شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
هل يشعر أهل البصرة بما شعرتُ في مدينتهم؟

هل يشعر أهل البصرة بما شعرتُ في مدينتهم؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رود تريب

الجمعة 28 أبريل 202312:03 م

"قصيدة أريكة الأسفار البعيدة

كثيرون هم الذين تأملوا نعوشهم محمولة

حيث ستعصف الريحُ المخبولةُ برمل المعنى"

أخيراً قرر لنا صديق نحبه ونحبّ السفر معه أن نشدّ الرحال إلى البصرة. أقنعنا بجملة واحدة: ما الرحلة إلا عبور منفذ "الشلامجة"، وإذا لم يعجبنا الوضع نعود فجراً إلى أهلنا. وهذا ما حصل بعضه.

لا أعلم هل يشعر الناس في البصرة أنهم يتحدثون عن تمثال السياب كأنه شخص حيّ؟ أشعر أنّ السيّاب هو من سيستقبلنا ويجيب عن أسئلتنا

خرجنا ظهراً من الأهواز واجتمعنا أربعة في المحمرة، ومنها إلى البصرة، وقد دخلناها عصراً. إنه رمضان (نحن نحتفظ بطقوس رمضان الاجتماعية في منازلنا بعد أن بات يُقرأ البعض منها على أنها نشاط سياسي). هنا رمضان واضح يمكن تنفسه في الهواء. قُبيل غروب الشمس كانت وجهتنا الأولى -وما زال غبار السفر علينا- أن ندخل مكتبة عائمة. كان من ضمن خططنا استغلال الفرصة لزيارة سفينة "لوجوس هوب". كنا قد قلنا لسائق السيارة الذي حملنا من الحدود إننا نريد الذهاب إلى السيّاب، واتضح أنّ المكتبة على الجهة الأخرى من الكورنيش، فطلب زيادة المبلغ أو الترجل وإكمال الطريق سيراً على الأقدام.

اخترنا الترجل بعد أن أوقف سيارته ليدخلنا في جدل لا يحتمله من يقصد مكتبة عائمة. ظهر أنّ الخمسمائة متر التي قالها كمسافة تفصلنا عن السفينة قد تضاعفت. حثنا صديقنا المقترح للسفر إلى البصرة على حثّ الخطى لنصل قبل غروب الشمس، فالزوار سيتوافدون على المكتبة العائمة وسنواجه زحاماً. دخلنا بعد أن فتّش شاب حقيبة ظهري (وزنها يقارب العشرين كيلو غرام) وقال معتذراً إنها الإجراءات.

صعدنا السلم المؤدي إلى داخل السفينة يستقبلنا المتطوعون بالابتسامات. في غرفة صغيرة رُصفت مقاعد بحرية ليجلس عليها الزوار دقائق قليلة، سيشرح لنا صوت أهداف وهندسة المكتبة ومن أين تبدأ وأين تنتهي والعملة المستخدمة للشراء وما يعادلها ديناراً، وإذا تقدمنا فلا طريق للعودة. شعور بأني أنتمي لهذا المكان، وجاء صوت من خلفي لمقترح السفر أنه يريد التطوع في السفينة، وسيسأل عن الاجراءات.

معظم الكتب باللغة الإنكليزية التي لا أعرفها، لكني أقلّب الكتب متمعناً بجمال الطبعات وطريقة وضع الصور والأغلفة. لن أخرج دون أخذ هدية تذكارية، وجدت قلم رصاص، فاخترت ثلاثة لبناتي الثلاث. قلم الرصاص أطول من أقلامنا وأعرض، ولن تناسبه مبراتنا، فسألتُ الفتاة الأقرب مني وثيابها تدلّ على أنها من الطاقم. كما القطة رفعت كتفيها وغاصت رقبتها بين الكتفين وابتسمت بوجهي. حدثت ضجة وبحثوا عن المبراة وفي النهاية توصلت المسؤولة إلى حلّ أخبرت الفتاة المتحجبة به، وبدورها نقلته لي وهي تعيد إخفاء رقبتها بين كتفيها وتبتسم. إنها أجمل مما كانت عليه: ليس لدينا مبراة؛ تستطيع شحذه بالسكين. اكتفيت بقلم رصاص واحد كتذكار.

سبقنا صديقانا إلى خارج السفينة، فرفيقي صائم ويبحث عن مكان يبدأ به إفطاره بجرعة قهوة ودخان مرّ. وجدنا مقعداً وبجانبه امرأة ترتدي السواد، أربعينية نشطة، لكن لغة الحروب هدتها. كانت قد وضعت على طاولة قدرين كبيرين. بعد أن جلس صاحبي، سألتها عن القهوة، قالت إن الماء لم يسخن بعد، ولكن لدينا "دولمة" و... . لم أسمع اسم الطعام الثاني لأني طلبت صحن دولمة. نستنا المرأة، مما سمح لنا بمتابعة الأسراب التي جاءتها تطلب الدولمة والفطائر والأرز. جيل شباب يبحث عن معرفة عائمة. أصواتهم تقول لنا إن الدنيا بخير. تتوافد الآن الجموع على السفنية، وأخذ الزحام الذي حذرونا منه يتشكّل. وأخيراً ذكّرناها بأننا وصلنا وطلبنا الدولمة قبل الطابور الواقف أمامها وهو يلتهم الأكل. فعوضتنا بصحن اعتنت به وبمحتواه.

نستنا المرأة، مما سمح لنا بمتابعة الأسراب التي جاءتها تطلب الدولمة والفطائر والأرز. جيل شباب يبحث عن معرفة عائمة. أصواتهم تقول لنا إن الدنيا بخير. 

سرنا جهة السيّاب. لا أعلم هل يشعر الناس في البصرة أنهم يتحدثون عن تمثال السياب كأنه شخص حيّ؟ أشعر أنّ السيّاب هو من سيستقبلنا ويجيب عن أسئلتنا. تدبّ الحياة على الكورنيش، فقد خرج الناس إلى الشوارع مطلقين العنان لأنفسهم وملامح كأس الخليج واضحة آثارها.

بعد ساعة أو أكثر وصلنا الشاعر البصري طالب عبد العزيز مع الشاعر عبد الوهاب الخال. عناقات طويلة بجانب شطّ العرب وظهورنا كانت موجهة نحوه. تسلل الحنين إلينا ونحن نتعانق. سأستعين بديوان طالب عبد العزيز الوحيد الذي حصلته عليه "طريقان على الماء واحدٌ على اليابسة"، برغم أنه ترك لي معظم أعماله خاصة عمله الأخير:

"ومنذ أن كانت الآلهةُ بعدد النخيل فيها

كان البصريّون باشّين، يحبون بعضهم...

هلّا رأيتهم وجهاً أسمر مقطباً، بلا بشاشة

فلماذا يستكثر -خصومُ داعشٍ في النهار

أصدقاؤهم في الليل- علينا جسر المحبة

الذي ظهره إلى الشطّ الكبير

حيث نقف، وحيث نقفل قلوبنا متعانقين

وحيث نرمي المفاتيح في الماء؟".

في حديقته المسائية كان يحدثنا عن كل نخلة وشجرة بلغة الأبناء. لو حدث وزرتم البصرة حثّوا شعراءها عى الحديث عن نخيلهم وأشجارهم. هنا اللغة التي تتناقلها الأجيال الشعرية منذ الأزل. حدّثنا وهو يأخذنا إلى البستان الخلفي عن نخلة وابنتها واضعاً يده على حفيدتها. ستفطنون سريعاً إلى صوته وجسده وحركة العينين وارتجافة الشعر الأبيض، وتدركون أنه يتحدث عن صديق، ابن، حفيد، عن إنسان يعرفه جيداً ويعرف ما مرّ به نهاراً وليلاً.

في العاصفة التي كانت البارحة

لم أتبيّن من شجر الحديقةِ

إلا ما كان سفرجلاً…

قضمتِ الظُلمةُ الفسحةَ كلها

وكأنها لم تكُ سوسنةً

كلّ شجرة لم يمسسها المطرُ شقيقتي

كلُّ برعم راح يرتجف ولدي

كلّ نهر ممتلئ بالماء قلبي

أنا كلّ طائر فزع بين الأغصان".

في حديقته المسائية كان يحدثنا عن كل نخلة وشجرة بلغة الأبناء. لو حدث وزرتم البصرة حثّوا شعراءها عى الحديث عن نخيلهم وأشجارهم. هنا اللغة التي تتناقلها الأجيال الشعرية منذ الأزل

حتى وإن كان مسافراً خارج البصرة-العراق، لا يفتئ طالب عبد العزيز من استحضار مفردات قد نجدها لا تناسب حداثة قصيدة النثر. يغافلنا معجمه الشعري بمفردة علّقها على أسوار أرمينيا، كما يغافلنا الخريف. إنه يعرف لغة الأشجار والنباتات أينما كانت، وينبئ ببكاء المرأة وسط الخريف من أجل وردة:

السيدةّ العجوز يؤلمها

أنهم لم يدفعوا لها ثمن أزهار الأوركيد

فاتخذت من كرسيٍّ قرب النافذة مبكىً لها

لا المطر بكركراته الألف،

المبعثرة هنا وهناك…

لا الصلبانُ الصغيرةُ على سور الكنيسة

ولا أشجارُ الميلادِ، ما انفكت ترسل أجراسها

كانت رءَّابةً لدموعها التي تناهبتها المناديل".

قضينا الليلة عنده وهو يحملنا بالمزيد عن تاريخ البصرة المتفرع مثل تفرعات قصيدة "سائقو الباصات"، وهي تلخص تاريخ الطرق الترابية والمرصوفة وولوج أول باص إلى المدينة كما لم نعرفها. ثمة أسرار لمدينة "البصرة العظمى" لا يعرفها إلا سائقو الباصات وقد أسرّوها لطالب عبد العزيز.

كنتُ قد وضعتُ أكثر أعماله في حقيبتي المحمولة بعد أن أخبرت صاحبها أنني سآخذها. لا أعلم ما الذي دفع صاحبي في لحظة مروءة مع شحنة نخوة إلى إخراج الكتب من حقيبة الظهر أمام عيني وإعادتها إلى طاولة صاحبها. لو خفّت مروءةُ صاحبي المشحونة بالنخوة، لو أنه لم يحشر يده في حقيبة ظهري لقرأت "من الفندق إلى الحانة".

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard