شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
العرس الفلسطيني... أكبر من مجرد فرح

العرس الفلسطيني... أكبر من مجرد فرح

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

مدونة نحن والتنوّع

الاثنين 22 مايو 202312:56 م

العرس الفلسطيني... أكبر من مجرد فرح

استمع-ـي إلى المقال هنا

على خِلاف جميع الأهازيج والزغاريد التي تستخدمها الشعوب في التعبير في أوقات الفرح، تكاد الأهازيج والزغاريد الفلسطينية تأخذ منحنى مختلفاً تماماً، فهي لا تقتصر على كونها وسيلة للفرح والسعادة، بل تخرج من هذا النّمط لتصل إلى أماكن جديدة تماماً، فأمّ العريس حين تقف مزغردةً في عرس ابنها، زغاريدها لا تكون تعبيراً عن الفرح فقط، بل تعبير أيضاً عن الحسرة والحزن على رحيل الابن الآخر قبل أعوام، فلحظة الفرح الفلسطينية عادةً ما تأخذ سياقات عديدة.

هذه السياقات التي ارتوت من كثرة الأحداث اليومية في حياة الفلسطيني، حتى اختلط الفرح بالحزن، والأمل باليأس، والسعادة بالشّقاء. ومع إدخال الأهازيج في نفق التجديد المستمر، تبعاً للحالة الشعبية، باتت مادة دسمة يمكن الاتكاء عليها لتحليل حالة الفلسطيني من الناحية الاجتماعية والنفسية والسياسية أيضاً. لهذا، يمكن ببساطة ملاحظة الفرق الكبير بين الأهازيج والزغاريد في البيوت الفلسطينية، وبين الأهازيج والزغاريد في البيوت العربية الأخرى.

يمكن القول إنها البداية

مع عدم اقتصار العرس في فلسطين على ليلةٍ واحدة كباقي بلاد الشام، فُتِح مجال واسع أمام النساء والرجال الفلسطينيين للخروج عن المألوف، وتقديم مجموعة واسعة من الأهازيج المختلفة في كلّ عرس، والمتشابكة مع ما تمرّ به البلاد من واقع سياسي واجتماعي. نجد هذا جلياً في اتساع المواضيع التي شملتها هذه الأهازيج، فعلى سبيل المثال، عندما فرضت الإمبراطورية العثمانية التجنيد العسكري الإلزامي على رعاياها، فيما عُرف بـ "السفر برلك"، استخدمت النساء الفلسطينيات الأهازيج كوسيلة لتوثيق تأثير السفر برلك على المجتمع الفلسطيني، نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، علاوةً على توثيقهن لدورهن البارز في مواجهة تحديات الواقع في تلك الفترة.

باتت أهازيج العرس الفلسطيني في جوهرها، أداة مهمة في مواجهة تحدّيات الواقع المعاش، ووسيلة بسيطة للتغلّب عليه وهزيمته ولو لفظيّاً

يظهر هذا جلياً في كلمات الأغنية التي تقول: "يلّي ساقوا وِلفك ع سفر... ع سفر برلك ساقوا إلك ولفك، شو بتنفعك غوايش الذهب... والذهب عمره ما بضلّلّك، قومي لعند الخواجا قبل ما تبيعي العنب وينفق... قومي لعند الخواجا قبل ما الدركي يحرقلك قلبك". بالإضافة إلى تجلي هذا التوثيق في قصة "مشعل" التي صارت أغنية مشهورة غنتها الكثير من الفرق الفلسطينية وغير الفلسطينية، والتي لطالما عرفت باسم "عالأوف مشعل".

الأهازيج كوسيلة للاعتراض والتنبيه

لعل أشهر الأهازيج الفلسطينية التي برزت في فترة الاستعمار البريطاني، هي أغنية "طلت البارودة والسبع ما طل"، التي توثّق الحالة الفلسطينية في تلك الفترة وأدواتها في مواجهة الاستعمار من خلال الثبات والمقاومة المستمرة، في محاولات الفلسطيني المستمرة لانتزاع حريته والقضاء عن الاستعمار. ومع تنوع سياقات الأهازيج الفلسطينية في فترة الاستعمار البريطاني، وضمّها لمجموعة واسعة من المواضيع والمشكلات الاجتماعية، نجد هذا في أغاني أخرى، مثل أغنية "حيّد عن الجيشي يا غبيشي" و "ظريف الطول وقف تقلك" و"جفرا وهيا الربع".

كما لا يمكن الحديث عن الأهازيج الفلسطينية في مواجهة الاستعمار البريطاني دون التعريج على أغنية "من سجن عكا وطلعت جنازة"، التي تحكي قصّة الشبّان الثلاثة، محمد جمجوم وعطا الزير وفؤاد حجازي، الذين أعدمهم الاستعمار في يومٍ عرف بـ "الثلاثا الحمرا" بعد قيادتهم للاحتجاجات الشعبية في مدينة عكا، وعلى الرّغم من اعتبار هذه الأغنية جزءاً من الفولكلور الفلسطيني، فقد تداخلت مع العرس الفلسطيني بشكلٍ مباشر، وأصبحت من ضمن الأهازيج التي لم يتوقف الفلسطينيون عن استخدامها في أعراسهم.

الأهازيج كرسائل مشفرّة

ابتكر النساء والرجال في فلسطين شكلاً جديداً من الأهازيج، لم يقتصر على توثيق الواقع ونقله وتحويله إلى كلمات يتم ترديدها من الألسن في مختلف المناسبات، بل امتد ليكون أداة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي. تجلى ذلك في إضافة حرف اللام المتكرّر في نهايات الكلمات، لجعل الأهازيج بمثابة الكلمات المشفرّة لإخفاء معانيها عن المحتلين، كما عكفت النساء الفلسطينيات على استخدام هذه الظاهرة التي عرفت بـ "الملولة أو المولالاة"، وشاع استخدامها في نقل الرسائل للأسرى المعتقلين من أجل إخبارهم بمجيء الفدائيين لتحريرهم، ولعل أشهر الأغاني التي توثّق هذه الظاهرة، الأغنية التي يبدأ مطلعها بـ "يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح". وقد استحوذت هذه الأغنية، وغيرها من أغاني أهازيج الملولة، على مكانةٍ واسعة في العرس الفلسطيني، الذي تحوّل بجميع مكوناته في زمن الاحتلال الإسرائيلي إلى أداة يثبت الفلسطينيون من خلالها حقّهم في الأرض وطوقهم للحرية.

نواح المآتم والمهاهاة

برز في فلسطين نوعين من الأهازيج الأخرى، والتي عرفت بـ "نواح المآتم، والمهاهاة". وقد اختصت أهازيج نواح المآتم فيما تغنيه النساء الفلسطينيات على جسد الميّت وخلال أيام العزاء وفي ذكراه السنوية، وقد برزت العديد من النماذج لهذه الأهازيج، منها "جبت االدوا وجبت الطبيب، قالو لي عليلك ما يطيب، جبت الدوا ع طرف كمي، هب الهوا بعثروا مني".

وفيما يخص المهاهاة، فقد عرفت بأنها نوع من الأهازيج الفلسطينية رباعية التكوين، ويتبع كل مقطع من مقاطعها زغرودة فردية، وفي المقطع الأخير تكون الزغرودة جماعية، ومن الأمثلة على هذا النوع من الأهازيج: "أويها زرعنا نجاصه، أويها وبالبحر غطّاسه، أويها ويلّي ما بحبك يا عروس، أويها تطب بقلبو رصاصة" و"أويها أرقصي وديري ظهرك، أويها وارخي جدايل شعرك، أويها ويسلمك يا ست الأميرات، أويها يا مبيضة شاشات أهلك".

مشاريع حفظ وتوثيق

ظهر خلال السنوات الماضية العديد من المشاريع الفردية والجماعية، التي سعت إلى توثيق الأهازيج وأغاني الفولكلور الفلسطيني، سواءً من خلال توثيقها ورقياً أو إعادة إحيائها بالغناء، وقد بدأ ظهور هذه المشاريع بشكلٍ خاص بعد نكسة حزيران 1967، ومن أبرز هذه المشاريع: فرقة الفنون الشعبية، فرقة جامعة الاستقلال للفنون الشعبية، فرقة ديرتنا للفنون الشعبية، فرقة كنعان للتراث والفنون الشعبية. حيث لعبت هذه المشاريع دوراً بارزاً في جعل الأهازيج والرقصات الخاصة بالعرس الفلسطيني في مأمن من النسيان في ظل الحداثة التي لم تنجُ منها الأعراس الفلسطينية.

