يمشي المرء وحده كثيراً. يشارك الغرباء طريقهم الاعتيادي. يبحثُ في وجوههم، عن سرٍّ ما يفكر فيه على امتداد المسافة التي يقطعها وصولاً إلى بيته...
أعرفُ أن الأمر لا يشبهُ ما أفكر فيه، لكن الرسالة التي أحبُّ أن أمسح بها ذاكرتي الضعيفة، هي أني مشيت وحدي كثيراً، وسمعتُ ما أحبُّ أن أسمع، وقبضت عليَّ الموسيقى صباحاً، واستطعتُ أن ألحق ظلّي وأمسك به في الليالي الماضية، ولم يكن الأمر متعلقاً بالمسافة البعيدة، بل بالحياة التي يحسّها المرء في أثناء قطعها. وإن كانت بحب، فليمشِ العمر مع ظلّه إلى ما لا نهاية.
أتذكرُ دائماً كل خطوة كانت بمحاذاة غريب أو غريبة دار بيننا حديث بعدها، وكنت غير ذلك أشعر بملاحقة أحدهم لي لأن الظروف التي تعايشنا معها، وانتهت في فترة ما، ثم عادت، لا تطمئن أبداً... وكلمة لا تطمئن، شعارٌ يتّسم بالعقوبة التي تُفرض على الإحساس أحياناً، فمثلاً حين تعرفت إلى أحدهم وانجذبت إليه بطريقة وردية، سمعتُ كلمةً غريبةً؛ هذا "الأحدهم" لا يطمئن، وكان ذلك بالنسبة لي شيئاً لا يُطاق لكن يُشكّ في أمره في الكثير من الأحيان.
هذا ما لا تحبّه دمشق
كل الذي أحبُّ أن أفعله في هذه المدينة، هو المشي. فأنا أمشي كثيراً، وأتذكر أني مشيت قبل سنتين مسافةً طويلةً من باب مصلى نحو الحمرا، وصولاً إلى ركن الدين. تسعة كيلومترات امتصت قدميّ وأفجعتني بأعصابي، وكنت وحيدةً، بكل شيء يُذكر مع الإنسان، وحيدةً من كل شيء، مجرّدة... ومُسقطةً على أحاسيسي ومن حولي، وهذا بالنسبة إلى دمشق عصيان، أو كما قال أحدهم: جيّد لها لتمارس الأمومة، لكن لا أعتقد ذلك في هذه الآونة.
الحبُ أكبر من الناس والخجل... أكبر... أكبر... وما لا تحبه دمشق هو أن أمشي وحيدةً وبيني وبين الذي أحب شوارعها التي صارت ضيقةً على الصدر
تغيّر الأمرُ بعدها، وتبدّل العمر، صار الناس معارف، علاقات كثيرةً يستطيعُ المرء اكتسابها في أي وقت، ومع الوقت أيضاً. مشيت معهم، جميعهم. تمشينا كثيراً، أكلنا، ضحكنا، تشاركنا اللحظات الحرجة في الطريق، حزنّا معاً، ارتكبنا الأخطاء معاً، وعبرنا الطريق متناسين الإشارة المرورية... لكنهم جميعهم، لم يكونوا سوى عابرين، بالنسبة لي يسمّون غرباء مألوفين، أو أهلاً وسهلاً، أو تشرفت بمعرفتك... لكن الشيء المنتظر أو الإحساس الذي أريده لم يصلني بالقدر الذي أريد، فأنا أريد أن أمشي وأمارس جنوني الذي لم يهدأ أبداً. أريدُ أن أغنّي بصوتٍ مقرف، و"يضحك الناس عليّ"... أريدُ أن أقتحم المباني وأزعج الناس، لكن بطريقة محترمة، كما أريد أن أعانق من أحب في الطريق، هكذا أمام الجميع ومن دون خوف. أنا لا أخجل من ذلك أبداً، الحبُ أكبر من الناس والخجل... أكبر... أكبر... وما لا تحبه دمشق هو أن أمشي وحيدةً وبيني وبين الذي أحب شوارعها التي صارت ضيقةً على الصدر.
كيف تتغير دمشق بخطواتنا؟
كلمة تغيير تشبه الولادة، وفي كل مرة تمشي فيها مع من تحب في حي ما أو حارة، تشعر وكأن كل ما حولك يولَد من جديد. لقد جرّبت ذلك حين مشيت أياماً كثيرةً مع أحدهم وقد استطعنا هو وأنا أن نحب الطريق فوُلد، وفي كل يوم نمشي فيه يولد حيّ ما، شارعٌ، زقاقٌ بسيطٌ برغم كل الجدران المهترئة التي تسنده.
في يوم ربيعي أذكره جيداً، كنت وحدي بين الغرباء الذين أحبهم كلهم. اتصل بي أحدهم، وقد تعرفت إليه قبل أشهر. كان بالنسبة لي عزيزاً إلى حد ما، لكن هذه المدينة قرّبتنا أكثر.
كنت أعرفُ أننا سنتقارب بودّ. أحببته، برغم أن ثقل العادات كان على كاهلنا. أوقفت كل شيء، لكن قبل أن أفكر في التقاليد والعادات والوقت، فكّرت في قلبي الضعيف، في المدينة المضطربة، وأحسست بأن هذه المرة كل شيء سيكون على ما يرام، وكل ما تعيشه هذه المدينة من اضطرابات سيهدأ.
مشيت معه كثيراً، يومياً. وكل شارعٍ كنا نمرّ فيه، كان يُزهر. كنت على ما يرام طوال الوقت الذي قضاه في دمشق. تغيّرت المدينة؛ صرت أهرب إليها ساعات أطول وأتمنى أن أقضي عمري كله وأنا أمشي فيها، وتمنيت في وجوده أن يأخذ الطريق امتداده من عمري.
من الشعلان، نحو الروضة، فالعفيف، إلى ركن الدين، بين الألم والربيع، بين السخط والشقاء... كنا معاً. أنت، جئت وحققت طلبي الأول من هذه المدينة، أنا وأنت مشينا طويلاً، وصارت المدينة أحلى، صار الموت بعيداً... لقد استطعتُ أن أكتب يوماً ما عن الحب الحقيقي الذي أعيشه مع أحدهم، فالروتين قتل قلمي، والحب الذي عشته قبل زمن لم يكن يعني شيئاً بالمعنى العريض للمفردة. استطعت أن تغير من هذه المدينة الكثير، لقد سبقتني إلى ذلك. ففي كل طريق أمشي فيه الآن، أنظرُ إلى الحياة من زاوية مختلفة وإلى الشارع من لون آخر... كل ما رأيته باهتاً تلّون، قلت: يزهر.
البعيدون الذين أخذوا ما أخذوا من روح المدينة، ونحن الذين نشتمها دائماً، وخطوات الذين عادوا غرباء بعد أن احتضنتهم وتعانقوا في شوارعها قبل الرحيل... سيغيرونها
الحقيقة هي أن دمشق لا تحب الوحدة، وأنا حين طرق الحب بابي يوماً، فكّرت في المشي أول الأمر، حتى أن كل الذين يعرفونني بشكل جيد، يدركون أني لا أطيق الجلوس ساعات خلف الطاولة، فقط المشي، الحديث والأكل واللهو في أثناء المشي. صرت أتوق إليه أكثر.
يسألني صديقي: لم هذا المشي كله؟
أجيب: حتى تشعر بنا هذه المدينة.
"كي لا نعود إلى لون الحرب"
أعترف حقاً بأن مواساته لا تُقدَّر بثمن، وكل سيجارة نفثتها كانت عبثاً... تهدئةً من روع الوحدة، فكلما كنت وحيداً ستكتشف أمراً سيئاً في الطريق، ثم يوماً بعد يوم ستكره كل ما حولك. وكل ما يهم هذه المدينة أن تعود عروساً في أعين أطفالها.
لم نعد أنا وذاك الوسيم نمرّ من دمشق معاً. كنت أبكي على ناصية الطريق كي لا يعود إلى لون الحرب، استسلمت للألم، كان الوقت سيئاً والطقس كذلك، وأحببت... بلوعة الفراق التي عشتها كلها أحببت، صار الألم معجباً بظهري المحني. فتاة عشرينية تمشي رويداً رويداً من التعب، تخاف من الطريق، تخاف من الناس، وتحمل على عاتقها همّ العالم، ويظهر على جبينها أن العمر يفتقر إلى قبلة مرحة تستطيع أن تغيّر أحاسيسها مرةً أخرى.
تغيرت تلك المدينة في فترة وجيزة، وبقيت في ذاكرتي كثيراً، وكلما تذكرتها يهرب النوم أكثر من ذي قبل، كل الذي بقي من عمري الصغير تمنيته بموازاة خطوات ذلك البعيد. كيف غيّر تلك المدينة في عيني؟ كيف استطاع أن يقلب لونها الرمادي في ذاكرتي إلى لون وردي؟ كان الأمر أحياناً يصل إلى أن أرى المدينة بلونين؛ بعين رمادية وأخرى وردية، مع صداع كبير في الرأس وتفكيرٍ يمتد ساعات طويلةً وأحياناً إلى يومين، حينها عرفت السرّ الذي يغيب عنها، أو في الحقيقة عرفت ما هو السر الذي تفتقر إليه المدينة الرثة بعد كل سنوات الحب! الحب، هو من يغيّرها؛ البعيدون الذين أخذوا ما أخذوا من روح المدينة، ونحن الذين نشتمها دائماً، وخطوات الذين عادوا غرباء بعد أن احتضنتهم وتعانقوا في شوارعها قبل الرحيل...
لن تتغير هذه المدينة حتى نمشي كلنا، مع من ماتوا، في شوارعها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.