شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
عندما ترتخي قبضة الحاكم يعبث القرصان... قراصنة المحيط الهندي في التاريخ الإسلامي

عندما ترتخي قبضة الحاكم يعبث القرصان... قراصنة المحيط الهندي في التاريخ الإسلامي

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة نحن والتاريخ

الأحد 14 مايو 202310:46 ص

لم تقتصر الأخطار التي واجهت البحارة والملاحين في المحيط الهندي، خلال حقبات التاريخ الإسلامي المختلفة، على شدة الرياح وارتفاع الأمواج فحسب، وإنما امتدت أيضاً إلى أخطار بشرية تمثلت في انتشار القراصنة من الساحل الإفريقي حتى بحر الصين، لنهب وسلب التجار والمسافرين.

انتشر القراصنة في منطقة الخليج، خاصة عند البحرين، وكانوا يهاجمون السفن المارة إلى البصرة أو القادمة منها، حسبما يذكر الدكتور شوقي عبد القوي عثمان في كتابه "تجارة المحيط الهندي في عصر السيادة الإسلامية (41-904هـ/ 661-1498م)".

وينقل عن البحار والرحالة بزرك بن شهريار الرام هرمزي وكتابه "عجائب الهند" قصة يمكن الاستنتاج منها أنه كان للقراصنة قوة بحرية كبيرة في منطقة الخليج، وهي قصة رواها أحد الربابين ومفادها أنه أثناء إبحاره من ميناء جزيرة كلة على الساحل الغربي لجزيرة الملايو، إلى عمان، هاجمته سبعون سفينة للقراصنة فحاربهم طوال ثلاثة أيام إلى أن استطاع التخلص منهم.

وكان ساحل كجرات، في شمال غرب الهند، مرتعاً لأشد أنواع القراصنة، إذ كانوا يرغمون مَن يقع في أيديهم على احتساء جرعة من ماء المحيط، لكي تكشف، بما تفعله بأمعائه، إذا كان قد ابتلع بعض اللآلئ والجواهر عند إحساسه باقترابهم، بحسب عثمان.

وانتشر القراصنة أيضاً عند ساحل السند، وكان يطلق عليهم "الميد"، وسفنهم تسمى "بيرة"، وكانوا يقطعون الطريق على جميع المراكب المارة في منطقتهم. وإزاء خطرهم على السفن العربية، استعان قادة السفن بجنود ذوي بأس كانوا يصطحبونهم معهم في السفن للدفاع عنها ضد القراصنة.

أساليب القرصنة

كان القراصنة يتجولون بجوار الموانئ ولا يخرجون عميقاً في المياه، وكان ذلك أمراً تحتمه خططهم، ففي وسط المحيط قد تشغلهم الرياح والأمواج العاتية عن مهمتهم، فضلاً عن أن اتساع المجال يمنح السفن فرصاً كثيرة للهروب منهم، أما عند مدخل الموانئ فلا بد من مرور السفن أمامهم، يشرح عثمان.

وعادة ما كان القراصنة يمكثون بجوار الشعاب المرجانية أو فوقها، إذ كان غاطس المركب صغيراً، لأن منطقة الشعاب عادة ما تكون هادئة ساكنة الأمواج، إذ تتكسر الأمواج عليها وتخفّ حدتها.

ولكي يُحكِم القراصنة الخناق على السفن بحيث لا تفلت منهم، كانوا يلقون مراسي مراكبهم، مع جعل المسافة بين المركب والآخر خمسة أميال، وبهذا تشغل المراكب مساحة واسعة، فإذا ظهرت سفينة في الأفق يعطي واحد من المراكب إشارة بالنار أو الدخان، فتقترب كل المراكب بعضها من بعض، وتستولي على السفينة وهي تحاول المرور.

