كان ذلك في عام 2012، كنت أعمل لصالح إحدى القنوات الفضائية الوليدة، وطُلب مني، باعتباري مُعدّ التقارير الخارجية، تغطية جنازة أحد شهداء "ألتراس الأهلي" بعد مذبحة ستاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 شهيداً من مشجعي النادي الأهلي.
كانت هذه المرة الأولى لي في تغطية جنازة لشهيد، رغم حضوري جنازات بعض شهداء ثورة يناير، كمشيّع وسط الجماهير، لكن هذه المرّة من المفترض أني أمارس عملاً.
تذكرت هذه التجربة المريرة، عندما تابعت ما كُتب ونُشر عمّا جرى في جنازة الفنان المصري الشاب مصطفى درويش، الذي رحل فجأة الأسبوع الماضي، والتقطت عدسة إحدى الكاميرات صورة لصحفية وهي تضحك أثناء تصويرها مشهد انهيار أحد المشيعين بهاتفها. مشهد استفزّ مشاعر كل من شاهد اللقطة، وترتّب عليه ثورة غضب عارمة على مواقع التواصل، وفتح الموقف الحديث عن التجاوزات التي تحدث من البعض أثناء تأدية عمله لتغطية جنازات المشاهير إعلامياً.
تذكرت تجربتي السيئة بكل تفاصيلها، رغم مرور أكثر من 10 سنوات على اليوم الذي أقسمت فيه ألا أعمل في هذه المهنة لو كان هذا هو العمل. لكن يجب أن أبدأ الحكي قبل ساعات من هذا القَسَم.
كنت أعمل لصالح إحدى القنوات الفضائية الوليدة، وطُلب مني، باعتباري مُعدّ التقارير الخارجية، تغطية جنازة أحد شهداء "ألتراس الأهلي" بعد مذبحة ستاد بورسعيد التي راح ضحيتها 74 شهيداً
داخل ستوديو أحدى القنوات الفضائية بمدينة الإنتاج الإعلامي، أشارك في إعداد حلقة عن جيل الثمانينيات والتسعينيات من المطربين في مصر، لبرنامج شبابي خفيف. استضفنا فيه على الهواء، النجم الراحل علي حميدة، وكانت الحلقة تسير في جو من البهجة والـ "نوستالجيا" المحببة. اقترحت أن نتصل بالكاتب عمر طاهر، للحديث عن الموضوع.
هاتفت الكاتب وعرضت عليه فكرة الحلقة، لكنه صدمني بخبر مذبحة ستاد بورسعيد الذي لم يكن قد وصلني في عزلتي المؤقتة في غرفة الإعداد. بالطبع اعتذر طاهر عن المشاركة في الحلقة. كان محقّاً في ذلك، لكن ماذا أفعل أنا بعد سماعي الخبر الفاجعة، والمطلوب مني أن أكمل الحلقة الآن؟ ليس هذا فقط. لم يكن في خيالي أني سأغرق في مشاهد الحزن والبكاء والانهيار بعد ساعات قليلة. لم أعرف ما ينتظرني حقاً.
في مساء نفس اليوم، كنت بصحبة مصوّر ومراسلة القناة، نقف أمام سرادق عزاء أصغر شهيد في مذبحة بورسعيد، الطفل "أنس" ذي الأربعة عشر عاماً، الذي أدمت قصته وصوره قلوب المصريين. يا الله... ماذا سأفعل؟ ما الذي يجب أن أفعله الآن أصلاً.
متوتراً ومتصلباً أقف على بعد أمتار قليلة من مدخل السرادق، أسفل بيت الشهيد. مستنداً إلى شجرة ظليلة شكرتها كثيراً لأني استطعت الاختباء خلفها والاستناد على جذعها لأتمالك نفسي قليلاً. كان بداخلي مشاعر مختلطة. أريد أن أبكي أنا أيضاً. بكيت شهداء كُثراً في ثورتنا المجيدة، لكن "أنس" كانت تجربتي معه مختلفة تماماً.
أقف اليوم في صف آخر كمُعِدٍّ تلفزيوني يمارس مهنته. اليوم أرى مشاهد لم أشاهدها وأنا مشيّع عادي. في كل مرة كانت عيني ترصد بعض المشاهد وتخزنها كإجراء روتيني للعقل، لكن اليوم عليّ أن أسجّل وأصوّر وأذيع كل هذه المشاعر على الشاشة. هل يجب فعل هذا حقاً؟ هل هذا أمر أخلاقي وإنساني؟
كبرت المأساة حد التقيّؤ، عندما شاهدت عدداً من المراسلين يهرولون تجاه أي شخص يبكي للحصول على حديث معه. البعض يومها تشاجر مع زملائه وهم يتسابقون للتسجيل مع أصدقاء الطفل الشهيد أو أحد أسرته أو جيرانه، أو أي شخص يمكننا ملء الهواء به.
كل مراسل أو مراسلة يحاول إمساك الضيف المنهار من يده حتى لا يفلت منه لقناة أخرى، وآخر يترك أحدهم وسط استرساله ودموعه أمام الكاميرا، ليلحق بضيف غيره منهار أكثر منه. لا أحد منهم تقريباً يعبأ بالمأساة، أو هكذا تصورت. كان المشهد مريعاً بالنسبة لي، ومن المفترض أن أدخل أنا أيضاً لأشارك وسط هذا المشهد العبثي باعتبار أن هذا هو عملي. اللعنة، هل هذه هي حياتنا؟ يجب أن أهرب من هنا فوراً.
كل مراسل أو مراسلة يحاول إمساك الضيف المنهار من يده حتى لا يفلت منه لقناة أخرى، وآخر يترك أحدهم وسط استرساله ودموعه أمام الكاميرا، ليلحق بضيف غيره منهار أكثر منه. لا أحد منهم تقريباً يعبأ بالمأساة
لم استطع إكمال المهمة بالطبع. تركت المصور والمراسلة بمفردهما وغادرت المكان هارباً لا أعرف إلى أين. أحاول طرد كل المشاهد المريعة التي رأيتها وكنت على وشك المشاركة فيها. بعدها اعتذرت عن العمل في التقارير الخارجية، ومع نهاية الشهر وحصولي على مستحقاتي، تركت العمل بالقناة، وأخذت عهداً على نفسي ألا أقوم بهذا العمل مرة أخرى، حتى لو اضطررت لترك الحقل الإعلامي والعمل كبائع متجوّل في شوارع القاهرة.
ما معنى أن تسأل شخصاً عن شعوره بعد فقدانه لصديقه أو شقيقه أو زوجته، أو أن تسأل أماً مكلومة على ابنها الشهيد أن تحكي لك كيف استقبلت الخبر؟
ما حدث معي منذ سنوات، وما جرى الأسبوع الماضي في جنازة مصطفى درويش، يتكرّر مراراً في مثل هذه المناسبات، وبين الفترة والأخرى تحدث مواقف ومشاهد تصل حد الفضائح، التي لا تليق بحرمة الحدث، فما معنى أن تسأل شخصاً عن شعوره بعد فقدانه لصديقه أو شقيقه أو زوجته، أو أن تسأل أماً مكلومة على ابنها الشهيد أن تحكي لك كيف استقبلت الخبر؟
إذن، هل الحل، مثلما طالب البعض، هو منع الصحافة والفضائيات من تغطية جنازات المشاهير أو الحوادث والكوارث الإنسانية بسبب ما يجري فيها من تجاوزات من بعض المراسلين؟ أم سيأتي قرار نقيب الصحفيين في مصر، خالد البلشي، بعد إجراء التحقيق في الواقعة الأخيرة، بنتيجة إيجابية، حيث قرّر وضع ضوابط للتعامل مع هذه المواقف، وحتى هذا الحين، طالب الصحف والمراسلين قصر هذه التغطية في حدود ضيقة، لحين وضع هذه الضوابط، أم يجب على المؤسسات الصحفية والنقابة أن تقوم بعمل ورش لتدريب المراسلين والمراسلات على الطريقة الأفضل لتغطية هذه الأحداث والمناسبات؟
بالطبع لا يمكن منع، ولا يجب، أحد من ممارسة مهنته، لاسيما إذا كانت مهنة إنسانية في الإساس. فلا أحد ينكر الدور العظيم للمصورين الكبار الذين التقطوا وخلدوا مشاهد عظيمة في ذاكرتنا المصرية والعربية، بصورهم في جنازات شهيرة في تاريخ مصر، سواء لسياسيين أو نجوم الفن والرياضة، أو شهداء الحروب والثورات، لكن يجب عدم فقدان التعاطف البشري بذريعة التغطية المهنية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 5 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعينحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ اسبوعينخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين