ما زالت المئات من الأسر المغربية المكلومة بفقدان أبنائها، تنتظر معرفة مصيرهم بعدما خاضوا سرّاً مغامرة "الحريك"، والهجرة سرّاً، ثم انقطعت أخبارهم إثر فقدانهم في حوادث انقلاب القوارب في البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الأطلسي، أو الموت في غابات في دول البلقان، أو الاحتجاز في السجون، أو غيرها من أسباب الاختفاء.
صدمة اختفاء شباب "الحريك"
تصرخ تودة (اسم مستعار)، بأعلى صوتها وهي تذرف الدموع، وتناشد الجميع أمام مستشفى مدينة العيون، من أجل مساعدتها للعثور على جثة فلذة ابنها خالد (18 سنةً)، وكان المستشفى يعجّ بعائلات ضحايا الهجرة غير النظامية، بعدما انتشر خبر انقلاب قارب يقلّ نحو 50 مرشحاً للهجرة النظامية، أبحر من سواحل مدينة طانطان في اتجاه جزر الكناري.
كان آخر اتصال لخالد بوالدته قبل خمسة عشر يوماً من الحادث، وطلب منها خلاله أن ترسل له ما يمكّنه من تعبئة رصيد هاتفه، وأوهمها بأنه بدأ بالاشتغال في إحدى الضيعات الفلاحية وينتظر مستحقاته آخر الشهر. ومن الرقم الهاتفي نفسه، تلقت الأم من رفيقه الذي نجا من رحلة الموت (تجهل هويته)، خبر وفاته، فلم تستوعب هول الصدمة وطالبته بمزيد من التوضيح، فأكد لها الخبر وقدّم لها التعازي، وطالبها بالصبر ودعا للفقيد بالرحمة والمغفرة، ثم أغلق الهاتف إلى الأبد. تجمهر حولها الجيران وذاع الخبر في المنطقة، وانتشر في الجرائد والمواقع الإلكترونية ومواقع التواصل الاجتماعية، كما تناقلته قنوات عالمية.
حالة من الحزن عمّت قريتَي تازارين والنقوب، في ضواحي مدينة زاكورة جنوب شرق المغرب، بعدما اتضح أن أربع ضحايا آخرين كانوا برفقة خالد في القارب، وتجهل عائلاتهم مصائرهم. انتقلت تودة، برفقة عائلات المفقودين، وقطعوا أزيد من 200 كلم، لعلهم يعثرون على جثامين أبنائهم المفقودين أو يجدون لهم أثراً.
كان آخر اتصال لخالد بوالدته قبل خمسة عشر يوماً من الحادث، وأوهمها بأنه بدأ بالاشتغال في إحدى الضيعات الفلاحية... قبل أن تعلم أنه خاض طريق الهجرة وهو مجهول المصير
تواصل "تودة" المكلومة صراخها ورحلة البحث عن جثمان ابنها، وتستجدي الناس وتتوسل إليهم ليساعدوها. تتفقد الشاطئ لعلّ مياه المحيط الأطلسي ترحمها وتلفظ الجثة. تأكدت من مركز الدرك الملكي، ومن إدارة المستشفى، أن اسم ابنها ليس ضمن لائحة الناجين، ولا ضمن لائحة الجثامين التي تم انتشالها.
لم يخطر ببالها أن ابنها سيُقدم يوماً على هذه المغامرة. سبق له أن استفسر منها عن الموضوع مرات عدة، وطلب منها رأيها في الهجرة سرّاً، لكنها نهرته بشدة وحذّرته من الإقدام على هذه المغامرة التي هي بمثابة انتحار. ظنّت أنه عدَل عن الفكرة، لكنه بدأ بالتخطيط برفقة زملائه مستعيناً بالكتمان، ولم يكن شيء يوحي بأنه سيقدم على هذه المغامرة، إذ لم يكن معه جواز سفر ولم يحمل معه بطاقة الهوية.
