ساعدت منصات التواصل الاجتماعي، النساء الإيرانيات على إبراز هواياتهن ونمط حياتهن المختلف عن الآخرين، حتى أصبحن ملهمات بالنسبة إلى مجتمعهن المحافظ الذي ما زال يرغب في التحكم بقرار سيّداته.
وسط الكثير من المؤثرات على السوشيال ميديا، يبرز نجم شادي كَنجي، ذات الـ38 عاماً. أخذت شهادة الدكتوراه في علم الآثار، وقررت أن تستمر في شغف طفولتها، السفر والترحال، فباتت رحالةً تجوب العالم بنفسها، وملهمةً للكثير من الفتيات الإيرانيات عبر صورها وسردياتها العميقة على حساباتها.
عرّفت شادي نفسها لنا فقالت: "أنا امرأة إيرانية عالمة آثار، وفي كل الأحوال رحالة. لكل شخص نظرته الخاصة إلى العالم وتتشكل حياته وفقاً لذلك، وقد تشكلت نظرتي من خلال دراستي ورحلاتي. علم الآثار ومعرفة الماضي تركا أثراً كبيراً على حياتي، وما زلت أفخر بأني عالمة آثار، ولا أرغب في أن تكون السياحة مصدر دخلي، كوني أعتقد أنه إذا ما كانت هوايتي مصدر رزقي، فلا يمكنها أن تكون أكثر متعةً، إذ لا بد أن ينصبّ تركيزي على حصيلة الرحلة بدل التمتع بها".
"ما زلت أفخر بأني عالمة آثار، ولا أرغب في أن تكون السياحة مصدر دخلي، كوني أعتقد أنه إذا ما كانت هوايتي مصدر رزقي، فلا يمكنها أن تكون أكثر متعةً، إذ لا بد أن ينصبّ تركيزي على حصيلة الرحلة بدل التمتع بها"
وأضافت لنا: "عادةً ما تكون رحلاتي صعبة، ولكن حين أعود إلى المنزل أشعر بتغيير طرأ في داخلي، نابع من معرفة اكتسبتها للتو. فمثلاً، عندما يسرقون كل شيء منك في السفر، وأنت تشقّ لنفسك طريقاً آخر وتستمر في رحلتك، حتماً سيغير هذا الأمر في ذاتك النظرة إلى جمع الأموال".
"أوتوستوب" إلى بيروت
بدأت شادي أسفارها إلى خارج البلاد، على طريقة رحلة "الأوتوستوب"، أي من دون دفع أجر للنقل، وأحياناً تكون مترجلةً، فذهبت إلى تركيا ثم سوريا حتى دخلت بيروت. وقد تأثرت عميقاً بما اكتسبته من خبرة لأول مرة، كما استلهمت من حياة الآخرين في رحلتها، وبقيت تردد على نفسها: "لماذا كنت أشعر بأن نمط حياتي هو الصحيح فقط؟".
تستلم الرحالة الإيرانية رسائل كثيرةً عبر حسابها على إنستغرام، وتتمحور في معظمها حول "ما هو دخلك المالي لتأمين رحلاتك؟"؛ سؤال في محله خاصةً في الظروف الاقتصادية الهشة في البلاد، إذ يعتقد كثيرون أنها غنية بما يكفي كي تتمكن من السفر إلى خارج إيران، من دون أن يعرفوا أنها تمارس انضباطاً اقتصادياً كي تتمكن من السفر.
وترد الفتاة على متابعيها: "لربما أعمل أكثر من الآخرين حولي، من قبول أبحاث ودراسات أكاديمية في علم الآثار، وإقامة صفوف تدريبية، وأحياناً دليلةً للجولات الأثرية في الداخل. وبرنامجي السنوي هو العمل طوال 9 أشهر، ثم السفر 3 أشهر. والأهم من ذلك أنني تعلمت كيف أسافر بأرخص الأثمان، ففي رحلتي إلى جنوب شرق آسيا، كلّفني المبيت والأكل ومرشد سياحي أخصائي في بعض الأوقات، 10 دولارات يومياً".
الجانب الآخر المهم في حياة الرحالة شادي، والذي أدهش متابعيها، شجاعتها في خوض رحلات صعبة المنال والدخول إلى أماكن غير آمنة كما يظن كثيرون، إذ إنها تتحدث بولعٍ عن السياحة بمفردها وكأنها لم تخَف يوماً ولم تتعرض لمخاطرها.
وعن ذلك شرحت: "تستغرب السيدات ويستفسرن مني حول السفر وحيدةً، وذهابي بنفسي إلى بيوت الناس المحليين وإقامتي فيها، أو مبيتي في أماكن غير عادية، ويشعرون بأني دائماً عرضة للمخاطر بينما أنا لم أرَ ذلك. يتعلم الإنسان من خلال تجربته كيف يحافظ على نفسه، حتى في أماكن غامضة. وفي بعض الأحيان تدعمني العوائل المحلية، كوني فتاةً وحيدةً، لأنهم لا يشعرون بخطر من جانبي".
تؤمن بأن السفر وحيدةً، منحها فرصة التواصل مباشرةً مع الجانب الداخلي للشعوب المختلفة، والتعرف على قصص حياتهم، وتذوّق طعم ثقافتهم وتقاليدهم. مع ذلك، تؤكد أن الخوف يلازم الإنسان دائماً، وهذا طبيعي في حد ذاته، ولكن ما على الشخص سوى أن يسيطر على ظروفه في مواقع الخوف.
النوم في شوارع أرمينيا وجورجيا
"جربت الخوف في كثير من الأحيان، حينما ركبت مع السائقين في رحلة أوتوستوب، أو عند مبيتي في منازل ناس غرباء، ولكن لم أسمح بأن يقف الخوف سدّاً أمام رحلاتي. في رحلتي إلى جورجيا وأرمينيا، لم أنَم ولو ليلة واحدة في الفندق، بل قضيت أمسياتي في الجوامع والصوامع وبجوار الطرق. لن تصدقوا أنني قد قضيت أجمل نوم في حياتي هناك". هكذا وصفت مواجهتها خوفها.
وعن المجتمع الإيراني المحافظ تبيّنت شادي لنا، أنه "في ثقافتنا يخوفون المرأة منذ طفولتها من كل شيء؛ يعوّدونها أنها قبل غروب الشمس يجب أن تكون في المنزل، ولذلك يبقى الخوف يلازمهن في الكبر، فيخفن من الترجل وحيدات في الشوارع المظلمة أو يخشين الحضور في وجود رجل غريب. أما أنا فقررت أن أصنع لنفسي طريقاً آخر يختلف عما عاشته والدتي".
تعتقد عالمة الآثار، بضرورة نقد تقاليد المجتمع المحافظ والأسرة، والتخلي عن عاداته التي تقيّد الإنسان، "أحياناً الابن هو من يقوم بتعليم شيء ما لوالديه، وإلا سيصبح شبيهاً بهما في أيام شبابهما. أتذكر عندما عدت من أولى رحلاتي، أن أمي أخبرتني بأنها كانت تبكي كل ليلة خوفاً عليّ. في الروتين كان عليّ أن أحترمها أو أترحم عليها ولم أسافر بنفسي في ما بعد، ولكن أنا مسؤولة عن حياتي الشخصية ولذلك قررت أن أواصل مشواري".
"أتمنى لو كنت طفلتك يا ماما كي تأخذيني حول العالم"
حدث هنا شيء مثير للإعجاب، فبعد سنوات من خوض تجربتها الشخصية، تفاجأت شادي في يوم من الأيام التي كانت تقضيها في إفريقيا، بوجود تعليق من والدتها تحت أحد منشوراتها، يقول: "عندما كنت طفلةً، قلتِ إنك تريدين أن تتجولي حول العالم، فضحكت حينها، أما الآن فأتمنى لو كنت أنا طفلتك لتأخذيني معك أينما ذهبت وتُريني الدنيا". تأثرت بذلك، وحينما سردت الحكاية لزميلتها الفرنسية التي كانت معها، سمعت منها بأنها تتلهف لسماع هذه الكلمات من أمها، وهنا تؤكد الرحالة الإيرانية أن قصصنا متشابهة برغم المسافات التي تفصلنا.
