م. شاب في العشرينات من عمره، معروف في حي حسان في العاصمة المغربية الرباط بتعاطيه للمخدرات ومشاكله مع عائلته بسبب البطالة و"البلية" (الإدمان) كما يقال في المغرب. يقف كل يوم أمام سوق تجاري معروف يبتزّ المتسوقين، ومن يرفض إعطاءه أي صدقة يكون عرضة لسيل من السب والشتائم، وقد يتبعه من أجل الحصول ولو على شيء من كيس تسوّقه، إن لم ينهبه. ولأنني أقطن في الحي نفسه، فقط تعرضت لهذا الأمر أكثر من مرة من طرفه ومن طرف شبان وشابات في مقتبل العمر لا هم لهم إلا جمع الأموال بمختلف الوسائل حتى أصبح التسول أو الكُدية لديهم "ثقافة".
قادني الفضول والحنق من مثل هذه التصرفات، التي تجعل العديدين يرضخون لتهديداتهم، وانتزاعهم للصدقة بالعنف إلى توجيه السؤال إلى م.، فكان رده صادما: "أنا لا أعمل ولا أرغب في ذلك، فما أحصل عليه عن طريق التسول أحسن من راتب موظف، فلم سأعمل إذن؟ وأين سأعمل، وماذا سأتقاضى؟"، فيما واجهني أحدهم حينما رفضت إعطاءه أي شيء مما تسوّقته: "أنتم تاكلو أو حنا لا، أنتوما عليكم الله أو حنا لا".
أنا لا أعمل ولا أرغب في ذلك، فما أحصل عليه عن طريق التسول أحسن من راتب موظف، فلم سأعمل إذن؟
فإذا كان بعض المتسولين فعلا يعانون من الفقر والهشاشة، وتدفعهم الحاجة وقلة ذات اليد إلى التسول، كما أخبرتني إحدى المتسولات التي كانت عرضة للاغتصاب والتشرد، فإن البعض الآخر يلجأ إليه بسبب البطالة والإدمان والانحراف رغم أن أسرهم ميسورة الحال، ومنهم من أسرهم هي التي تدفعهم إلى التسول لجلب المال لها، وامتهان التسول الذي لا يحتاج إلى شهادة أو دبلوم، بل إلى الكثير من الاحتيال وقلة الحياء لادعاء الأمراض والعاهات واستغلال الأطفال لاستدرار عطف الناس، رغم أن أحد المتسولين في مدينة بني ملال سبق وتوجه إلى السلطات في المدينة بطلب منحه ترخيصا لمزاولة مهنة التسول بعد انسداد جميع أبواب الشغل في وجهه، وحتى لا يكون عرضة للمساءلة.
ويشهد المغرب في السنوات الأخيرة تفاقما كبيرا لظاهرة التسول، وتزايدا كبيرا في أعداد ممتهنيها من العجزة والشباب والأطفال وذوي الاحتياجات الخاصة أو مدّعيها، إضافة إلى العديد من الأجانب الذين ساقتهم الأقدار إلى المغرب، لدرجة جعلت المغرب يتصدر الدول العربية في ظاهرة التسول إذ كشفت إحصائيات رسمية تعود لعام 2019 عن وجود حوالي 195 ألف متسول في البلد، تليه مصر بـ 41 ألف متسول، والجزائر في المرتبة الثالثة بمجموع 11 ألف متسولا.
التسول كثقافة
في هذا الإطار يقول الدكتور عبد الرحيم عنبي المتخصص في علم الاجتماع، والذي اشتغل مع طلبة جامعة ابن زهر بأكادير على ظاهرة التسول في منطقتي أكادير وتارودانت جنوب المغرب، إن التسول أصبح ثقافة وظاهرة تفاقمت في المدن المغربية بشكل كبير، وغير محكوم بالفقر والحاجة أو الفاقة، بل مرتبط بجوانب ثقافية، منها ثقافة الجوع وثقافة الفقر وليس الفقر كمحدد اقتصادي، ما دام الإنسان يحس بعدم القناعة رغم أن لديه بعض الخير والبركة.
كشفت إحصائيات رسمية تعود لعام 2019 عن وجود حوالي 195 ألف متسول في المغرب
ويضيف عنبي في تصريح لرصيف22 أنه خلال عمله مع الطلبة على هذه الظاهرة وقف على العديد من الحقائق المرعبة بخصوص التسول الذي تحول إلى عمل جماعي أو شبكات منظمة يشرف عليه أشخاص، يقومون بتوزيع المتسولين من مختلف الأصناف والأعمار منذ الصباح في مختلف الأحياء والنقاط الحيوية في مدينة أكادير مثلا، يحملونهم في حافلات، أو على متن دراجات، وفي المساء يعيدونهم إلى نقطة الانطلاق لاستخلاص الأموال التي جمعوها. كما أن هناك أسرا بكاملها تحترف التسول وتنتشر في المدينة نفسها، أو في مختلف المدن المغربية الكبيرة، ولا يلتقي أفرادها إلّا مرة في السنة لجمع الحصيلة، التي لا يمكن تخيلها. ولهذا فالتسول برأيه "أصبح أكثر من ظاهرة اجتماعية يحكمها الفقر، بل ظاهرة تحكمها ثقافة الجماعة".
ثقافة الفقر
عن أنواع المتسولين والأسباب التي تدفعهم إلى امتهان التسول، يشير الدكتور عبد الرحيم عنبي، إلى أن علاقة الشيوخ والكهول رجالا ونساء بالتسول تحكمها ثقافة الفقر والخصاص، فهم لا يحسون بالأمان ولديهم هاجس تحقيق الأمان عبر جمع المال، كما أن الاضطرابات النفسية التي يتعرضون لها بسبب الشيخوخة والظروف الاقتصادية الصعبة والتفكك الأسري، كلها عوامل تدفعهم إلى الخروج إلى الشارع من أجل التسول.
علاقة الشيوخ والكهول رجالا ونساء بالتسول تحكمها ثقافة الفقر والخصاص
وبخصوص من هم في سن الإنتاج من الشباب والشابات ومتوسطي الأعمار، فإن لجوءهم إلى التسول يعود، كما يقول الباحث السوسيولوجي، إلى رغبتهم في جني الأموال بسهولة ومن دون أي جهد، لأن ما يحصلون عليه مثلا من أموال عن طريق التسول لا يمكن الحصول ولو على جزء منه في معمل لتصبير الأسماك مثلا، الذي يقيّدهم بساعات محددة للعمل وبظروف سيئة، في مقابل أجرة زهيدة. أما بالنسبة إلى الأطفال فالتفكك الأسري هو الذي يدفهم إلى امتهان التسول بالدرجة الأولى خاصة في سن المراهقة.
التسول العنيف
يؤكد عبد الرحيم عنبي أن التسول في المغرب بدأ يتّجه نحو العنف، فالتسول العنيف استشرى بشكل كبير، وهذا ما نعزوه إلى "ثقافة الفقر"، وهو ما يشير إليه الباحث الأنثروبولوجي الأمريكي أوسكار لويس، الذي اشتغل على هذا الموضوع، وتوصل إلى أنّ الأشخاص الذين "يعيشون في كنف الفقر تنطبع سماتهم وسلوكهم وشعورهم بقيمتهم داخل المجتمع، إذ يتعدى الأمر مسألة الحرمان إلى الجريمة، الإدمان وفقدان القدرة على الحراك الاجتماعي، وهذه السلوكيات وإن كانت تجعل الفقراء "يتعايشون" مع فقرهم بشكل ما، إلا أنها تعمل مع الزمن على تكريس فقرهم، وكذا على استنبات "ثقافة الفقر" لدى الأفراد والأسرة والمجتمع".
فالتشبع بـ "ثقافة الفقر" يخلق أناسا عنيفين وحقودين تجاه الأفراد والمؤسسات، وهو ما نلاحظه لدى المتسولين، الذين يحتاجون، حسب الدكتور عبد الرحيم عنبي إلى الدعم النفسي قبل الاجتماعي، حتى يتم استئصال العنف والحقد الذي يحسون به، وانتشالهم من الهشاشة التي تطبق عليهم، وحمايتهم من الاستغلال الذي يتعرضون له من قبل شبكات وجماعات تحترف الدعارة والسرقة والنهب وترويج المخدرات والقتل وإحراق الأشخاص.