تنوعت قصص المأساة وحكاياتها التي خلّفها اختفاء والمهاجرين السرّيين من مختلف مناطق المغرب وفقدانهم، وتعددت. يتحدث محمد (في العقد الرابع من العمر)، في تصريح لرصيف22، عن أخيه المفقود الذي أكمل الـ20 سنةً من عمره قبل أيام: "اتصل بي من مدينة العيون وأخبرني بأنهم بصدد الاستعداد لرحلة الهجرة سرّاً إلى جزر الكناري. حاولت إقناعه بالعدول عن الفكرة، لكنه أصرّ وقطع الاتصال وأغلق الهاتف، وبعد أيام تلقيت اتصالاً هاتفياً من رفيقه في الرحلة، الذي لم أعرفه هويته، يخبرني فيه بأن أخي كان معهم على متن القارب الذي انقلب في مياه المحيط الأطلسي. يُقدّر عدد الركاب بنحو 50 شخصاً توفي منهم أزيد من 30 شاباً في مقتبل العمر، وتمكّن بعضهم من النجاة. المتصل أكد لي أن أخي لم يكن ضمن الناجين، لكنه يجهل مصيره، لهول الحادث وصعوبة الأوضاع، ثم اختفى المتصل وبدأت رحلة العائلة المكلومة في فك لغز الاختفاء".
إبراهيم (اسم مستعار)، أسَرَّ إليه أخوه بأنه يعتزم بدوره "الحريك"، وهي عبارة متداولة في الأوساط الشعبية المغربية وتعني الهجرة غير النظامية من دون وثائق الهوية الرسمية، ولم تنفع كل محاولات إقناعه وثنيه عن قراره. باع دراجةً ثلاثيةً العجلات وسافر سرّاً من دون توديع عائلته إلى أن توصلوا بخبر فقدانه، وأكد بعض الناجين تواجده معهم في الرحلة من دون أن يتمكنوا من معرفة مصيره.
"الحريك"، هي عبارة متداولة في الأوساط الشعبية المغربية وتعني الهجرة غير النظامية من دون وثائق الهوية الرسمية
أفراد عائلات الضحايا المفقودين الذين تحدث بعضهم إلى رصيف22، أكدوا أن أبناءهم أخفوا عنهم قرارهم والبعض منهم أوهموهم بالسفر للعمل في مدن مغربية أخرى، ثم انقطعت أخبارهم إلى أن تلقّوا خبر اختفائهم.
اتصل رصيف22، بالعديد من عائلات مفقودي الهجرة غير النظامية، غير أنهم امتنعوا عن الحديث حول الظاهرة خاصةً في المناطق القروية جنوب المغرب، لأسباب نفسية سيكولوجية بسبب التأثر بصدمة الاختفاء ولدواعٍ أمنية خوفاً من المساءلة الأمنية والقضائية في إطار تعقّب السلطات لمافيا الهجرة غير النظامية وشبكاتها.
استعادة جثامين المختفين في دول البلقان
يفضّل الكثير من الشباب المغاربة، في السنوات الأخيرة، الهجرة عبر تركيا إلى "الفردوس الأوروبي"، في رحلة عبور محفوفة بالمخاطر، وتنتشر في المنطقة شبكة من المهربين والمتاجرين بالبشر الذين يستثمرون في معاناة هؤلاء الشباب، وحسب إفادة العديد من الشباب الذي نجوا من رحلة الهجرة غير النظامية، في تصريحاتهم لرصيف22، فإن المهرّبين يمارسون عليهم شتى أنواع التعذيب والإهانات وسرقة أموالهم، وإذا تمكّن المهاجرون من الوصول إلى اليونان أو بلغاريا أو غيرهما من الدول، فقد يواجهون معاناةً أخرى، أبرزها الموت جوعاً أو عطشاً أو بسبب البرد الشديد أو التعرض للاعتداء في الغابات التي تسيطر عليها أيضاً المافيات والعصابات، مما يتسبب في العديد من الوفيات في صفوفهم، وبعض المفقودين المتوفين أخبر عنهم رفاقهم عائلاتهم ووثقوا وفاتهم بالصور للتأكد من الحادث، وتبدأ معاناة الأسر مع نقل الجثامين إلى المغرب.