ولكي تنقل مشاعرها بشكل صحيح لمتابعيها، خاضت شادي دورات تدريبيةً لكتابة التقارير الصحافية وسرد القصص: "متابعيّ إما يشبهونني في التوق إلى معرفة الثقافات، وإما فتيات غير جَسورات، يرين فيّ سيدةً جريئةً في تنفيذ ما يطيب لي، وكأنني أذكّرهن بأنفسهن".
وأما من استلهمن من تجربتها وخضن تجاربهن متأسيات بعالمة الآثار، فلسن بالقليلات، وإحداهن سافرت إلى إفريقيا وهي تقيم هناك منذ سنتين.
"بعدد الناس هناك أشكال مختلفة للسفر، وليس بالضرورة أن يسافر البعض على طريقتي. ولكن أنصح بأن تجعلوا رحلاتكم طويلةً لا قصيرة، فهنا تكمن التفاصيل والمعرفة، البطء هو نوع من الفلسفة في الحياة ويجلب للإنسان طعماً مختلفاً ليس في السفر فحسب، بل في الحياة كذلك"
"من أبرز ما تعلمته في حياتي من الترحال، الوعي وقبول الآخرين برغم معتقداتهم وتحسين علاقتي بالحياة من حولي، ففي فترة المراهقة كنت كوالدتي متدينةً ومقيّدةً بالأحكام الشرعية، وكنت أظن أني أفضل من الآخرين، أما اليوم قد تبددت تلك المعتقدات وبت أؤمن بأننا جميعنا بشر ولنا الحق في الاختلاف"، هكذا قالت شادي.
تقوم شادي برحلات قليلة التكاليف، مع حقيبة ظهر وأحياناً تقطع مسافات كثيرةً مشياً، وعندما تريد ركوب سيارة تستخدم رحلات الأوتوستوب، كما تقضي وقتها مع الناس المحليين في النُزل الريفية، أو تحصل على مبيت عبر موقع كاوتش سيرفينج، الذي يوفر مبيتاً بلا ثمن.
سرقوا أموالي في إفريقيا لكني بقيت هناك 3 أشهر
"في إفريقيا، حجزت مبيتاً عبر موقع كاوتش سيرفينج، وقد سرقوا أموالي كلها في اليوم الأول، ولكن خضت رحلةً لثلاثة أشهر من دون نقود. وهنا يجب أن أشرح أننا كإيرانيين لا نملك بطاقات بنكيةً دوليةً (Mastercard)، بسبب العقوبات، لذا علينا أن نحمل كلفات رحلاتنا في حقائبنا. هذه مغامرة بحد ذاتها ولكن المغامرات جميلة برغم خطورتها، وأفضّل أن تأخذني الرحلة، بدل أن أبرمج لها مسبقاً"؛ هكذا قالت الرحالة الإيرانية.
لم تكن رحلاتها بلا أشياء جميلة، ففي رحلتها الأخيرة إلى ماليزيا، وحينما كانت تطلب سيارةً حسب نظام رحلات الأوتوستوب، ركبت مع سيدة بقيت معها خمسة أيام، واصطحبتها إلى معالم وأماكن لم تكن تعرف بها من قبل.
تنظر شادي إلى السفر على أنه رحلة فكرية يجب أن ننغمس فيها شيئاً فشيئاً، وذلك لمعرفة الذات ومعرفة الآخرين، "بعدد الناس هناك أشكال مختلفة للسفر، وليس بالضرورة أن يسافر البعض على طريقتي. ولكن أنصح بأن تجعلوا رحلاتكم طويلةً لا قصيرة، فهنا تكمن التفاصيل والمعرفة، البطء هو نوع من الفلسفة في الحياة ويجلب للإنسان طعماً مختلفاً ليس في السفر فحسب، بل في الحياة كذلك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...