقد يشعر بالذنب من أنه عندما كان في الصف السادس، نقل من زميله جواباً عن سؤال لم يعرفه. المريض يجترّ الشعور بالذنب وقد يبكي من شدة تأثره بما صنعت يداه. المكتئب متشائم، فلا مستقبل له كما يقول، لقد انتهى كل شيء، ولديه يأس كامل من إمكانية التغيير أو التحسن في حياته".
يتابع سعيد سرد تفاصيل تجربته: "كنت أفتح الكتاب بين الفينةِ والأخرى، ثم أغلقُه للسبب نفسه، وقد غرقت في الاكتئاب بعدها، وراجعت الطبيبة النفسية التي شخصتْ لي حالتي بأنها 'اضطراب اكتئابي كبير مترافق مع القلق'، ووصفتْ لي مهدئاتٍ لأستخدمها لفترة قصيرة، بالإضافة إلى مضاد اكتئابٍ 'زولوترال عيار 50 ملغ'، لأتناوله على المدى الطويل، وبعد أشهر عدة تحسنتْ حالتي كثيراً وأصبحتُ أكثر ثقةً ونشاطاً وأقل حيرةً وقلقاً، وعدتُ إلى الكتاب وقرأته من الجلدة إلى الجلدة في جلسة واحدة، بتمعنٍ ودقةٍ من دون أن تسيطر عليَّ مشاعر الخوف والقلقِ. لا شكَّ في أنَّها كانت موجودةً، ولكنها أخفّ بكثير من ذي قبل".
ويروي أن الكتب والمقالات توالت بعد ذلك، فكوّن الكثير من الأفكارِ والقناعات التي تتناقض مع معتقداته الدينية السابقة، وهنا بدأ يتساءل: "هل أدى مضاد الاكتئاب 'الزولوترال' إلى تغيير معتقداتي الدينية؟ أم تسببت الظروف في ذلك؟".
الكثير من العقلانية
تقول الدراسات الطبية الحديثة إنّ مضادات الاكتئاب تجعل المريض في حالة من الخمول أو السواء العاطفي، أي أنّه لا يمر بتجارب عاطفية متطرفة، وهذا ما يقلل من الشعور بالذنب الشائع عند مرضى الاكتئاب.
وجدت دراسة نُشرت في عام 2017، أن معدل التراجع العاطفي لدى مرضى الاكتئاب المعالَجين بلغ 46%
ووجدت دراسة نُشرت في عام 2017، أن معدل التراجع العاطفي لدى مرضى الاكتئاب المعالَجين بلغ 46%، وهو أكثر تواتراً بقليل بين الرجال مقارنةً بالنساء (52% مقابل 44%).
من جهتها، تقول بيلسان (29 عاماً)، خريجة كلية الصيدلة: "كنتُ أعاني من اضطراب القلقِ الاجتماعي، وعانيت كثيراً من تسارع ضربات القلب، واحمرار الوجه، والدوخة، وكنت عندما أدخل صالون بيتنا المليء بالضيوف، أو عندما أعود إلى مقعدي بعد أن يُطلب مني التحدث أمام الطلاب في مدرّج الكلية، كنت إذا رأيتُ أحداً يضحك أو يتذمر أو يعطي أي انطباع آخر، أصدّق وأقتنع بأنّه يقصدني أنا، ويهزأ بما كنت أقوله أو بالطريقة التي كنت أتكلم بها".
بعد فترة وجيزة من العلاج بالزولوفت (سرترالين)، تذكر بيلسان أنها تخلصت من معظم الأعراض المزعجة التي كانت تعرقل سير حياتها، وأصبح لديها الكثير من الوقت الذي تستطيع استغلاله في الأمور المفيدة.
في هذا السياق، يقول الاختصاصي في علم الاجتماع والمرشد الاجتماعي الممارس والمدرب المعتمَد، زياد طرابلسي: "إنّ اهتمامنا بالصورة التي نريد أن نظهر بها للآخرين، والمبالغة في إعلاء أهمية رأي الآخرين بدورنا، قد يسبّبان لنا مشاعر الإحباط، ومن الممكن إذا استمرّا أن يتحوّلا لاحقاً إلى اكتئاب".
تتابع بيلسان: "أصبحت أقرأ كتباً وبدأ يتشكل ذوقي الثقافي في انتقاء الكتب والمثقفين والمفكرين الذين أقرأ كتبهم وأتابع لقاءاتهم، وأذكر اليوم الذي صادفت فيه برنامج 'تابو' مع المفكر والباحث السوري نبيل فياض، وأنا أقلّب في قنوات اليوتيوب. لقد أدمنت الاستماع إليه، وانغمست كثيراً في الأفكار الجريئة التي تُطرح فيه. ثم انتقلت لقراءة كتب الدكتور ومقالاته، ثم توصلت بعدها إلى قناعات جديدة حول القرآن والسنّة النبوية وتاريخ الإسلام ونشأته والتراث الإسلامي بشكل عام، وهي قناعاتٌ تختلف تماماً عما ورثته من أهلي وبيئتي من معتقدات ومبادئ".
حينها، تروي بيلسان: "عدتُ إلى الوراء وحاولت أن أحدد النقطة التي تغيّرت عندها أفكاري، ووجدت أنني بعد أسابيع عدة من تناول الزولوفت، أصبح تفكيري أكثر عقلانيةً ومنطقيةً، ولم تعد المشاعر والعواطف تتحكم بسلوكي وأفكاري كما في السابق. ولو تحدّث أمامي شخص ما في موضوع معيّن، فلا أهتم بنبرة الصوت، أو شخصية المتكلم، أو لباسه، أو لغة جسده، وهذا ما يعمل العديد من رجال الدين على استغلاله لإقناع أتباعهم بما يقولونه، فما أصبح يهمني ويعنيني هو الكلام فقط، وما يتضمنه من أفكار".
التخلّي عن الارتباط الديني
يقول الطبيب النفسي في مشفى المواساة الجامعي في دمشق، أسامة عزيزية، إن "مضادات الاكتئاب هي تلك الأدوية التي ستُعيد لك الوعي عند فقدانه، لكنّها لن تقتلعك من حفرة الاكتئاب بسهولة. لن تقوم بالمهمّة الكاملة كما يعتقد معظم المرضى، فهي تساعدهم فقط على استعادة التوازن، فتعزلهم عن أفكارهم ورغباتهم، وعندها يستطيعون رؤية الحياة كمشهد أكثر وضوحاً وأقل تشتّتاً".
تقول هانا (اسم مستعار)، وهي شابةٌ عزبة في الثالثة والثلاثين من العمر، وخرّيجة كلية الآداب والعلوم الإنسانية-قسم الفلسفة في جامعة دمشق، وتعمل في إحدى شركات الصرافة في مدينة اللاذقية: "من المنطقيّ أن يُصاب أيّ إنسان يفكر 'بين هلالين' بالاكتئاب، ومن الطبيعي أن يُلحد الإنسان عندما يفكر في معتقداته وموروثاته الدينية والطائفية، لأنه سيراها بعد نقدها وعزل عواطفه عنها أفكاراً بسيطةً وبدائيةً عفّى عليها الزمن".
تقول إحدى الدراسات إن التدين يحمي الأفراد ويساعدهم على التعافي من الاكتئاب، لكن هناك دراسات كثيرة قد أقرّت أيضاً أن الصلاة القسرية قد تفاقم الاكتئاب، فما الحل؟
وتضيف: "لقد عانيتُ من اكتئاب مزمن من كثرة الشك والتفكير، حتى أصبح نمط حياتي السائد، ورفضت أن أتناول الأدوية لأسبابٍ شخصية، ولكني لاحظتُ على أصدقائي وصديقاتي عدم الاكتراث بعادات المجتمع وتقاليده بنحوٍ واضح، من دون أي خوفٍ من ردّات الفعل، على عكسي أنا، فقد اختبأت مع أفكاري الخاصة تحت جلدي، وكتمتُ الأصوات داخل رأسي، وحرصتُ على أن أبدو كما يتوقع الآخرون أن يروني".