ما زالت أسرة الشاب ع.ع.، الذي اختفى عن الأنظار قبل شهور، تنتظر نقل جثمانه من بلغاريا إلى مسقط رأسه في قرية الزريقات في واحة أوفوس في إقليم الراشيدية جنوب شرق المغرب، بعد أزيد من شهرين من تأكدها من أنه لقي مصرعه في إحدى الغابات البلغارية في طريقه للعبور نحو إيطاليا، وأفاد شقيق الضحية في تصريح لرصيف22، بأن الضحية توفي بسبب عدم قدرته على مواصلة السير مشياً على الأقدام، وتدهور صحته بسبب العياء والبرد القارس. وأضاف المتحدث لرصيف22، أن بعض الشبان المرافقين للضحية أخبروا العائلة بخبر وفاته، وأرسلوا إليهم صورةً لجثته ملقاةً في إحدى الغابات في بلغاريا. وفي رسالة إلكترونية إلى الأسرة، اطّلع رصيف22، على فحواها، أكدت السفارة المغربية في بلغاريا أنها قامت بالبحث عن المرحوم ع.ع.، وتوصلت إلى مكان وجوده في مدينة KYUSTENDIL البلغارية، وقد تم التعرف عليه عن طريق المعلومات التي توفرت عليها السفارة من صور تمت مطابقتها مع تلك التي تتوفر عليها السلطات البلغارية المختصة، وأكدت السفارة في رسالتها أنها تتابع هذا الملف وفق المساطر والإجراءات المعمول بها.
في شهر تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ووري الثرى جثمان الشاب س.ب. (25 سنةً)، في مسقط رأسه في مقبرة قصر تكلكولت في جماعة ألنيف (إقليم تنغير). وصل الجثمان بعد عشرة أشهر من وفاته في الأراضي اليونانية بسبب موجة برد قارس، خلال رحلة هجرة غير نظامية انطلاقاً من تركيا. تفاعلت وزارة الشؤون الخارجية المغربية مع نداء العائلة، وباشرت إجراءات تسليم الجثة وتابعت هذا الملف إلى أن توصلت الأسرة بالجثمان ودفن في القرية.
أكدت بعض العائلات في حديثها إلى رصيف22، أن وزارة الخارجية المغربية وسفاراتها وقنصلياتها في الخارج تجاوبت مع طلباتها ونداءاتها لنقل جثامين أبنائها المتوفين في طريق الهجرة غير النظامية، إلى أرض الوطن، برغم أن الإجراءات والمساطر الإدارية والأبحاث قد تستغرق أشهراً عدة.
مصير مجهول في شوارع أوروبا
أكدت الصحافية المغربية المقيمة في ألمانيا، إلهام الطالبي، أن "اختفاء المهاجرين السرّيين يتخذ أوجهاً متعددةً، فقد يختفي الشاب بعد أن يصل إلى شوارع أوروبا، ويكتشف أن الوضع مختلف عما تم الترويج له مما يجعل بعض الشباب يتناولون مختلف أنواع المخدرات من أجل رفض الواقع ورفض التواصل مع عائلاتهم لأن ليس عندهم ما يقولون"، وترى إلهام الطالبي، أن "العائلة تمارس ضغطاً على الشاب المهاجر ليُغدق عليها المال والهدايا، وللعودة في العطلة الصيفية بسيارة فارهة حسب ما هو متداول في الثقافة الشعبية وفي المجتمع".
ومن خلال تجربتها المهنية ومعاينتها للظاهرة في ألمانيا، أكدت إلهام الطالبي، "أن العديد من الشباب المشردين المنتشرين في شوارع ألمانيا وجدوا أنفسهم عاجزين عن تسوية أوضاعهم وتحقيق أحلامهم واستسلموا للمخدرات، ويمكن أن يباغتهم الموت في أي لحظة، ويصبح مصيرهم مجهولاً، وأغلبهم يقدّمون معلومات مغلوطةً ويدّعون فرارهم من مناطق النزاع مثل العراق وسوريا أو ليبيا، لذلك فمن الصعب التعرف على هويتهم".