قرصنة دون مشقة أو تعب

لم يكن نشاط القراصنة جنوب شبه الجزيرة العربية والمحيط الهندي قاصراً على مهاجمة السفن فقط، ففي بعض الأحيان كانت الأمواج تسوق مركباً إلى بعض الشواطئ فيُسلَب ما عيله، مثلما كان يحدث في بحر بربرا (خليج عدن الآن)، إذ كانت قوة من الأهالي تترقب ما تأتي به الأمواج إلى سواحلها لكي تهجم عليه وتغتنمه دون جهد أو مشقة، حسبما ذكر الدكتور طه حسين هُديل في كتابه "القرصنة البحرية في سواحل جنوب الجزيرة العربية وموقف حكام بلاد عمان واليمن منها في العصر الإسلامي".

والملاحظ أن هذا الأسلوب في الحصول على مقتنيات بعض السفن كان موجوداً لدى حكام وسكان بعض المناطق الساحلية الجنوبية لبحر العرب. وينقل هُديل عن ابن حاتم اليامي في كتابه "السمط الغالي الثمن في أخبار الملوك من الغُز باليمن"، أن سلطان ظفار سالم بن إدريس الحبوضي (ت678هـ) كان ممن تعامل بذلك الأسلوب مع السفن التي تتعرض لكوارث البحر، أو لرياحه الشديدة، أو تلجأ إلى سواحله في حالة خرابها.

وقد ساقت إليه الأقدار في سنة 677هـ بسبب الرياح الشديدة عدداً من السفن التابعة لملك اليمن المظفر يوسف الأول بن نور الدين عمر بن علي بن رسول (674-694هـ)، فقام بسلبها واغتنام ما فيها من أموال وهدايا غالية ونفيسة كان قد بعث بها السلطان المظفر إلى ملك بلاد فارس.

ملاجئ القراصنة وتصريف البضائع

على سواحل اليمن الطويلة وجزرها المتعددة، المهجورة منها والمعمورة، وجد القراصنة أماكن يلجأون إليها بعد كل عملية سطو يقومون بها، وهناك كانت تجري عملية تصريف ما يُغتنم من المراكب المنهوبة، حسبما ذكر هُديل.

وكانت جزيرة سقطرى، عند مدخل خليج عدن في المحيط الهندي، آمنة على القراصنة، لما وجدوه فيها من ترحيب وقبول من قبل أهلها الذين تعاملوا معهم، وراحوا يشترون ما معهم من أسلاب وغنائم. وشجع ذلك القراصنة على النزول دوماً إلى أراضي سقطرى، والمكوث بين أهلها لأوقات طويلة قد تصل إلى ستة أشهر، مقابل ما كانوا يدفعونه لهم من أموال.

كان ساحل كجرات، في شمال غرب الهند، مرتعاً لأشد أنواع القراصنة، إذ كانوا يرغمون مَن يقع في أيديهم على احتساء جرعة من ماء المحيط، لكي تكشف، بما تفعله بأمعائه، إذا كان قد ابتلع بعض اللآلئ والجواهر عند إحساسه باقترابهم

وينقل هُديل ما ذكره الرحالة ماركو بولو في كتابه "رحلة مراكو بولو"، من أن هؤلاء القراصنة كانوا يوهمون أهالي الجزيرة، والذين كان أغلبهم يدينون بالمسيحية، بأن ما معهم من أموال وبضائع هي غنائم حصلوا عليها من سفن الوثنيين والمسلمين، لذا كانوا يتقبلون ما يأتي به القراصنة من أموال وبضائع مسلوبة.

جنسيات القراصنة ودياناتهم

لم يقتصر العمل في القرصنة على جماعات من جنس أو ديانة أو فئة معينة، بل اشتغل فيها رجال اختلفت جنسياتهم وديانتهم، وكان المال هو ما فرض على هؤلاء الهنود والعرب وغيرهم من المسلمين أو المسيحيين الأحرار منهم والعبيد العمل بالقرصنة.

ويذكر ابن بطوطة أن القراصنة الذين كانوا يقطعون الطريق على السفن القادمة أو الذاهبة إلى الهند في المحيط الهندي هم من المماليك، دون أن يحدد أي من المماليك يقصد.

ويرجح هُديل أن هؤلاء قد يكونون من المماليك الذين تمردوا على سادتهم لظلم ألمّ بهم، أو الذين هربوا من بيوت أو أراضي سادتهم، لرفضهم العيش في عبودية دائمة، واتجهوا إلى البحر ووجدوا فيه حريتهم التي فقدوها، وراحوا يسلبون السفن، ويأخذون كل ما يجدونه عليها باستثناء العبيد المماليك، إذ يتركونهم لحال سبيلهم، لأنهم يشبهونهم.

تدريب القراصنة ووسائل دفاع التجار

حتى يقوم القراصنة بعملياتهم في المحيط، كانوا يخضعون لعمليات تدريب وتعليم مثلما يتدرب ملاحو السفن التجارية. كان لا بد أن يكونوا على مستوى عال من الخبرة في معرفة كل ما يتعلق بالسفر البحري، وكيفية التعامل مع السفن في أوضاعها المختلفة بحسب الظروف الجوية، حسبما ذكر بدر دحيم عبد الله الرشيدي في دراسته "أثر القرصنة في العلاقات التجارية بين موانئ الخليج العربي وشرق آسيا في العصر العباسي الثاني 233-565هـ/846-1169م".

وكان عليهم أيضاً معرفة المناطق الحيوية من الخطوط البحرية التي تجتمع فيها السفن التجارية في أوقات معيّنة من السنة لأسباب اقتصادية، مثل مواسم التجارة في سلعة معيّنة، كموسم الغوص للبحث عن اللؤلؤ، أو لأسباب بحرية تتعلق بمواعيد الإبحار، ليتخذوا من هذه المناطق مقاماً ينقضّون منه على فريستهم.

لم يتعرض القراصنة لسفن أهل جزيرة سقطرى لاعتقادهم بأن أهلها يستطيعون عمل سحر لأي سفينة تقوم بأعمال القرصنة لسفنهم، بحيث لا يستطيع قائدها مواصلة طريقه في البحر حتى يعوّضهم عمّا حل بهم من أضرار

أما التجار فلجأوا إلى تزويد سفنهم بوسائل دفاعية، بعد أن فشلت الدول في كثير من الأحيان في تأمين طرق الملاحة في الخليج العربي والمحيط الهندي، وصار من الضروري أن تكون في كل مركب مجموعة من المقاتلين والرماة. وبحسب الرشيدي، كان قراصنة الهند يتحاشون المراكب التي يتواجد فيها مقاتلون من الحبشة لشراستهم.

وكانت السفن التجارية تخرج مع بعضها البعض على شكل قوافل تجارية تصل إلى مئة سفينة في بعض الأحيان، وكان هذا التلاحم مصدر أمان بالنسبة لها ومصدر فزع للقراصنة، خاصة أن هذه السفن غالباً ما تكون محملة بالمقاتلين.

ورغم هذه التجهيزات الدفاعية، إلا أن السفن التجارية لم تكن لها قدرة عالية على المناورة والسرعة في الالتفاف أثناء القتال، لذا كانت في بعض الأحيان تقع فريسة سهلة لسفن القراصنة التي كانت مصممة في الأساس للقتال وسرعة الحركة أثناء الهجوم، إذ كانت تطارد السفن التجارية وتنتظر انفصال إحداها عن باقي سفن القافلة للانقضاض عليها، روى الرشيدي.

القرصنة والدجل

وكان للدجل والخرافات نصيب في عالم القرصنة، فقد كان القراصنة يبتعدون عن السلب والنهب في جزر "ذيبة المهل" (في المالديف)، خشية أن تصيبهم كارثة بحال تعرضهم لمراكب أهل هذه الجزر، إذ كانوا يخافون من دعائهم.

وبلغ فيهم الأمر أنه لو أخذ أحد القراصنة ولو شيئاً بسيطاً مثل ليمونة، يعاقبه أمير القراصنة ويضربه ضرباً مبرحاً خوفاً من عاقبة ذلك. ولولا هذا لكان أهل هذه الجزيرة أهون الناس على قاصدهم بالقتال لضعف بنيتهم وجهلهم بفنون القتال والحرب، ذكر الرشيدي.

