عندما عُرضت حلقة "إنترنت" من مسلسل "مرايا" لعام 2003، وكانت من كتابة سعيد شاويش، اعتقدنا أنها محض خيال، فلم نستوعب كيف يمكن لمنزلٍ أن يحتوي على هذا العدد من الأجهزة الذكية التي تعمل على اللمس، وكيف يمكن أن تُدار الأعمال على الإنترنت من المنزل من دون الحاجة إلى التواجد في مكتب، ناهيك عن حضور الدروس من دون الذهاب إلى المدرسة، أو أن تملك أصدقاء من مختلف أنحاء العالم تستطيع أن تتكلم معهم عبر الفيديو في أي وقت. أما العثور على حب حياتك على موقعٍ للتعارف، فهذه قصة أخرى.
غير أن التطور التكنولوجي الذي تسارعت وتيرته بشكل ملحوظ، إلى جانب جائحة كورونا وما فرضته من نمط حياة مختلف، أثبتا أن الإنسان قادر على العيش ضمن حياة افتراضية أكثر وحشةً من التصور الوارد في حلقة مسلسل "مرايا" أو في أي دراما خيال علمي.
لقد قام كل فرد يملك هاتفاً ذكياً واتصالاً بالإنترنت ببناء وجود له في العالم الافتراضي الذي -وفي كثير من الأحيان- لا يمتّ بِصِلةٍ إلى شكل حياته في الواقع، بل على العكس، غالباً ما يكوّن الإنسان صورةً محسّنةً عن نفسه وعن واقعه، أو يظهر للآخرين بالطريقة التي يتمنى أن يكون عليها حقيقةً.
لقد قام كل فرد يملك هاتفاً ذكياً واتصالاً بالإنترنت ببناء وجود له في العالم الافتراضي الذي -وفي كثير من الأحيان- لا يمتّ بِصِلةٍ إلى شكل حياته في الواقع
لكن الخطورة تكمن في إدمان الحصول على مصادقة المجتمع الافتراضي لهذا التواجد، فيتحول الإنسان من كونه أسمى المخلوقات على سطح الأرض إلى مجرد عدّاد للـ"لايكات" على منصات وسائل التواصل الاجتماعي، ومثله مثل المدمن على أية مادة مخدّرة، لا يدّخر وسيلةً مهما كانت تافهةً ومنحطةً إلا واستخدمها ما دامت ستجلب له "لايكات" و"متابعين" مما سيرفع من قيمته في عيون أقرانه داخل المجتمع الافتراضي.
فقد تغيرت المفاهيم إلى حدٍّ مخيف. سابقاً، في الحياة الواقعية، كان التنافس يقوم على مَن يقدّم الأفضل، ومَن المجتهد، ومَن الذي ينجز عملاً أكثر في وقت أقل وهكذا. أمّا بعد انتشار منصات التواصل الاجتماعي، فصار التنافس قائماً على مَن لديه عدد متابعين أكبر، ومَن يحصل على عدد لايكات أكثر، بغض النظر عن سخافة المحتوى المقدّم والذي قد يصل في بعض الأحيان إلى حدّ الفظاعة كما يفعل بعض الأشخاص على اليوتيوب، والذين يعرضون مقاطع تتضمن عنفاً أسرياً، أو مقالب مهينةً يطبّقونها على أهلهم وأصدقائهم، ناهيك عن هؤلاء الذين يعرضون تفاصيل حياتهم لحظة بلحظة من دون إقامة أدنى اعتبار للخصوصية.
لكن الخطورة تكمن في إدمان الحصول على مصادقة المجتمع الافتراضي لهذا التواجد، فيتحول الإنسان من كونه أسمى المخلوقات على سطح الأرض إلى مجرد عدّاد للـ"لايكات" على منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
كل ذلك وغيره يحدث بسبب لهاث معظم البشر وراء "اللايك".
لقد ساد اعتقاد بأن الأمر سيقتصر على "شحادة اللايكات"، لذا دخل الكثيرون في حالة تقبّل لهذا الوضع، فصرنا نستعرض الحسابات ونتجاوزها من دون أن نُلقي بالاً لما يُعرض فيها، وطرأت "أمثال" على الساحة من قبيل: "بروفايلو وهو حر فيه"، و"إذا ما عجبك اعملو أنفولو، وضلّك ماشي".
لكنّ الإنسان -وهو أعجوبة هذا العالم- يأبى إلا أن يحافظ على تميزه، لذا قام بابتداع طرق جديدة دمج فيها بين التسول بمفهومه المتعارف والتكنولوجيا.
ففي عام 2016، أطلت علينا شركة صينية تُدعى ByteDance، بتطبيق جديد سُمّي بالـ"تيك توك"، ويتيح للمستخدمين نشر فيديوهات تتراوح بين 15 ثانيةً إلى 10 دقائق عن أي شيء، حرفياً، أي شيء، من المقالب إلى الخدع مروراً بالنكات وصولاً إلى الرقص والترفيه.
وقد اجتاح هذا التطبيق العالم كطوفان جارف، فقد وصلت عمليات تنزيله إلى ملياري عملية في جميع أنحاء العالم، وفي تموز/ يوليو 2020، أبلغت "تيك توك" عما يقرب من 800 مليون مستخدم نشطوا شهرياً حول العالم بعد أقل من أربع سنوات على وجودها (تيك توك- ويكيبيديا).
