كل شيء مؤجل في مدينة غزة أثناء بث مباريات كأس العالم، عدا الشغف المتواصل طوال هذه الأيّام، بمعزل عن ذكرياته الصعبة في ماضي الغزيين إذ شنّ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على غزة عام 2014 في أواخر مباريات كأس العالم، ودمّر محطة الكهرباء الوحيدة في غزة خلال كأس العالم 2006.
وفي الوقت الذي تلوح فيه إسرائيل بتداعيات عملية عسكرية، بعد أن أعلنت المقاومة الفلسطينية في غزة عن امتلاكها سلاحاً مُضَادّاً للطيران، غلبت أصوات المشجعين على الحدث، بعد انتصار المنتخب المغربي التاريخي على غريمه الإسباني، إذ خرج الناس إلى الشوارع، ونشرت الفيديوهات التي تعبّر عن فرحهم بنصر المغرب بالركلات الترجيحيّة. في هذه الأثناء، خرج جمهور المستديرة في الأراضي الفلسطينية للتعبير عن فرحهم، وهو ما قابله الإسرائيليون بردة فعل عنيفة من القمع، تسببت باندلاع مواجهات بين الشبان وجنود الاحتلال في شعفاط وباب العمود خلال الاحتفالات بتأهل المنتخب المغربي.
لا ينظر الغزيون كثيراً إلى مواقف الحكومات العربية السياسية مع إسرائيل. وعلى الرغم من التطبيع الإسرائيلي المغربي، يحفظ سكان غزة مشاهد الأعلام الفلسطينية في الملاعب المغربية، كما يحفظون بعض الهتافات التي كان ينظمها جمهور نادي الرجاء البيضاوي المغربي، وأبرزها "الحبيبة فلسطين" و"ما نسمح فيكِ يا غزة".
غزة والفرق العربية
شهدت صالة سعد صايل الرياضية التي خصصتها اللجنة القطرية لإعادة إعمار غزة لعرض مباريات المونديال مجاناً، اكتظاظاً هائلاً، وذلك لمشاهدة مواجهة المغرب وإسبانيا، حتى إنهم وقفوا طوال 120 دقيقة وترقبوا ركلات الجزاء التي أسفرت عن فوز المغرب، ثم علت الأصوات هاتفةً خارج الصالة.
إسماعيل جابر (42 عاماً)، وهو أحد الحاضرين، يقول لرصيف22: "شجعنا كل المنتخبات العربية طوال بطولات كأس العالم السابقة، حتى إنني تابعت أول كأس عالم عام 1994، وشجعت حينها المنتخب السعودي الذي تغلب على بلجيكا ونافس في الدور الثاني وهُزم من السويد. نحن أكثر الناس فرحاً بأن منتخب عربي إذ نترك السياسة في الخارج".
في الوقت الذي تلوح فيه إسرائيل بتداعيات عملية عسكرية، غلبت أصوات المشجعين على الحدث، بعد انتصار المنتخب المغربي التاريخي على غريمه الإسباني، إذ خرج الناس إلى الشوارع، ونشرت الفيديوهات التي تعبّر عن فرحهم بنصر المغرب بالركلات الترجيحيّة
يعتبر المواطنون في غزة أن كل منتخب عربي يلعب في بطولة عالمية أو آسيوية أو أفريقية يمثلهم، إذ سبق للغزيين أن شجعوا منتخب مصر لدى تأهله للأدوار النهائية في كأس الأمم الأفريقية، وفي نفس الوقت، آزروا المنتخب الجزائري الذي حصل على كأس أمم أفريقيا قبل حصوله على البطولة في مصر عام 2019، بعد أن فازوا على السنغال في المباراة النهائية.
يقول أيمن الحجار (33 عاماً): "أذكر في أوقات معيّنة عندما يبدأ القصف الإسرائيلي، وفي نفس الوقت، تأتي مباريات دوري أبطال أوروبا أو الدوري الإسباني، كان والدي يصرخ لأننا نعيش أحداثاً عصيبة، لكن هل أجلس حزيناً؟ بالطبع لا، هكذا نحن نبحث عن أيَّ فرحة تنسينا ما نحن فيه حتّى لو بشكل لحظي، ونبحث عن منتخب عربي يمثلنا، لأن علمنا حاضر أيضاً، وهم بقلوبنا حاضرون".
ذكريات أليمة في المونديال
معظم بطولات كأس العالم مرّت على الفلسطينيين والغزيين على وجه التحديد أثناء أحداث صعبة، بسبب الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه المتكرر، إذ جاء مونديال اليابان وكوريا الجنوبية عام 2002 بإحداث متوترة بعد مجزرة جنين في نيسان/ أبريل من نفس العام، وتشديد الحصار على الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، مع اجتياحات لمدن الضفة الغربية وقطاع غزة التي كانت تشهد قصفاً إسرائيلياً واغتيالات متتالية لقادة فلسطينيين، في وقت كانت المستوطنات الإسرائيلية قائمة قبل الانسحاب عام 2005.