ولم يتعرض القراصنة أيضاً لسفن أهل جزيرة سقطرى لاعتقادهم بأن أهلها يستطيعون عمل سحر لأي سفينة تقوم بأعمال القرصنة لسفنهم، بحيث لا يستطيع قائدها مواصلة طريقه في البحر حتى يعوّضهم عمّا حل بهم من أضرار، إذ لديهم القدرة على تغيير اتجاه الرياح، وبذلك يجبرون السفن على العودة إلى الجزيرة.

ومن الخرافات أيضا ما ذكره ابن حوقل النصيبي في كتابه "صورة الأرض"، من أنه وجد في العام 583هـ في منطقة عبادان (جنوب غرب إيران حالياً) جماعة من الصوفية والزهاد، وقالوا له إن مَن سرق من عبادان شيئاً تغرق السفينة التي تحمل مسروقاته لا محالة.

حملات بحرية

يذكر الرشيدي أن زيادة نشاط القراصنة في بعض الفترات التاريخية، وتهديدهم المستمر لطرق الملاحة في المحيط الهندي، حضّ على تدخل الدولة المركزية بشكل مباشر، فقد وجّه الخليفة العباسي المهدي في العام 159هـ حملة بحرية كبرى بقيادة عبد الملك بن شهاب المسمعي لملاحقة القراصنة الهنود في عقر دارهم، وتمكن من الاستيلاء على معقلهم.

ولما تولى الخلافة هارون الرشيد، عزم في العام 170هـ على القضاء على القراصنة في منطقة الخليج، فأعد لهم حملة بحرية بقيادة يحيى بن سعد السعدي انطلقت من ميناء البصرة ووصلت إلى حدود عمان، وأدى ذلك إلى تأمين الحركة التجارية في الخليج وهروب القراصنة إلى المحيط الهندي.

وسار القائد العباسي محمد بن الفضل بن ماهان، في عهد الخليفة العباسي المعتصم، في سبعين سفينة إلى "ميد" الهند، فقتل منهم خلقاً كثيراً. كما أرسل الخليفة المتوكل حملة بقيادة إبراهيم بن هشام إلى مدينة "سرشب" الساحلية في السند، للاستيلاء عليها وتأمين الطريق البحري إلى الهند.

ازدهار التجارة رغم القرصنة

ما ورد في كتب المؤرخين والجغرافيين عن نشاط القراصنة يوحي بأنه كفيل بالقضاء التام على التجارة في المحيط الهندي، لكن على العكس تماماً، كان التبادل التجاري في قمة نشاطه في مختلف الحقبات التاريخية، حسبما يذكر شوقي عبد القوي عثمان.

ويفسر عثمان ذلك بأن المؤرخين ربما بالغوا في انتشار القراصنة وقوتهم، أو أن القراصنة لم يكونوا أقوياء بدرجة كافية، خاصةً أن السفن التجارية كانت مسلحة تسليحاً جيداً وكان يرافقها جنود للحراسة، وورد أن سبعين سفينة للقراصنة هاجمت سفينة واحدة ولم تستطع الاستيلاء عليها.

ويذكر أن عملية القرصنة لم تكن مستمرة أو ممتدة كما ذكر كثيرون من المؤرخين، ويبدو أنها كانت رهناً بضعف السلطات الحاكمة، فعندما ترتخي قبضة الحاكم يعبث القرصان، وعندما تشتد يمتنع، لأن من مصلحة أصحاب البلاد القضاء على القرصنة، لما يعود عليهم من فوائد جمة من عمليات التبادل التجاري والضرائب والمكوس التي تُحصَّل عن تلك السلع.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

‎من يكتب تاريخنا؟

من يسيطر على ماضيه، هو الذي يقود الحاضر ويشكّل المستقبل. لبرهةٍ زمنيّة تمتد كتثاؤبٍ طويل، لم نكن نكتب تاريخنا بأيدينا، بل تمّت كتابته على يد من تغلّب علينا. تاريخٌ مُشوّه، حيك على قياس الحكّام والسّلطة.

وهنا يأتي دور رصيف22، لعكس الضرر الجسيم الذي أُلحق بثقافاتنا وذاكرتنا الجماعية، واسترجاع حقّنا المشروع في كتابة مستقبلنا ومستقبل منطقتنا العربية جمعاء.

Website by WhiteBeard
Popup Image