يقول طبيب الأمراض النفسية ومعالجة الإدمان في فرنسا، رفيف المهنا: "لا أعتقد أن لشخص كبر جسدياً ونفسياً في مجتمع ديني، أن يكون قادراً في المستقبل على أن يصير ملحداً أو لا دينياً أو حتى علمانياً. من ينمو في مجتمع ديني، يحمل بنيةً نفسيةً أوليةً تصنّف كل شيء على أساس: الخير أو الشر، العدو أو الصديق، الحب أو الكراهية".
ويضيف: "الأفراد في هكذا مجتمعات وفي رحلتهم للتخلي عن ارتباطاتهم الدينية بدافع الكراهية، يشعرون بفرح التحرر من الارتباطات السطحية القائمة على السلوك والشكل والألفاظ ولا ينتبهون إلى ارتباطات عميقة في العمليات الفكرية النفسية الأساسية، تحسم خياراتهم تجاه القضايا المصيرية والكبرى شخصيةً كانت أو وطنية. واللا ديني الحقيقي، هو شخص وُلد في مجتمع لا توجد فيه عداوات 'عضوية' وتاريخية، ولا يخاف من أخطائه وعثراته، ولا يعتقد بوجود جنّة أو نار بعد الموت".
ووجدت إحدى الدراسات أن التدين يحمي الأفراد ويساعدهم على التعافي من الاكتئاب، مع بقاء الأفراد غير المكتئبين في الأساس في صحة عقلية جيدة (أي غير مكتئبين)، لعامين على الأقل، إذا كانوا يحضرون المناسبات أو الخدمات الدينية بشكل منتظم، في حين أن أولئك الذين يعانون من الاكتئاب في الأساس كانوا أقل عرضةً للانتكاس في حال كانوا يشاركون بشكل متكرر في الصلاة".
التدين التقليدي أو التدين الجوهري يرتبطان عكسياً بأعراض الاكتئاب بين كبار السن
كما وجدت دراسة أخرى، أن المعتقدات الدينية أو الروحية أو حضور الخدمات الدينية/ الروحية قد تحمي الأبناء المعرضين لخطر كبير من الاكتئاب.
ووجدت دراسة ثالثة، أن التدين التقليدي أو التدين الجوهري يرتبطان عكسياً بأعراض الاكتئاب بين كبار السن الذين يعيشون في الهند.
الوقاية بالتديّن
صحيح أنّ الصلاة والطقوس الدينية تقي الإنسان من الإصابة بالاكتئاب، ولكن هذا لا يعني أنّ إجبار الشخص على الصلاة يمكن أن يشفيه أو يقيه من الاكتئاب، إذ تقول إحدى الدراسات الحديثة إنّ الصلاة القسرية قد تفاقم الاكتئاب من خلال خلق شعور بالذنب أو الخزي لدى الأفراد الذين لا يشعرون بالراحة تجاه الممارسات الدينية المفروضة عليهم أو لا يؤمنون بها. ويمكن أن يؤدي ذلك إلى الشعور بالعزلة والقلق والاكتئاب.
كما أنّ الاعتماد على الصلاة فقط (أو غيرها من الطقوس الدينية)، للتعامل مع التجارب المؤلمة والاكتئاب، لن يمكّنهم من الوصول إلى أشكال أخرى من الدعم (العلاج النفسي والأدوية)، التي يمكن أن تكون مفيدةً أكثر لصحتهم العقلية.
ومن المهم لأخصائيي الصحة العقلية أن يأخذوا في عين الاعتبار دور الدين والطقوس الروحية في حياة مرضاهم، ولكن أيضاً يجب تشجيعهم على اتّباع نهج شامل للعلاج يتضمن العلاجات المثبتة بالأدلة (الأدوية والعلاج المعرفي السلوكي على سبيل المثال)، وأنظمة الدعم الحياتية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعربما نشهد خلال السنوات القادمة بدء منافسة بين تلك المؤسسات التعليمية الاهلية للوصول الى المراتب...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحرفيا هذا المقال قال كل اللي في قلبي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعبكيت كثيرا وانا اقرأ المقال وبالذات ان هذا تماما ماحصل معي واطفالي بعد الانفصال , بكيت كانه...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحبيت اللغة.