شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ضمّ/ ي صوتك إلينا!
عندما بكيت من فرْط الوِحدة... كان الطعام المصري وطناً آخر

عندما بكيت من فرْط الوِحدة... كان الطعام المصري وطناً آخر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والمهاجرون العرب

الخميس 4 مايو 202312:22 م

خلال السنوات الفائتة، مررت بمحن صحية عابرة، في كل مرة كانت تزورني حماتي، رحمها الله، وفي يديها صرّة كبيرة من الطيّبات، بط محمر وحليب جاموس وخبز بلدي محضر على نار الحطب. كنتُ أبكي من فرط الوِحدة وأبكي من فرط الفرح، كنتُ أشعر أنني في فيلم مصري قديم، وأن حماتي جاءتني محمّلةً بأمومة عبلة كامل في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"، أو كريمة مختار في فيلم "يارب ولد".

ما زلت أشعر أنني في فيلم مصري طويل، شخوصه من الواقع ومن الخيال، وكادره فضاءٌ مليءٌ بالضوضاء والسحر والروائح السائغة، فضاء اسمه مصر.

الطعام في مصر لغة للطبطبة والدعم. هو ليس صورة مباشرة أو أطباقاً على مائدة، بل أسلوب حياة ونمط تعايش مع البيئة الاجتماعية والثقافية، وحكاياته لا تنتهي، تبدأ عندما دفن الفراعنة الخبزَ والجعةَ مع الأموات إيماناً بالحياة المنتظرة بعد الموت، وحكايات أخرى شيقة عن الكشري والملوخية والممبار وعصير القصب، أكلات ألِفتُها وتذوّقتها وعايشتُ برفقتها لحظات شكّلت وعيي وتجربتي بعيداً عن وطني، فصارت تلك النكهات وطناً آخر في غربتي المستمرة.

الشاي بلبن... طعم الزمن

بين المصريين والشاي علاقة لا يفهمها سواهم، يعبّر عنها قول أحدهم "الشاي في البيت وجوده زي الرجل أو المرأة"، الشاي هنا سند المهموم، يقظة الصاحي، سلوة الحزين، ومزاج الجميع، شرط أن تصب في كوب زجاج شفاف كي تُرى بلورات الشاي تتهدى في الماء وكأنها "تِبرٌ في لجين رائق"، كما يقول الشاعر.

الطعام في مصر لغة للطبطبة والدعم. هو ليس صورة مباشرة أو أطباقاً على مائدة، بل أسلوب حياة ونمط تعايش مع البيئة الاجتماعية والثقافية

طقوس الشاي في مصر ليست مُركبة أو على درجة عالية من الدقة والشكلَنة كما هي لدى الإنكليز أو الصينيين، لكنها في ذات الوقت صَنعة تحتاج نفَساً ودراية بثالوثها الأساسي، الشاي، الماء والسكر.

أما أصنافها فهي طريفة وغريبة في آن معاً، شاي منعنع، شاي على مية بيضة، شاي خمسينة، شاي على بوسطة، شاي باللبن، شاي لون، شاي فريسكا، شاي كعب عالي، شاي حريمي، هذا الأخير يعني الشاي الخفيف والمحلى بالكثير من السكر، كناية عن جمال الأنوثة، اللطف والخّفة والحلاوة الشديدة.

الشاي بلبن -الشاي بحليب- هو المُدلل لدى الكثيرين، يُحضّر أيضاً بدقة وخطوات متبعة ليكون بلون ونكهة ستعلَق كثيراً، عندما أخبرتُ شريكي أن لا خبرة لدي بـ"الشاي بلبن"، أعد لي كوباً مع توضيح وافٍ لكيفية ذلك، وتفصيلات لا بد منها لتكون النهاية مرضية، كطهي الشاي مع الحليب دون إضافة الماء، ووضوح نكهة السكر لأنها تضفي مذاقاً جميلاً لـ"الشاي بلبن".

الملوخية المصرية منقوشة على جدران الفراعنة وبردياتهم كما هي منحوتة في قلب آكلها ووجدانه، لجمالها وخفتها. 

كان وقتاً عادياً عابراً، لكنه في ذاكرتي غير عادي. يقول الكاتب عمر طاهر "إن الليل هو الشاي والنهار هو اللبن.. حط دا على دا ودوق طعم الزمن"، بهذه البساطة والعمق يحب المصريون الشاي بلبن.

قطع غيار اللحوم

قطع غيار اللحوم، فواكه اللحوم، إكسسوارات اللحوم، حلويات اللحوم وغير ذلك، أسماء لمطاعم تقدّم ما يتبقى من الذبيحة بعد استهلاك لحمها. الرأس، الطحال، الكبد، الرئتان، الساقان، الأمعاء، وأجزاء أخرى تُنظف وتطهى وتقدم بمسميات لا تخلو من بعض الكوميديا والغموض، لغير عارفها، أفوكاتو، فِكري، فشة، كرشة، ممبار، وأسماء أخرى تشكل خريطة متكاملة لمائدة لها روادها في مصر.

أسكنُ في حيّ عتيق، تفوح من بعض أجزائه روائح هذه الأكلات، من مطعم مخصص لها، أعبر أمامه، أشاهد طوابير المنتظرين وأتذكر والدي وعمي، رحمهما الله، كانا يسافران من محافظة لأخرى كي يتناولا السختورة والقبوات والقشة، مسمياتٌ شامية لذات الأصناف.

ثم تأخذني ذاكرتي إلى ضفة أخرى بعيدة، طاهٍ إيطالي شاهدت وثائقياً عن تجربته. كان بداية شبابه يدرس الطب البيطري ويعيش حياة نباتية يدافع فيها عن حق الحيوانات في الحياة بحرية بعيداً عن سكاكين الجزارين، إلى أن مرض والده بالسرطان، وكان يعمل جزاراً، ما دفع به إلى ترك الجامعة ومساعدة والده في عمله.

مع الوقت بدأ يتكيف مع فكرة ذبح الحيوانات وتناولها، بل وشكّل فلسفة جديدة مغايرة، جعلت منه طاهياً مشهوراً في أنحاء إيطاليا، قوامها أن حياة تلك الكائنات تحمل رسالة مسخرة لصالح الإنسان، بالمقابل رسالته أن تعيش في مراعيه أفضل حياة، بالغذاء الجيد والضوء، وعندما يحين موعد الذبح تكتمل الرسالة بالاستفادة من كامل أجزاء الحيوان فلا يرمي منها شيئاً، يقطع اللحم ويصنفه، ثم البواقي -إكسسوارات اللحوم- يجمعها ويقدّدها أو يصنع منها "اللانشون"، يقدمه إلى جانب أصناف أخرى في مطعمه الصغير داخل محال الجزارة.

يعيش المصريون ذات الفلسفة مع اختلاف الدوافع ربما، لتكون بذلك حلويات اللحوم وجبة شعبية تُغرق آكلها في دَسم هذا البلد ونهج أهله.

في القاهرة، تنصهر جميع تلك الروافد لتتشكل هوية الطعام المصري وثقافته العريقة التي تحكي تحولاتٍ اجتماعيةً وبيئية عاشها هذا البلد، وبقي على مرّ الدهر "أرض القمح والأرز والبركة الإلهية"

الرقص مع الملوخية

أزعم أن الملوخية المصرية منقوشة على جدران الفراعنة وبردياتهم كما هي منحوتة في قلب آكلها ووجدانه، لجمالها وخفتها.

خلال عامي الأول في مصر طبخت الملوخية على طريقتنا السورية، الأوراق خضراء مفرودة، مع الدجاج والكثير من الثوم والكزبرة، قدمتُ صحناً لجارتي العجوز، لتعود لي به وقد ضربته بالخلاط وبات كما يقدّمه المصريون. ظنّت أنني أريد طحنه ليصبح كقوام الملوخية المقدمة على سفرة المصريين.

في مصر تطهى الملوخية شوربة، الأوراق مفرومة ناعمة درجة السحق، شياكة الملوخية بكثافتها ونضارة لونها، أما الطشة والشهقة فيجعلان منها أسطورة فرعونية عنوانها "الرقص مع الملوخية".

بين الملوخية السورية والمصرية مسافة تستأهل النظر لفهم البعد الطهوي والاجتماعي لكل منهما، ورقة الملوخية السورية واسعة وسميكة ما يجعلها تأخذ وقتاً أطول في الطهي، بينما الملوخية المصرية تُقطف باكراً فتكون وريقاتها غضة فاتحة اللون، وتبقى كذلك بعد الطهي، لأن طبخها لا يتجاوز دقائق.

قدِمتُ إلى مصر من بلد أخضر غني بترابه وطعامه، مهما ضنّ على أهله فأرضه لا تفعل، القمح وزيت الزيتون والخبيزة، الغني يشبع فيها والفقير أيضاً، نكهاتنا عرفت في أنحاء العالم بغناها البصري والحسي فسميت حميَة البحر المتوسط لخصائصها الصحية والجمالية.

هنا في بلد الفول والأرز والقصب، أنماط غذائية مغايرة لكنها تحمل ذات الغنى والخصائص الجمالية. يعزّز ذلك تباين الملامح الجغرافية للبلاد، ففي الصعيد، أقصى جنوب مصر، حيث الشمس عالية وجليّة، هناك الخبز الشمسي والويكا، هذه الأخيرة هي بامية خضراء تطهى وتطحن بطريقة لا يتقنها سوى أهل الصعيد. وإلى الشمال في إقليم الدلتا، حيث المساحات الخصيبة، هناك الأرز المعمّر والفطير المشلتت والبط المحشي، ثم جنة الأسماك والجمبري على طول شريط المتوسط وفي مدن قناة السويس.

في القاهرة تنصهر جميع تلك الروافد لتتشكل هوية الطعام المصري وثقافته العريقة التي تحكي تحولاتٍ اجتماعيةً وبيئية عاشها هذا البلد، وبقي على مرّ الدهر "أرض القمح والأرز والبركة الإلهية" كما يقول أحد الرحالة.



رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

WhatsApp Channel WhatsApp Channel


* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image