وكأنهم مجموعة من القراصنة عثروا على كنز القبطان فلينت الشهير، هجم حشد كبير من الناس على تطبيق التيك توك متجاهلين جميع الإشارات التحذيرية والأساطير التي تحكي قصصاً مرعبةً عن الكنز الملعون وما سيتسبب به من ويلات لكل من يغمس يده ويلتقط قطعةً منه.
وكالعادة عند كل مشكلة نقف حائرين أمام معضلة "من جاء أولاً: الدجاجة أم البيضة؟"، فحقيقةً لا نعرف هل إقبال البشر بهذا الشكل المكثف هو ما دفع الشركة المالكة لتيك توك إلى أن تعرض فرص الربح على المستخدمين، أم العكس، أي أن الناس تحولوا إلى استخدام هذا التطبيق بشكل جنوني طمعاً في المكاسب المادية التي تعرضها الشركة؟
كالعادة عند كل مشكلة نقف حائرين أمام معضلة "من جاء أولاً: الدجاجة أم البيضة؟"، فحقيقةً لا نعرف هل إقبال البشر بهذا الشكل المكثف هو ما دفع الشركة المالكة لتيك توك إلى أن تعرض فرص الربح على المستخدمين، أم العكس
بغض النظر عن الدجاجة والبيضة، أصبحت مقاطع التيك توك واقعاً لا مهرب منه، وصرنا نرى الصغير قبل الكبير يتابع كالمسلوب المقطع تلو الآخر لساعات من دون توقف، فها هي ابنة صديقة لي لم تتجاوز الثالثة من عمرها، تتابع فيديوهات لأطفال يقومون بأفعال شتى وإحداهم كانت تقطع رأس دميتها البلاستيكية بالسكين، وابنة أختي البالغة من العمر ستّ سنوات لا تنفك تطالب أمها بوضع مساحيق التجميل لها وتسريح شعرها بطريقة غريبة، كما هو حال بعض الفتيات على التيك توك، وابن صديق لي لم يتجاوز الخمس سنوات يطالب أهله بشراء دراجة نارية له أسوة بالطفل فلان الذي يتابعه على هذه المنصة.
ويا ليت الأمور قد وقفت عند هذا الحد، إنما تجاوزت ذلك بأشواط حتى وصلت إلى ظاهرة صادمة: التسول الإلكتروني.
فقد أنشأ عدد لا بأس به من الناس حسابات على التيك توك ليقوموا بعرض خيمتهم المهترئة التي لا تردّ عنهم برد الشتاء ولا حرّ الصيف، ويطالبون المتابعين بالتبرع لهم، وهناك آخرون لديهم إعاقات دائمة أو مستجدة أحدثتها الحرب في بلدهم ومنهم من يعرضون أطفالهم ذوي الإعاقات على البث المباشر مستجدين عطف المتابعين ومستنزفين جيوبهم.
وكما في التسول التقليدي، فإن التسول الافتراضي أيضاً لا يقدّم ضمانات للمتبرعين، فما الذي يثبت أن صاحب الحساب هذا يحتاج إلى المساعدة فعلياً؟ أو ما الذي يثبت أنه سيصرف هذه الأموال على رعاية أسرته كما يدّعي؟
ولم يقتصر الأمر على الشباب، بل تعداه إلى كبار السن، والأطفال، والنساء، فهذه امرأة تدّعي أنها بكماء تخرج إلى الناس وهي تصور أطفالها مدّعيةً أنهم أيتام وأنها لا تعمل لذا لا يتوفّر لهم مصدر للدخل، وتشير للمتابعين أن يمدوا لها يد العون، فتجدهم يغمرونها بالهدايا كالنمر والطائرة والصقر وغيرها.
وبتوضيح سريع، فإن المتابعين يشحنون (يشترون) هذه الهدايا من متجر تيك توك بثمن معين، فعلى سبيل المثال سعر هدية "النمر" هو 19،999 عملةً معدنيةً، أو ما يعادل 165.5 دولارات، والتي يمكن شراؤها مقابل 66.2 دولاراً وهكذا، ثم يتم تحويل العملات المعدنية إلى ألماسات وبعد جمع كمية معيّنة من هذه الألماسات يمكن استلام قيمتها على شكل نقود حقيقية على الحساب البنكي أو الـ Paypal أو أي طريقة أخرى يعتمدها التطبيق.
ليس كل ما يُعرض على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصةً التيك توك هو محتوى فارغ، فهناك الأطباء والفنانون والأدباء، لكنهم وبكل أسف، لا يشكلون فارقاً كبيراً في مواجهة كمّ التلوث البصري والسمعي المنتشر من دون رقابة تُذكر
وكما في التسول التقليدي، فإن التسول الافتراضي أيضاً لا يقدّم ضمانات للمتبرعين، فما الذي يثبت أن صاحب الحساب هذا يحتاج إلى المساعدة فعلياً؟ أو ما الذي يثبت أنه سيصرف هذه الأموال على رعاية أسرته كما يدّعي؟
ليس كل ما يُعرض على منصات التواصل الاجتماعي، وخاصةً التيك توك هو محتوى فارغ، فهناك الأطباء والفنانون والأدباء، لكنهم وبكل أسف، لا يشكلون فارقاً كبيراً في مواجهة كمّ التلوث البصري والسمعي المنتشر من دون رقابة تُذكر، لكننا وعلى الرغم من ذلك، لسنا هنا في صدد المطالبة بحظر التيك توك أو غيره كما فعلت دول كالهند وأمريكا، فاللوم لا يقع على هذا التطبيق أو ذاك، إنما على الإنسان الذي يمتلك عقلاً لا ينفكّ يتشدق بأنه ما يميزه عن سائر المخلوقات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...