كما أكدت إلهام الطالبي، من خلال اشتغالها على مواضيع الهجرة، أن العائلات المغربية تتحمل جزءاً من المسؤولية، من خلال التساهل أو دعم بعضهم لأبنائهم لخوض مغامرة الهجرة في رحلة محفوفة بالمخاطر، أو يمارسون ضغوطاً نفسيةً عليهم لتحقيق الرفاه الموعود، ولا يتقبل الشاب مصيره بعد الفشل والتشرد والبطالة بعد وصوله إلى أوروبا فيضطر إلى قطع صلة التواصل مع أسرته.
عائلات المفقودين تحتج أمام "مفوضية الاتحاد الأوروبي" في الرباط
نظمت "عائلات وأسر الشباب المفقودين المرشحين للهجرة إلى أوروبا"، وقفةً أمام مقر التمثيلية الدبلوماسية لمفوضية الاتحاد الأوروبي في العاصمة الرباط، يوم الجمعة 24 شباط/ فبراير 2023، لإثارة الانتباه إلى ملف أبنائها "المفقودين أو المحتجزين"، خلال رحلة الهجرة غير النظامية وطالبت العائلات بـ"الكشف السريع عن مصيرهم".
وفي تصريح لرصيف22، أكد رئيس "جمعية مساعدة المهاجرين في وضعية صعبة"، حسن عماري، والتي تساند العائلات وتؤازرها في الوقفة الاحتجاجية، "أن الجمعية تتوفر على أزيد من 700 ملف للضحايا المفقودين في البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي وفي الجزائر والمفقودين في تونس وكذلك ليبيا بالإضافة إلى المفقودين للمرور عن طريق منطقة البلقان".
تعاني العائلات من عدم معرفتها بالإجراءات والمساطر التي يجب اتباعها للبحث عن المفقودين واسترجاع الجثث
وأضاف رئيس الجمعية، أن الأسر تعاني من صعوبة الإجراءات والمساطر الإدارية وعدم درايتها بها لدى السلطات المغربية أو في البلدان الأخرى، وعدم مساعدة العائلات من طرف دول الطوق وهي إيطاليا وإسبانيا للتعرف على الجثة والتأكد من الحمض النووي.
وتعاني العائلات أيضاً من عدم معرفتها بالإجراءات والمساطر التي يتوجب عليها اتباعها للبحث عن المفقودين واسترجاع الجثث وتعمل جمعية المهاجرين في وضعية صعبة في وجدة على التواصل مع العائلات عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو عبر الهاتف من أجل المساعدة ووفرت الجمعية لهم دليلاً توضيحياً للعمل على البحث عن المفقودين.
كما تشتغل بتعاون وتنسيق مع المنظمات والجمعيات التي تُعنى بشؤون الهجرة سواء في إسبانيا، أو إيطاليا، أو الجزائر، أو تونس، وتساند العائلات وتساعدها للكشف عن مصير أبنائها.
وتطالب الأسر بـ"تسهيل عملية إجراء فحص الحمض النووي (ADN) للعائلات المعنية للكشف عن هوية الجثث الموجودة في مستودعات الأموات في الناظور وكذا في الجزائر، وتبسيط إجراءات منحهم التأشيرة".
ودعا أقارب "الضحايا المفقودين"، دول الاتحاد الأوروبي، خاصةً إسبانيا وفرنسا، فضلاً عن المملكة المغربية والدول المغاربية المعنية (ليبيا والجزائر وتونس)، إلى "الكشف عن مصيرهم وتحمّل المسؤولية بنشر لوائحهم وأماكن احتجازهم وإطلاق سراح المحتجزين منهم فوراً، وتسليم رفات المتوفين".
وسبق للمحتجين أن نظّموا وقفات مماثلةً أمام ملحقات وزارتَي الخارجية والداخلية المغربية في الرباط، حسب منظّمي الوقفة الذين أكدوا أنها "خطوة ضرورية بعد اتصالات ونداءات وإجراءات عدة للتحري والبحث لم تلْقَ، منذ أزيد من سنة، آذاناً صاغيةً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...