منذ بدء الحصار على قطاع غزّة عام 2006، بدأ مفهوم البَحر يتشكّل بصورة مختلفة في عقول الغزيين، حيثُ بات الفسحة الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها عند الشعور باليأس أو الوحدة أو الحب. كما يمكن القول إنّه تحوّل إلى ما يشبه "الأسطورة"، وبات ما يطرحه -بغض النظر عن نوعه وشكله- مدعاةً للتعجّب، ولا يمكن تحديد ما إذا كان هذا التعجب نابعاً من الاشتياق إلى ما تطرحه الشواطئ الأخرى على الطرف الآخر من العالم، أم من الرّغبة العارمة في رؤية ولو زجاجة فارغة تحمل شكلاً مختلفاً عن الزجاجات المتوفرة في السّوق.
"حواديت" عن طرح البحر وأشياء أخرى
استطاعت الفنانة ريهاف البطنيجي أن تنتبه إلى ما يطرحه بحر غزّة من أسماك وبقايا وذكريات، وكعادتها امتلكت القدرة على تحويل التفاصيل اليومية العادية إلى أشياء تُثير النّظر وتفتح الآفاق لما يحدث هناك على الشاطئ.
منذ بدء الحصار على قطاع غزّة عام 2006، بدأ مفهوم البَحر يتشكّل بصورة مختلفة في عقول الغزيين، حيثُ بات الفسحة الوحيدة التي يمكن اللجوء إليها عند الشعور باليأس أو الوحدة أو الحب. كما يمكن القول إنّه تحوّل إلى ما يشبه "الأسطورة"
وبعيداً عن التقاطها تفاصيل الشّارع الغزي منذ حملت الكاميرا قبل 15 عاماً، وانتباهها إلى ما يحدث حتى وهي ذاهبة إلى العمل، قدمت في معرضها "حواديت طرح البحر" الذي أقيم في المركز الفرنسي في غزة، رؤيةً مختلفة للبحر اشتملت على صور ولوحات تركيبية قدّمتها عبر الكاميرا وعينيها وتأملها الطّويل للبحر بعيداً عن كونه بحراً فقط.
شكلت ثنائية الصياد والسمكة بالنسبة لريهاف، عملاً بطولياً، فهي ترى أنّهما يفعلان شيئاً مستحيلاً يتمثل في الوصول إلى البرّ برغم رصاصات الاحتلال، ورصاصات الماء التي لا تتوقف أبداً. تقول ريهاف البطنيجي، لرصيف22: "بدأت الفكرة من وجوه الصيادين ووجوه الأسماك، لقد أخبرتني أسراراً كثيرةً عن بحر غزّة، هذه المساحة التي تُفقدنا قدرتنا على التوقع، وتمنحنا شعوراً بالإنسانية بعيداً عن الطائرات التي سلبت منّا إنسانيتنا، فهذه المساحة الزرقاء تعيدني إنساناً بعيداً عن الأخبار العاجلة والقصف والخوف".
"كل صحن سمك وراه حياة ناس"
ترى ريهاف، أنّ ما يفعله الصيادون في غزّة من توارث للمهنة برغم خطورتها، هو بمثابة تعليم للتاريخ، لهذا ترى أنّ "كل صحن سمك وراه حياة ناس"، في وصفٍ للتهديدات المستمرة التي تُعرّض الصيادين للموت عند إطلاق الاحتلال للنيران عليهم أو للسجن عند أسرهم، لهذا ترى أنّ ما يقومون به يُشبه "الوطن" في دلالة واضحة على حالة الحب غير المشروط التي يهبها الصيّاد للبحر، وفي تمثيل حقيقي لهذه الحالة؛ قدّمت ريهاف مجموعةً من الصور لوجوه الصيادين، مرفقةً بأسماك قاموا باصطيادها من البحر.
تقول ريهاف: "الصيادون هُم أعظم ما حدث في المعرض، فوجودهم قبالة الصور الخاصة بهم، جعلهم المتلقّي الأوّل للعمل الفني". ثم تضيف: "عرضت خلال المعرض فيديو لشهادات الصيادين يروي قصصهم الدراماتيكية لمن يعيشون خارج غزّة، وهذه الشهادات والتفاصيل تُبرز عدم معرفتنا بأسرار الصّيد، خصوصاً في ظلّ تمسّك الصيادين بالمهنة على الرّغم من حملهم شهادات علميةً تؤهّلهم للعمل في أماكن أكثر أماناً". وبعد حديثها عن هذه التفاصيل، تقول ريهاف: لأجل ذلك كلّه أسميت المعرض "حواديت".
تركيب الحكايات
قدّمت الفنانة ريهاف البطنيجي عشرة أعمال تركيبية في المعرض، تكوّنت من أشياء عادية ربما يصادفها أي شخص يمشي على شاطئ البحر، وقد لا ينتبه إليها أحد على الإطلاق، ولكن ريهاف كانت قادرة على التقاط هذه الأشياء، ومنحتها قيمةً عبر تخيّل حكاياتها التي كانت، وقد عدّت هذا الأمر روايةً لقصة أخرى تتعلق بالسّمكة والصّياد، فنجد مثلًا أنها منحت حذاءً ممزّقاً حكايةً غريبةً، حيث كتبت واصفةً قصته: "لا نعرف اسم العازف الذي أصرّ أن يتبع سمكةً ابتلعت خيطاً واحداً من العود الأخير لأغنيته".
وفي عملٍ تركيبي آخر، قدمت ريهاف وصفاً معبراً لحكاية زجاجة بلاستيكية، فكتبت: "زجاجة فارغة من الهواء، معبّأة بالوقت". وفي دلالة على رؤيتها المختلفة للأشياء، والتقاطها للتفاصيل التي تميزت بها من قبل بالصّور البصرية التي التقطتها، تصف ريهاف، "دميةً من قماش، لعب البحر فيها ولكنه ملّ سريعاً"، قائلةً: "لم تعرف ليلى أن الذئب يسكن البحر أيضاً، ولا يؤمن بحواديت الجدّات".
وبالرجوع إلى دهشة ريهاف، بمهنة الصيد، واهتمامها بتوثيق ما يحدث مَعهم وتدوين ما حدث حتى يراه الآخرون، قدّمت عملاً تركيبياً مكوّناً من بقايا طعام، وأرفقته بالكلمات التالية: "بقايا طعام الرجال الذين وقفوا على الخط الفاصل بين المدينة وأختها الملاصقة لها، لا لشيء فقط ليلحقوا بسمكة واحدة وعدتهم بأن المياه هنالك أعذب.
الرحمة على روح الصيادين الشهداء حسن ومحمود الزعزوع".
صناعة الالتقاط الذكية
شكّل معرض "حواديت طرح البحر"، وجهاً جديداً في الأعمال التي قدّمتها، ويمكن القول إنها استطاعت من خلاله تقديم الصور والأعمال المركبة بطريقة نجحت تماماً في جذب الاهتمام إليها، فقد استطاعت بصناعة التقاط ذكيّة للغاية، أن تحوّل عادية الحياة اليومية إلى مفردات وأعمال وتفاصيل يُحتفى بها، ويتم تأملها على الرغم من وجودها على الشاطئ ببساطتها وعفويتها وربما في بعض الأحيان بإزعاجها، على المستوى البصري على الأقل، ولعل تجربة السّفر التي خاضتها ريهاف مؤخراً، ساهمت في صناعة الالتقاط الذكية في المعرض، حيث اختلف معرضها هذا عن معارضها السابقة كمعرض "حاكورة دارنا"، و معرض "واحد وخمسون أرض"، ومعرض "قصّة من الأطراف".
تقول ريهاف: "بعد السفر... حاولت القيام بما أحب أن أراه في غزّة، فلهذا لجأت إلى صناعة أكثر من شكل في المعرض، تمثّل ذلك في ثنائية الصياد والسمكة، والأعمال التركيبية، والفيديو التوثيقي. أخذتني فكرة التجريب، ولم أعد أشعر بأنّي بحاجة إلى التكلّف، وأيقنت بضرورة مشاركة الناس في المرحلة البصرية التي أمرّ بها".
البحر وما يطرحه من وجهة نظر الغزّيين
تختلف رمزيّة البحر بالنسبة للغزيين، فهو للصيادين بمثابة الصّديق الذي لا يُمكن مفارقته، وللأمهات بمثابة الغول الذي يخطف أرواح أبنائهنّ الباحثين عن الحياة في الجهة الأخرى من العالم، وللشباب بمثابة الفسحة التي يُمكن من خلالها الحصول على جلسة صافية ورحابة غير موجودة في باقي أزقّة المدينة، وللفنانين بمثابة شُعلة يحرقون بها حزنهم ويشعلون بها خيالهم الذي لا يتوقّف عن التحليق فوق المساحة الزرقاء.
تقول ريهاف: "الغول، هو اللقب الذي تطلقه أمّي على البحر، فشكله وصوته يذكّرانها على الدّوام بالناس الذين غرقوا فيه خلال الصّيد وخلال رحلات الهجرة، أمّي ترى أنّ البحر لا يمنح إلا الألم لهذا أطلقت عليه لقب الغول. ولكنني رأيت البحر بشكل مختلف تماماً عن أمّي، فلطالما أحسست بأنني مخلوقة من موجة بحر، وأنّ البحر في داخلي لا ينتهي".
قدّمت ريهاف البطنيجي، في معرضها "حواديت طرح البحر"، قالباً جديداً بأعمالها المركبّة ومشاركتها للتفاصيل اليومية التي يُبحر فيها صيادو غزّة، لتستطيع بذلك الوصول إلى قالب جديد في عرض الأشياء ومنحها أهميةً
ثمّ تضيف: "البحر يشعرني بأننا لسنا محاصرين، أشعر بأنّه يُداري ضعف الحصار، ويمنحني تفسيراً لوجود مدينة مثل مدينة غزّة".
البحر ينتهي بأشياء حقيقية
قدّمت ريهاف البطنيجي، في معرضها "حواديت طرح البحر"، قالباً جديداً بأعمالها المركبّة ومشاركتها للتفاصيل اليومية التي يُبحر فيها صيادو غزّة، لتستطيع بذلك الوصول إلى قالب جديد في عرض الأشياء ومنحها أهميةً، سواء عبر القصاصات القصيرة التي كتبتها كسيرة ذاتية للأعمال، أو عبر نقل صامت ومَحكي لحياة فئة من أهم فئات المُجتمع البحري في غزّة.
تختم ريهاف حديثها قائلةً: "حملني المعرض إلى شيء حقيقي لم أتخيّل أن يستوعبه الناس... ليكون انطلاقةً لقصص أخرى ستُروى لاحقاً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ يومينعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامرائع