شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
المتنبي... كيف يختلف الشاعر عن الشخصية؟

المتنبي... كيف يختلف الشاعر عن الشخصية؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 9 أغسطس 202210:56 ص

عندما كان أحدنا يقرزم الشعر وهو صغير، ويجهد نفسه في كتابة بيتين ويقوم بعرضهما على أصحابه الذين لا يهتمون بالشعر غالباً، كان الجواب يأتي واحداً: "شو مفكر حالك المتنبي!".

المتنبي صاحب الشخصية الشعرية الأشهر في الأدب العربي، ومن نافل القول أن نشير إلى أنه لا يوجد أحد في العالم العربي لم يسمع به، حتى وإن لم يكن يحفظ بيتاً واحداً من أشعاره.

أما أنا، فتجربتي الشخصية مع المتنبي بدأت في عمر مبكر نسبياً، عندما حفظت له أبياتاً من قصيدة وردت في منهاجنا المدرسي، وبعدها تعمّقت محبته في قلبي بفضل أستاذ اللغة العربية الذي درّسني في المرحلة الإعدادية. كان الأستاذ ينام ويقوم على أشعار المتنبي وقصصه، وأذكر مرّةً أني سألته عن معلومة تخص أبا القاسم الشابّي، فقال لي ببساطةٍ: لا أعلم... "من قصد البحر استقلّ السواقيا"، وهذا الشطر من بيت للمتنبي كما هو معروف.

عندما كان أحدنا يقرزم الشعر وهو صغير، ويجهد نفسه في كتابة بيتين ويقوم بعرضهما على أصحابه الذين لا يهتمون بالشعر غالباً، كان الجواب يأتي واحداً: "شو مفكر حالك المتنبي!"

وكان مما زرعه هذا المعلم في رأسي، أن الفخر والاعتداد خُلِقا للمتنبي، وأنه خُلِق كي يفتخر ويعتدّ بنفسه، لأنه ذو همّة وشرف وكان لا يقبل الضيم على نفسه، لدرجة أنه لم يكن يلقي الشعر بين أيدي الأمراء إلا قاعداً! وهو الذي قال في مقتبل عمره:

أي مكان أرتقي أي عظيم أتقي

وكل ما خلق الله ...وما لم يخلق

محتَقرٌ في همتي كشعرةٍ في مفرقي.

بعدها، ومع ازدياد اطلاعي على أشعار المتنبي، صرت أحفظ له عدداً كبيراً من أبيات الفخر والأنفة، فهو القائل:

وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم بها أنفٌ أن تسكن اللحم والعظما

فلا عبرت بي ساعة لا تعزني ولا صحبتني مهجةٌ تقبل الظلما

وهو القائل:

لا بقومي شرفت بل شرفوا بي

و بنفسي فخرت لا بجدودي

أنا ترب الندى وربّ القوافي

وسمام العدى وغيط الحسود.

وأبيات الفخر الأشهر التي يحفظها القاصي والداني:

أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم

الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم

سيعلم الجمع ممن ضمّ مجلسنا بأنني خير من تسعى به قدم...

ولهذا البيت الأخير قصة طريفة، فهو عندما وصل في الإنشاد إلى هذا البيت، قاطعه أحد من كانوا في مجلس سيف الدولة وقال له: ويحك! أترفع نفسك فوق الأمير؟!

فغضب سيف الدولة وضرب المتنبي بشيءٍ كان في يده، فأدمى وجنته.

فقال المتنبي:

إن كان سرّكمُ ما قال حاسدنا فما لجرحٍ إذا أرضاكم ألمُ

هذا عتابك إلا أنه مِقةٌ قد ضُمِّن الدرّ إلا أنه كَلِمُ...

وإني لأَعْجَب شخصياً كيف لشاعرٍ يحمل أنفة المتنبي وكبرياءه أن يقول أبياتاً تحمل هذا الذل والانكسار، إلا إذا كان تصنّعاً وتمثيلاً.

الغائص في لجج المتنبي والمتبحر في سيرته الحياتية، سوف يجد تناقضاً غير خافٍ بين أشعاره وأفعاله ومواقفه، وإني أرى أن أحمد بن الحسين، وهو اسم المتنبي، استخدم عبقريته الشعرية الفذة لأهداف قد وضعها لنفسه

والغائص في لجج المتنبي والمتبحر في سيرته الحياتية، سوف يجد تناقضاً غير خافٍ بين أشعاره وأفعاله ومواقفه، وإني أرى أن أحمد بن الحسين، وهو اسم المتنبي، استخدم عبقريته الشعرية الفذة لأهداف قد وضعها لنفسه، فطوال مسيرته الشعرية الحافلة لم يكتب إلا مديحاً أو هجاءً مع بعض التداخلات الغزلية في مطالع القصائد، فكان يمدح من يعطيه ويغدق عليه بالهدايا، ويهجو من ساء حظه فلم يعطه مالاً يشبعه أو يُقطعهُ ضيعةً تغلّ عليه، فقد بدأ المدح والتملق منذ يفاعته. فمن عبيد الله بن خلكان، إلى أبي منتصر شجاع الأسدي، إلى شجاع بن محمد الطائي، إلى الحسين بن إسحق التنوخي، إلى علي بن منصور الحاجب، إلى أبن أبي الأصبع الكاتب، إلى بدر بن عمار، إلى أبي عبد الله محمد بن الخطيب الخصيبي، إلى طاهر بن حسين العلوي، إلى أبي العشائر بن حمدان الذي كان جسره إلى ممدوحه الأحب إلى قلبه سيف الدولة علي بن حمدان الذي كان له النصيب الأكبر من مدائح المتنبي، فقد جلس بصحبته ما يقارب العشرة أعوام، ولعلّ حب الشاعر للفارس هو الحب الوحيد الصافي السريرة في سيرة المتنبي، فقد مدحه طويلاً دون أن يطمع منه بشيء، ودون أن تكون له رغبة في أن يحكم مدينةً أو يولّى على مقاطعة، أما سيف الدولة، فقد عشق الشاعر وأغدق عليه بالأموال والهدايا التي جعلته من أغنياء حلب.

وبعدها أدار المتنبي البوصلة في الاتجاه المعاكس تماماً، ويمّم شطر كافور الإخشيدي في مصر، ولم يصدق كافور نفسه، أن شاعر العرب الأكبر حينها قادمٌ إليه، ويبدو أن المتنبّي قد أدرك في خبيئة نفسه أن سيف الدولة لن يوليه على أي مقاطعة، ولن تكون له حظوة الحكم، لذلك قصد كافوراً، فلربما قال لنفسه: "هذا الذي يتولى مصرَ الآن كان عبداً يُباع ويشترى قبل أن يصبح سلطاناً، فإن مدحته سوف لن يصدق نفسه وسيعطيني ما أريده".

وهنا أستغرب مرّةً أخرى كيف للشاعر الذي قال:

وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجمُ

لا أدب عندهم ولا حسبٌ ولا عهود لهم ولا ذمم

أستغرب أن يقدم هو نفسه على مدح ملكٍ أعجمي يحكم عرب مصر، ولكن في قانون الطموح الخاص بالمتنبي كل شيءٍ جائز.

لذا قال فيه قصيدته الشهيرة التي مطلعها:

كفى بك داءً أن ترى الموت شافيا وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا...

وقال فيها معرّضاً بسيف الدولة:

حَبَبتُكَ قَلبي قَبلَ حُبِّكَ مَن نَأى وَقَد كانَ غَدّاراً فَكُن أَنتَ وافِيا

فَإِنَّ دُموعَ العَينِ غُدرٌ بِرَبِّها إِذا كُنَّ إِثرَ الغادِرينَ جَوارِيا

وبانت مطامعه السلطوية بشكل واضح عندما قال في القصيدة نفسها:

وَغَيرُ كَثيرٍ أَن يَزورَكَ راجِلٌ فَيَرجِعَ مَلكاً لِلعِراقَينِ والِيا

فقد أبان المتنبي عن خوافي نفسه فوراً، ولم ينتظر حتى يطول به الوقت، وصحيحٌ أن كافوراً لم يكن سوى عبدٍ قبل أن يصبح سلطاناً، لكن لم يكن ينقصه الذكاء والفطنة ليدرك أن للمتنبي مطامع غير المال والهدايا، ولكن سيعده كافور بولاية العراق وسيماطل بحقه وقتاً طويلاً، وسيبقيه عنده كي يكسب مدائحه من دون أن يعطيه شيئاً.

عندما طال الانتظار بالمتنبي، فقد صبره وعرف أنه لن يحصل من كافور على طائل، وخرج من مصر تحت جنح الظلام بعد أن نظم فيه قصيدةً هجاه فيها هجاءً مقزعاً، وكي يمعن في إهانته صاغها على نفس بحر وقافية قصيدته الأولى التي مدحه فيها فقال:

أُريكَ الرِضا لَو أَخفَتِ النَفسُ خافِيا وَما أَنا عَن نَفسي وَلا عَنكَ راضِيا

أَمَيناً وَإِخلافاً وَغَدراً وَخِسَّةً وَجُبناً أَشَخصاً لُحتَ لي أَم مَخازِيا

وَتُعجِبُني رِجلاكَ في النَعلِ إِنَّني رَأَيتُكَ ذا نَعلٍ إِذا كُنتَ حافِيا

أستغرب أن يقدم هو نفسه على مدح ملكٍ أعجمي يحكم عرب مصر، ولكن في قانون الطموح الخاص بالمتنبي كل شيءٍ جائز

وبعدها اتجه نحو مسقط رأسه العراق، ثم لبّى دعوة الوزير الفارسي ابن العميد، وجلس عنده في أرجان يمدحه ويتملقه، ويا للعجب... ها هو مرةً أخرى يمدح ملكاً أعجمياً، وبعدها سافر إلى عضد الدولة رأس الدولة البويهية في إيران ومدحه بواحدة من عيون قصائده.

فداً لك من يقصّر عن مداكا فلا ملك إذاً إلا فداكا!

أَروحُ وَقَد خَتَمتَ عَلى فُؤادي بِحُبِّكَ أَن يَحِلَّ بِهِ سِواكا

وَقَد حَمَّلتَني شُكراً طَويلاً ثَقيلاً لا أُطيقُ بِهِ حَراكا

وكأن المتنبي كان يستشعر نهايته فقال في خاتمة القصيدة:

وأيّاً شئت يا طرقي فكوني أذاةً أو نجاةً أو هلاكا

وكانت هلاكاً، فقد قُتِل في طريق العودة من بلاد فارس عندما لاقته مجموعة من الموتورين الذين هجاهم بقصيدة سفيهة لا تنمّ عن أخلاق فارس عظيم، وتحتوي على ألفاظٍ لست في وارد ذكرها هنا.

المتنبي شاعرٌ عظيم، وأنا من عشاقه المنافحين عن أشعاره دائماً، بل نستطيع القول إن شعر المتنبي كان حالةً هائلةً من الإبداع و الروعة والتجديد، وصلة وصل بين الشعر القديم المغرق في التعقيد وبين مدارس التجديد التي بدأت تظهر بعده.

ولكن آن لنا أن ندرك أن الشاعر غير شعره، وأن المبدع غير إبداعه. ويجب أن نتعلم أن نفصل بين الشخص وإنتاجه وأن نتحلى بالموضوعية دائماً.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image