كاميرات مراقبة
في الأيام القليلة الماضية كشفت وزارة الداخلية عن معطيات تؤكد تفاقم ظاهرة التسول في المغرب إذ أسفرت التدخلات الميدانية لمكافحة ظاهرة التسول خلال عام 2021 عن تسجيل ما مجموعه 28597 مخالفة، تم على إثرها توقيف 32669 شخصا، من بينهم 2975 أجنبيا، بالإضافة إلى تسجيل 2022 ما مجموعه 2425 قضية في الفترة ما بين فاتح كانون الثاني/يناير و15 أغسطس، وتوقيف 28769 شخصا، من بينهم 2408 أجنبي.
وهو ما دفع وزارة الداخلية ومصالحها إلى الاهتمام بظاهرة التسول عبر تثبيت كاميرات المراقبة في الشوارع العامة في كبريات المدن، ومبّررها أن المواطنين صاروا لا يحسون بالأمان، لأنهم يتأذون من أنشطة التسول ومن السلوكيات العدوانية والعنيفة لبعض المتسولين، والشباب الأصحاء منهم تحديدا، الذين يقفون أمام الصرّافات الآلية للبنوك والأسواق التجارية الكبرى والمطاعم والمساجد وغيرها من المصالح، الذين انتقلوا من "التسول الإلكتروني" في فترة أزمة كورونا إلى "التسول العنيف" لانتزاع الأموال من المواطنين دون أي وجه حق بالعنف اللفظي حينا والمادي أحيانا.
حملة لمناهضة التسول
تسليط الضوء على التسوّل، انتقل إلى العالم الافتراضي وانتشرت حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للتحذير من هذا التحول المريع لأساليب التسول في المغرب وأنواعه، ومحاربة استغلال الأطفال في هذه "الحرفة" التي أصبحت مصدر رزق للعديد من المواطنين، وانتقال المتسولين من استجداء الصدقة إلى انتزاعها بالعنف، وذلك عبر شعارات: "لا صدقة لمحترفي التسول مهما ألحُّوا" و "لا صدقة لمحترفي النصب بدعوى الحاجة مهما تفنّنوا"، داعين إلى عدم تقديم صدقات لمن يحترفون التسول وتوجيهها إلى مستحقيها، بدل الإسهام في استشراء الظاهرة وتعود الشباب والأطفال على التسول.
تسليط الضوء على التسوّل، انتقل إلى العالم الافتراضي وانتشرت حملة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، للتحذير من هذا التحول المريع
وقد سبق لجمعية "جود" لرعاية المشرّدين، أن أطلقت قبل سنتين حملة وطنية لمحاربة التسول تحت شعار "الخير اللي دير فيه ما تعطيهش"، شارك فيها مجموعة من الفنانين المغاربة، بغية القضاء على هذه الآفة الاجتماعية.
التسول وإفلاس التنمية
على الرغم من السياسات العمومية المتعاقبة لمختلف الحكومات ومبادرات التنمية البشرية، ومجهودات وزارة الأسرة والتضامن ومؤسسات المجتمع المدني، فإن ظاهرة التسول هي عنوان لإفلاس كل هذه السياسات، وإلى عدم نجاعة كل الحلول المتخذة والعقوبات التي يخصصها القانون المغربي لهذا الفعل الذي يجرّمه المُشرّع المغربي، إذ "يعاقب بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر من كانت لديه وسائل التعيش أو كان بوسعه الحصول على عمل بأية وسيلة مشروعة لكنه تعود ممارسة التسول في أي مكان كان. كما يعاقب بالحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة كل متسول، حتى لو كان ذا عاهة أو معدما، استجدى باستعمال التهديد أو التظاهر بالمرض، أو تعود اصطحاب طفل صغير أو أكثر من غير فروعه (...) ويعاقب بالعقوبة نفسها من يستخدِم في التسول صراحة أو تحت ستار مهنة أو حرفة ما أطفالا يقل سنهم عن 13 سنة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...