تندرج هذه المادة ضمن ملف "75 عاماً من النكبة... الحلم وسط المأساة"
لا يمكن حصر النكبة في كونها حدثاً تاريخياً تحقّق في يوم واحد سنة 1948، ثم ننتهي ونقفل خانة التعريف وينتهي معه كل شيء، فمن غير المعقول تجاهل كل تبعات الكارثة، بأبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، على الأجيال المتعاقبة، فمنذ الجيل الذي يعرف بـ "جيل النكبة" إلى حد الجيل الأخير أو الجيل الجديد، لم يتوقف الفلسطيني عن المواجهة والتصدّي لمصاعب الحياة وصعوباتها، فالنكبة بمفهومها الحقيقي هي حالة التهجير المتجدّدة والمستمرّة.
منذ ظهور الاستيطان والتوغّل الاستعماري لفلسطين، لم يتوقف الاستيطان، وعليه لم تتوقف الهجرة، بل ظلت تتصدّر الموقف إزاء معاناة الفلسطيني مع الحروب وحملات التهجير حتى آخرها قرية "مسافر يطا"، حيث يعاني السكان هناك يومياً من الطرد وهدم البيوت والترحيل القسري، فليس من المنطق أن نعرّف النكبة ونحصرها في جيل وسبب واحد منذ 75 عاماً.
إذن يلزمنا، نحن الفلسطينيين، فهم أوسع وقراءة أفضل للتبعات واللاحقات في الشأن العام، فمن الوارد جداً أن بقاء الاستعمار والتطورات السياسية سوف يتبعه بقاء لحالة التهجير والتوجه نحو الخلاص، فلم تستطع الأجيال على الاستقرار الطبيعي والبقاء بسبب ديناميكية الأحداث والمتغيرات السلبية التي طرأت عليه مع أول تجربة خلاص، ربما كان جمعياً، لأن يومها كنا مجتمعين، ثم تنوّع الخلاص يوم تفرّق الفلسطينيون بين الدول في الشتات وفي أماكن متناثرة من الخارطة.
منذ ظهور الاستيطان والتوغّل الاستعماري لفلسطين، لم يتوقف الاستيطان، وعليه لم تتوقف الهجرة، بل ظلت تتصدّر الموقف إزاء معاناة الفلسطيني مع الحروب وحملات التهجير حتى آخرها قرية "مسافر يطا"
يُعرّف باحثون في علم الاجتماع مفهوم الجيل "بمرحلة التعاقب الطبيعية من أب إلى ابن"، ويعرّفونه أيضاً بـ "متوسط الفترة الزمنية بين ولادة الآباء وولادة أبنائهم، ومدتها تتراوح بين 32 إلى 30 عاماً"، ففي وضعنا الفلسطيني الحالي، نعيش بدايات التشكيل الأولية للجيل الرابع في مناطق تواجده المختلفة، وتحت ظروف إنسانية وسياسية معقدة وشبيهة لظروف الأجيال السابقة، أي أن الظروف لم تتغير عليه، ولا زال يعيش في حالة تحدٍ ومواجهة لكافة الضغوطات التي يمرّرها الاحتلال عبر سياساته لتقويضه ورسم حدود ومسارات لأفكاره، وأيضاً لنزع منه جانب التفكير الجمعي لصالح التفكير والخلاص الفردي.
كان جيل النكبة يعرف طريقاً واحداً للخلاص وهو الخلاص الجمعي، وكان يغلب آنذاك على تفكير الناس.
يتلخّص تعريف الجيل العربي الفلسطيني الجديد بجيل الألفية الثالثة على وجه الدقة والتحديد، الجيل الذي نشأ وترعرع مع انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، الاضطرابات الأمنية الداخلية، ازدياد معدل الاستيطان والسياسات الإسرائيلية المتطرّفة، والانهيارات والتصدعات لدى كيان السلطة الفلسطينية والتمثيل السياسي، ظهر بظهور الأزمات العصرية والاقتصاد المنهار والحلول البعيدة بعد نفاذ صلاحية "اتفاق أوسلو 93" وانسداد الأفق السياسي. جيل اللاتواصل والحرمان من أبسط الحقوق والضرورات، حيث الحواجز التي حالت دون التجمع واللقاء، فلا ابن غزة يمكنه الوصول لابن الضفة ولا العكس، ولا ابن القدس ولا ابن أراضي الـ 48 ولا من سكن في مخيمات الشتات أو هاجر إلى أميركا وأوروبا. جيل الشرذمة والحدود والسياج والأسلاك الشائكة والجدار الفاصل والبوابات الثقيلة وتعطل المطار حديث البناء والولادة. جيل لم يذكر أنه تجمع لمرة واحدة، حتى اختلفت أنماط معيشتهم وعاداتهم وثقافتهم وخصائصهم وخصوصياتهم، الأمر الذي حتّم على كاتب السطور الفصل بينهما، آسفاً ومضطراً.
لم تكتف الحدود بمنع اللقاء والتجمّع الطبيعيين في مكان كما ذُكر أعلاه، بل تدخلت أيضاً في فرض ظروف حياتية مختلفة ومغايرة بين مختلف مناطق التجمع الفلسطيني، فمعظم الدراسات التي ناقشت واقع الأجيال الفلسطينية عبر تاريخ تجربة ما بعد النكبة، كانت تتطلّع للإجابة حول الخلاص والطرائق الممكنة للحل، حيث لا يجب الشرح والتوصيف فقط، إنما توجّب على الباحث والكاتب المسؤولية والمشاركة، وقبل تعريف الخلاص، من المهم تفنيد طبيعة الاختلاف والأزمات التي تفرق بين الجيل وتشتت شمله وجمعه.
ففي الضفّة الغربية، يعيش الفلسطينيون هناك بمجموعهم بين الحواجز والجدار الفاصل، ويقضون معظم ساعات يومهم في التنقل والوصول لمصالحهم، غير التهديدات اليومية واقتحامات المستوطنين المستمرّة لمناطق السكن الفلسطينية، واستخدام العنف والسلاح ضد الآمنين، كما يعيش الجيل ضمن الأزمة، فلا يستطيع الوصول الى مدرسته دون المخاطرة والاحتكاك بالجيش الإسرائيلي وبالمستوطنين، أما في الشتات، وأقصد في المخيمات بين لبنان وسوريا والأردن، فيعيشون في أوضاع قانونية وسياسية خاضعة للسلطات القائمة، وفي أمريكا أوروبا، ولد الجيل الفلسطيني الجديد بخصائص ومميزات جعلته أبعد عن الهم والهوية والمشتركات الثقافية والوطنية مع أبناء جيله في فلسطين التاريخية، أما من يعيش تحت حكم الاحتلال في الداخل، فإنه يعيش في ظروف قانونية صعبة تبعاً لقانون القومية، والذي يُعامل الفلسطينيين معاملة الدخلاء.
وبالانتقال إلى غزة، يعيش الشباب ظروف قاسية نتيجة الحصار وجولات الحروب المتكرّرة، التي أفرزت ظروفاً صعبة، كالفقر المدقع بمعدلات رهيبة والبطالة بأرقام مفزعة، غير نقصان المساحة وضيق توفر مساحات للسكن، والقصور على المستوى الثقافي الاجتماعي، والاضطرابات النفسية التي يتعرّضون إليها نتيجة تراكم الضغوطات اليومية والحياتية، ما يعني أن التوجهات للخلاص بين أفراد الجيل الواحد مختلفة، وهذه تقع ضمن أهم المتغيرات بين جيل النكبة والجيل الجديد.
كان جيل النكبة يعرف طريقاً واحداً للخلاص وهو الخلاص الجمعي، وكان يغلب آنذاك على تفكير الناس.
الجيل الرابع هو جيل اللاتواصل والحرمان من أبسط الحقوق والضرورات، حيث الحواجز التي حالت دون التجمع واللقاء، فلا ابن غزة يمكنه الوصول لابن الضفة ولا العكس، ولا ابن القدس أو ابن أراضي الـ 48 ولا من سكن في مخيمات الشتات أو هاجر إلى أميركا وأوروبا
ليس المقصود من المقال حول الخلاص هو الوصول إلى الحل النموذجي لمشكلات الفرد والجماعة، بل تسليط الضوء على قضية تبدو الآن مستثناة من حساباتنا، فعبر قراءة أسباب ظهور المفهوم، تبين أنه جاء نتيجة إفراز مراحل انحطاط فيها ما يكفي من الاستسلام والخنوع، أما الخلاص فيحتاج إلى تفتّح داخلي عميق، وهذا ليس بالأمر اليسير على جيل يقع تحت لاوعي جمعي يعتمد مبدأ المسكنات والترقيع لإدارة شؤون الحياة.
يعيش الجيل الفلسطيني الجديد اليوم بين جملة من الآراء والمواقف، تشجّعه على الخلاص دون حسابات العقل والمنطق، وأخرى تفرض عليه قيود البقاء دون العلاج لمشكلة البطالة، على اعتبار أن اقتصاد الفرد مؤسِّس لبقائه. يقول الراحل وعالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري، إذن ماذا نحتاج من أدوات حكيمة وعقلانية، من شأنها أن تحمي مستقبل الجيل الجديد؟ الشعارات الضخمة والمؤتمرات لا تكفي، وأضف عليها مواقع التواصل والاتكاء على التغيير من خارج المجتمع، لم ولن يحل ربع المشكلة.
إن قبضة الاحتلال وسيطرته على منافذ حياة سكان غزة، وأخرى قبضة حكم حماس تحت الاحتلال، كقوتين متضاربتين، يعيش كل منهما على هامش معاناة الناس، لمن أسوأ وأعقد المعادلات صعبة التفكيك: احتلال غير أخلاقي يمارس كل أشكال العنف دون رادع، وحاكم لا يملك ما يكفي من الوعي والمسؤولية، وأخرى معارضة غير أهل للشجاعة ولا تملك رؤية، وليس عندها استشراف نقيض للواقع، لكن هذا لا يجب أن يشكل كامل وعينا حول الحديث في سبل نجاح الخلاص الجمعي، ولو كان فردياً، كيف يمكن أن نجعله مقبولاً وغير ضار لمصلحة الجماعة، فعقدة "القائد المذنب" وثقافة انتظار "القائد المخلص" دون المبادرة الشخصية والسؤال المستمر لعلاج مشكلات تفتك بالجميع لا يجب أن تستقر في وعينا حدّ الجلد والتملّص من المسؤولية.
أعرف، ويعرف جميع القراء، بأنه لا يوجد أفق، وليس للناس سبيل في العيش والاستقرار في غزة. كثير من العوامل السلبية أشاعت حالة اليأس الذي أثقل كاهل الشباب، وغيّبت شعور الانتماء، الأمر الذي أدى إلى نكران الهوية، حتى عششت في قصصهم وحكاياتهم الساخرة الكثير من الآلام والأوجاع الوطنية والاجتماعية والسياسية.
أعرف، ويعرف جميع القراء، بأنه لا يوجد أفق، وليس للناس سبيل في العيش والاستقرار في غزة. كثير من العوامل السلبية أشاعت حالة اليأس الذي أثقل كاهل الشباب، وغيّبت شعور الانتماء، الأمر الذي أدى إلى نكران الهوية
الخلاصة، يجب أن نسلّم، رغم كل التحديات التي أوردتها النكبة المتجدّدة، بأن الفردانية ليست حلاً نهائياً يجب أن نتكئ عليه للخلاص، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية، أما الخلاص الجمعي فهو يحتاج جهوداً أكبر تتصل بالمستوى السياسي الداخلي والإقليمي، فالتمثيل السياسي الفلسطيني ليس كغيره من بقية الممثليات العربية، وتبعاً للتعقيدات والتراكمات التي تشكلت بفعل الضغط على المكوّن السياسي الفلسطيني، والانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي، إضافة لوجود حكومة احتلال مُعفاة من كامل المسؤوليات والضرائب، فقد تمّ تغييب الخلاص الجمعي لصالح الخلاص الفردي، حيث لا يمكن الوقوف في وجه جيل يعيش الشقاء والفقر في باكورة عمره، فلم تتشكل لديه المشاعر ولا القيم الصحية ولا الروابط المجتمعية الأصيلة وروابط المكان، بينما جرى العكس، فلم يرد في مخيلته حول فلسطين غير غزة في أسوأ أحوالها.
الخلاصة، يجب أن نسلّم، رغم كل التحديات التي أوردتها النكبة المتجدّدة، بأن الفردانية ليست حلاً نهائياً يجب أن نتكئ عليه للخلاص، خصوصاً حين يتعلق الأمر بالقضايا الوطنية.
نعم سوف نكون قساة زماننا إذا وقفنا في وجه خياراتهم، لكن كيف السبيل للاستفادة من الخلاص الفردي إذا تحتم؟ سؤال مفتوح للإجابة والمشاركة، حيث لا يملك أحد النموذج، ففي غياب التمثيل تظل الإجابات خاضعة للارتجال والمبادرة، فوجود جاليات فلسطينية وتجمّعات خاصة بالفلسطينيين بالخارج، ووجود ائتلافات شبابية تجمع بينهم، وتذكّرهم بالمناسبات الجمعية والتراث المشترك وأخرى بالعادات والقيم والخصوصية، سلوكيات ضرورية من شأنها أن تقلل من حدة وفجاجة المخاطر التي تعصف بمستقبلنا الاجتماعي والثقافي، غير مأسسة العمل مع الجيل الجديد، ضمن إحصائيات واستراتيجيات تتجه نحو تطوير وتحسين قدراتهم وتأهيلهم لأسواق العمل المفتوحة. يجب أن تظل هذه الاستراتيجيات ضمن أولويات التفكير لدى رأس المال الفلسطيني والمؤسسات الأهلية، فربطهم وجمعهم مطلب وطني، يسهّل مهمة جمع شتاتهم ويقلل من مخاطر نحن نشهدها اليوم في غرق مراكب الهجرة الجماعية وحالات الموت بالمجان.
وأخيراً، ما من نكبة تستمر لمدى الأجيال، وما من تاريخ يخلو من العلو والسقوط، فثنائية النصر والهزيمة قدر بشري، لكن هناك من يفضلون العمل وآخرون يحبون الانتصارات المزيفة والمراوحة في المكان، ما يزعجني ويؤرقني هذا التجاهل الرهيب لواقع ومستقبل الجيل الجديد، ويؤرقني أيضاً غياب المسؤولية الاجتماعية والمرجعية الوطنية التي تمنع تدحرج الأحوال إلى حال أفظع منه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكلام صحيح والله الواحد كان مكسوف وهو بيقرأ الكلام ده و فى ناس حوله لسه بيهزروا فى نفس الموضوع ،...
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعن أي نظام تتكلم عن السيدة الكاتبة ، النظام الجديد موجود منذ سنوات ،وهذه الحروب هدفها تمكين هذا...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ اسبوعينمقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ 3 اسابيععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...