شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
رياح الرحمة والعذاب... تفسيرات ماورائية للعواصف الترابية

رياح الرحمة والعذاب... تفسيرات ماورائية للعواصف الترابية

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

انقطع الأستاذ عن شرح الدرس، وأوصى الطلاب بالابتعاد عن النوافذ التي تفتقر أصلاً إلى الزجاج ومقابض الإغلاق، ثم أغلق باب الصف، والعيون جميعها تتطلع إلى الخارج عبر النافذة. ملامح الفضاء التي غيّبتها العاصفة الترابية مرعبة بالنسبة إلى أطفال لا يستطيعون تفسير الظواهر الطبيعية.

تحوّل لون العاصفة من الأصفر إلى الأحمر ثم أظلَمَت تماماً لنصف ساعة تقريباً. سمعت أحدهم يومها يقول: "هذه ركلة من الله جزاء أفعالنا"، وكان هذا عام 2007، في الناصرية، جنوبي العراق.

لم تنقطع صلتنا بالغبار بعدها، ولم يكن جديداً علينا أصلاً، لكن شدّته تلك المرة كانت حدثاً فريداً حينها.

الغبار جزءٌ من مواسم السنة، ليس في هذه المدينة فحسب، ويظهر ذلك في حكايات الأجداد، قبل أن تطال أذرع النظام السابق الأهوار وتجففها، وقبل أن تحز جرافاته أعناق الفسائل، قبل الهجرة من الريف وقبل أن تجثم الكتل الإسمنتية على صدر البساتين.

كنا ننمو والغبار جزء من حياتنا، يكبر معنا، ويتغلغل في تفاصيلها ملازماً حر الصيف. هاجس الغبار يكون حاضراً وقت شراء الملابس والأحذية. نفترض مسبقاً تأثير شوارعنا المغبرة عليها، ونعدل عن شرائها.

الهاجس ذاته يترك أثره على واجهات المنازل، وأثاث البيوت، ومفروشاتها وغرف النوم والستائر. عليها كلها أن تراعي الغبار. يتذمر مصممو الديكورات المحترفون دائماً من عبارة "إن هذا لا يناسب جونا"، غالباً عند رفض الألوان المحايدة واللون الأبيض.

بعد سنوات من غزو العراق، قيل إن "الغبار هو الشيء الوحيد الذي يستطيع تطهير الأرض والأشياء من آثار المواد المشعة"، كما قالوا إن الشمس تقتل جراثيم النفايات المنتشرة في الشوارع.

يقولون إنه "نعمة من الله"، إذا حجب الغبار شمس الصيف العمودية.

"الأرض بعد تقلب الفصول من فصل إلى فصل، أي من الشـتاء إلى الصيف، تبدأ بلفظ أمراض وحشرات لو تُركت لأهلكت العالم فيرسل الله الغبار فتقوم هـذه الأتربة والغبار بقتلها". هذه مقولة منسوبة إلى الفيلسوف العربي ابن خلدون في مقدمته، تلقى انتشاراً واسعاً عربياً، بيد أن "منصة فتبيّنوا لمكافحة الأخبار الكاذبة" نفت صلة ابن خلدون بها، وأكدت أنها لم ترد في مقدمته المشهورة.

تظهر تناقضات تأويلات الغبار والعواصف الترابية حسب سياق الضرر والمنفعة، ولا يقتصر الأمر على العراقيين والعرب فحسب.

"الجنرال رمل"

في نيسان/ أبريل من العام 1980، أحبطت عاصفة رملية مفاجئة عملية "مخلب النسر"، وتسببت بسقوط طائرتين في صحراء إيران، كانتا جزءاً من مهمة تهدف لتحرير رهائن السفارة الأمريكية في طهران آنذاك. قائد "الثورة الإسلامية في إيران" روح الله الخميني، قال وقتها إنها "معجزة من الله"، وقالت الصحف الموالية له إن "الرمال رسول من الله".

في نيسان/ أبريل من العام 1980، أحبطت عاصفة رملية مفاجئة عملية "مخلب النسر"، وتسببت بسقوط طائرتين في صحراء إيران، فقال الخميني وقتها إنها "معجزة من الله"، وقالت الصحف الموالية له إن "الرمال رسول من الله"

وفي آذار/ مارس من العام 2003، كان المصريون "سعداء" بالعاصفة الغبارية التي حجبت الرؤية عن ضفتي نهر النيل في القاهرة، و"كانوا يتمنون أن تمتد إلى العراق"، البلد الذي كان يستعد لحربه الحاسمة، وسمّاها ظرفاء المصريين بـ"الجنرال رمل"، وفي الوقت نفسه، ناقش أساتذة في العلوم السياسية خلال ندوة في جامعة القاهرة أثر العواصف الترابية على القوات الأميركية، و"عبروا عن أمانيهم في أن تستمر العواصف".

وبالفعل، في بلاد عدو الخميني اللدود، الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، عرقلت العواصف الترابية حركة القوات المتحالفة مع الولايات المتحدة الأمريكية التي بدأت فعلياً بعملية احتلال العراق في آذار/ مارس 2003، ثم فُقِدَت مروحيتان أميركيتان بفعل عاصفة ترابية حجبت الرؤية.

"العراق لا يقهر. والدليل أن الله أوقف تقدم الأميركيين وأعماهم بعواصف رملية وأمطار موحلة"، رسالة هاتفية متداولة في مالي، نقلتها صحيفة القدس العربي.

"غضب الله"

خلال صيف العام 2022، كانت العواصف الغبارية حديث الساعة، رافقتها عاصفة كبيرة بشأن تفسير أسباب ازديادها في البلاد. ذهب بعضهم إلى ربطها بانحسار الأشجار، وقال آخرون إنها مرتبطة بالتغيّر العالمي للمناخ، وغيرهم استبعد كل هذه الأسباب ورأى أنها حدث طبيعي.

وفي ذلك الوقت الذي كان فيه زعيم التيار الصدري، رجل الدين مقتدى الصدر، يخوض منازلات سياسية مع خصومه، انتهت باعتزاله العمل السياسي، الأمر الذي أثار حفيظة أنصاره الذين يقدسونه، ظهر واحد منهم في فيديو وهو يقول إن العاصفة الترابية "سببها عدم طاعة مقتدى الصدر"، مضيفاً: "بسببكم وبسبب أعمالكم فإن الدنيا مقلوبة... اتقوا الله بمقتدى الصدر".

في آذار/ مارس من العام 2003، كان المصريون "سعداء" بالعاصفة الغبارية التي حجبت الرؤية عن ضفتي نهر النيل في القاهرة، و"كانوا يتمنون أن تمتد إلى العراق"، البلد الذي كان يستعد لحربه الحاسمة، وسمّاها ظرفاء المصريين بـ"الجنرال رمل"

كثر يتفقون على أن العواصف الترابية الشديدة علامة من الله بسبب الظلم والفساد في العالم، وفي ذلك "يتقارب" أبناء المذهبين السنّي والشيعي. يقول الداعية السنّي حسين العولقي إن الغبار "غضب الله"، ويستدل في ذلك بتفاسير من القرآن. وهذا طبيعي في مجتمعات تستسهل اللجوء إلى الماورائيات في تفسير كل الظواهر، حتى الطبيعة منها.

وبينما كانت المستشفيات تستقبل حالات اختناق في عدة مدن، كان عددٌ من الأشخاص يتباركون بالغبار الذي ترسب بين حرمي الإمامين الحسين والعباس في كربلاء، بتأثير قناعة مفادها أن كل ما يطأ هذه الأرض "المقدسة" طاهر.

فقهياً، يختلف الشيعة عن السنّة في مسألة دخول الغبار الكثيف في فم الصائم. بخلاف أهل السنّة، يعدّونه مُفطِراً. لكن المذهبين يتفقان على جواز التيمم بالغبار "مع القدرة على الصعيد"، في حالة تعذر استخدام المياه للوضوء عند الصلاة.

"الريح من روح الله تعالى، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبوها، واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرها"، يقول النبي محمد.

التفسيرات ذات البعد الميتافيزيقي لهبوب العواصف الغبارية تستند إلى نتف من الغبار، ليست صريحة دائماً، كما في عذابات الأقوام في القرآن. في سورة الملك يرد: {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ}. ويذهب بعضهم في تفسير الحاصب على أنه الريح التي تحمل الغبار، وغيرهم يقول إنه غيمة تحمل الحجارة والحصى.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel

لا سلطان على الإنسان إلّا عقله

أُنزِلت الأديان رحمةً للعالمين، لكن هل كنّا نعلم أنّها ستُستعمل لمآرب متطرّفة لا تُشبه غايتها السامية؟ هل كنّا نعلم أنّها ستُستخدم ضدّنا، وعلينا، لتصبح خنجراً في الخاصرة، ليس بإمكاننا انتشاله كي لا يتفاقم نزفنا؟

بالإيمان الصوري، والتدين وجاهيّاً، والذكورية الصفيقة، والقداسة الموزعة "غبّ الطلب"؛ استعملت السلطات الدين، وسلّحته ضدّنا في العالم العربي، لتفريقنا، والسيطرة علينا وقمعنا.

"هذا ممنوعٌ وهذا مسموحٌ وذاك مرغوب، هذا حرامٌ وهذا حلال". لكن في رصيف22، شعارنا الوحيد هو "لا للعيش وفق تفسيرات الآخرين". 

0:00 -0:00
Website by WhiteBeard