لكن مونديال ألمانيا عام 2006 كان نقطة تحول كبيرة للغزيين، إذ قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي محطة الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، وأغرقته بالظلام، بينما جاء مونديال البرازيل عام 2014، مع بدء عدوان إسرائيلي جديد استمر 51 يوماً، وقتل خلاله آلاف الغزيين، وجرح عشرات الآلاف ودمرت آلاف المنازل.
كان مونديال ألمانيا عام 2006 نقطة تحول كبيرة للغزيين، إذ قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي محطة الكهرباء الوحيدة في قطاع غزة، وأغرقته بالظلام، بينما جاء مونديال البرازيل عام 2014، مع بدء عدوان إسرائيلي جديد استمر 51 يوماً، وقتل خلاله آلاف الغزيين، وجرح عشرات الآلاف ودمرت آلاف المنازل
وخلال مونديال روسيا عام 2018، كانت الأوضاع متوترة مع مسيرات العودة المطالبة بإعادة طرح حق العودة أمام المجتمع الدولي، ورفع الحصار عن قطاع غزة حيث وقعت مجازر إسرائيلية ارتكبتها ووثقتها الكاميرات والمنظمات الحقوقية، ومنها مؤسسات حقوقية موجودة في الأراضي المحتلة.
يتابع الناس مونديال قطر وسط كل التوترات مع الاحتلال الإسرائيلي، ولا يبالون بها نتيجة الحماس الدائر في شوارع قطاع غزة، وكأن المنتخب الفلسطيني هو الذي شارك في البطولة ووصل إلى مباراة نصف النهائي. هكذا كان الوضع في الشوارع، حتّى لغير المتابعين لكرة القدم.
التلفزيون الإسرائيلي
منذ عام 1967 حتى عام 1993، كان يفرض على الغزيين مشاهدة التلفزيون الإسرائيلي الناطق بالعربية، الأمر نفسه كان يحدث في الضفة الغربية، حتى إن القائمين على التلفزيون الإسرائيلي الموجه في قناته العربية للمجتمع الفلسطيني في الداخل والضفة وغزة، كانوا يخصصون "فيلم الجمعة العربي"، الذي يكون عادةً مصرياً. في ذلك الوقت، يذكر وائل أبو مسامح (70 عاماً) أن التلفاز الأبيض والأسود كان مصدراً للتباهي بين الغزيين. كانت الشبكة تلتقط محطات محدودة لعدم وجود بنيان ممتد لأدوار عالية، وكان للتلفزيون الإسرائيلي أربع قنوات، بالإضافة إلى التلفزيونين المصري والأردني. لكن إشارة التلفزيون الإسرائيلي كانت الأوضح.
يقول أبو مسامح لرصيف22: "كنا مجتمعاً واعياً ومحباً لفكرة الوحدة المجتمعية، كان التلفزيون يبث برامج موجهة للمجتمع العربي، كما كان الجيش الإسرائيلي يريد تسهيل حركة العمال من خلال هذه القناة، في حين أن الأسر الفلسطينية كانت تلتف حول الفيلم المصري "المقدس" مساء كل يوم جمعة، ولكن حين تبث مباريات كرة القدم، خاصّة كأس العالم، كنّا نتغاضى عن كل شيء، ونواكب العالم عبر هذه الشاشة الصغيرة".
ويذكر أبو مسامح أن المسافرين من مصر إلى غزة، كانوا يحضرون بعض المجلات العربية والصحف التي تتابع المباريات وتقدمها ملخصات لكأس العالم، إذ كان من هواة القراءة ومتابعاً شغوفاً للدوري المصري. في ذلك الوقت، كان الاحتلال الإسرائيلي يحارب الكتب والمحتوى العربي الذي يحتوي على مضمون سياسي في الضفة الغربية وقطاع غزة والداخل الفلسطيني قبل عام 1994 وقدوم السلطة الفلسطينية على ظهر اتفاقية أوسلو.
نسبة كبيرة من الفلسطينيين كانت تشاهد مباريات كأس العالم والبرامج المصرية، رغم ضعف الإشارة الملتقطة على التلفزيون القديم، وهو ما فتح تواصلاً كبيراً بين المجتمعين الغزي والمصري، عن طريق مشاهدة مباريات الدوري المصري ونشوء جماهير لناديي الأهلي والزمالك داخل غزة، حسب ما يقوله معين شاهين.
ويقول شاهين (60 عاماً) لرصيف22: "كنا نملك تلفزيوناً أبيض وأسود داخل منزلنا الصغير. كان 14 بوصة، يعمل على بطاريات السيارات القديمة. عندما تأتي الفرصة، كنا حوالى 10 أشخاص، نتجمع لمشاهدة الهدف. كانت أجواء جميلة. في ذلك الوقت، أثناء مونديال إيطاليا، اشتريت أول تلفزيون ملون. أحضرته معي من الداخل الفلسطيني، عندما كنت عاملاً هناك. أذكر ذلك اليوم جيداً. كان أشبه بعرس مقدس.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...