العرس بات وسيلة للتفريغ والتعبير عن مشاعر عديدة مرتبطة بالواقع الشّعبي المعاش، فهو بمثابة الرصاصة التي لم يستطع المقاوم إطلاقها، والحرية التي لم يستطع الأسير أن ينولها بين الأسوار، والبلاد البعيدة التي تجعلها جملة واحدة فقط قريبة جداً

ويعتبر ألبوم "دابا يا قلبي دابا" وألبوم "ليوان" من المشاريع المهمة خلال السنوات الثلاث الأخيرة، والتي وثّقت من خلالها جمعية نوى للثقافة والفنون في قطاع غزة، مجموعة واسعة من الأهازيج الفلسطينية الخاصة بالعرس الفلسطيني في قطاع غزة. كما لا يمكن إغفال التجارب الفردية التي سعت لتوثيق التراث الفلسطيني – أهازيج الأعراس خصوصاً- ونجد هذا جلياً في مشروع "يا ستي" الذي تقوده الفنانة الفلسطينية دلال أبو آمنة ومجموعة من الجدات الفلسطينيات. في الوقت الذي تكمن فيه أهمية هذه المشاريع في إعادة إحياء عدد كبير من الأهازيج القديمة التي باتت مقتصرة على الجدات، وتوثيق وحفظ الأهازيج التي ما زالت تستخدم حتى اليوم في الأعراس الفلسطينية، في مختلف مناطق تواجد الفلسطينيين، في الداخل أو الخارج.

وظائف متعددة

كأيّ مناسبة اجتماعية أخرى في فلسطين لا يمكن طرحها في سياق واحد فقط؛ تُخرِج الأهازيج العرسَ الفلسطيني من نطاقه المحدود كوسيلة للفرح، وتنقله إلى سياقات أخرى عديدة، ليكون وسيلة للمقاومة والتوثيق والحزن، نرى هذا بشكلٍ جلي فيما تحمله هذه الأهازيج من حكاياتٍ متعددة، سواءً كانت حكايات شجاعة أو حب أو بطولة، وعند تحليل الحالة الشعورية للمرأة الفلسطينية التي تلقي الأهازيج وتصيغها في أغلب الأحيان، نجد أنها مجموعة من الانفعالات الفردية والجماعية.

"أويها أرقصي وديري ظهرك، أويها وارخي جدايل شعرك، أويها ويسلمك يا ست الأميرات، أويها يا مبيضة شاشات أهلك".

لهذا يمكن القول إن "العرس" بات وسيلة للتفريغ والتعبير عن مشاعر عديدة مرتبطة بالواقع الشّعبي المعاش، فهو بمثابة الرصاصة التي لم يستطع المقاوم إطلاقها، والحرية التي لم يستطع الأسير أن ينولها بين الأسوار، والبلاد البعيدة التي تجعلها جملة واحدة فقط قريبة جداً. ينطبق هذا على الزغاريد التي شكّلت رابطاً مهماً بين الحزن والفرح، فالزغرودة التي تطلقها أمّ الشهيد هي ذاتها التي تطلقها أمّ العريس، الفرق الوحيد في التوقيت... التوقيت الذي بات يعني "مزيداً من الشهداء" بالنسبة للفلسطينيين.

أهازيج أخيرة

" لمّي يا لمّي شديلي مخداتي وطلعت من البيت وما ودّعت خياتي، لمّي يا لمّي شديلي قراميلي وطلعت من البيت ما ودعت أنا جيلي". بهذه الأهازيج تودّع العروس الفلسطينية أهلها في ليلة الحنّاء، وبينما هي تعدّ خطواتها الأخيرة خارجةً من بيت أهلها، يمكن سماع أهازيج مختلفة، منها "هناها يا هناها والباشا يستناها... يا باشا ربّط خيلك تتحمرّ حناها". كما أن أمّ العريس التي تستقبل العروس في البيت الآخر، يمكن سماع زغرودتها ذات الأجنحة، والتي يسمعها ليس فقط كل من يمرّ من الحارة، ولكن كلّ من يمر من الوطن.

ومع كثرة أهازيج العرس الفلسطيني وتنوع مواضيعها، يكاد يكون من الخطأ النظر إليها على أنها مجرّد أهازيج أعراس، فهي تبدو وسيلة لإصلاح وتوطيد العلاقات العائلية عند النّظر إليها عن بعد، وتبدو كحالةٍ جادة تعبر عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي عند النظر إليها عن قرب، حتى باتت هذه الأهازيج في جوهرها، أداة مهمة في مواجهة تحدّيات الواقع المعاش، ووسيلة بسيطة للتغلّب عليه وهزيمته ولو لفظيّاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

بالوصول إلى الذين لا يتفقون/ ن معنا، تكمن قوّتنا الفعليّة

مبدأ التحرر من الأفكار التقليدية، يرتكز على إشراك الجميع في عملية صنع التغيير. وما من طريقةٍ أفضل لنشر هذه القيم غير أن نُظهر للناس كيف بإمكان الاحترام والتسامح والحرية والانفتاح، تحسين حياتهم/ نّ.

من هنا ينبثق رصيف22، من منبع المهمّات الصعبة وعدم المساومة على قيمنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image