عرف الشارع المغربي في السنوات الأخيرة، تراجعاً في منسوب الاحتجاجات والتظاهرات، خصوصاً بعد الاعتقالات التي طالت ناشطي حراك الريف وجرادة، والتضييق الذي مورس على الصحافيين وبعض الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي، من دون أن ننسى منع الأشكال الاحتجاجية كلها بداعي استمرار حالة الطوارئ في المغرب منذ جائحة كورونا.
وبرغم أن الظروف الاقتصادية والاجتماعية في المغرب حالياً، توحي بأن التوتر الحالي يمكن أن ينفجر في أي لحظة، إلا أن الوضع هناك يبقى جامداً من دون أن ينفجر ويعود إلى حالة الخمود، حسب وصف الباحث الأنثروبولوجي جون واتر بوري، للسياق الاجتماعي للمجتمع المغربي.
ما وراء الاحتجاج الصامت للمغاربة
يؤكد الباحث في العلوم الاجتماعية والسياسية في جامعة لوزان حميد توعلي، أن الهدوء والصمت، اللذين يعرفهما الشارع المغربي اليوم، لا يدلان على الركود أو عدم الاحتجاج، وأن الباحثين في العلوم السياسية عادةً ما ينطلقون من الأشكال الظاهرة للاحتجاجات والمنظمة للتظاهرات، ويضيف أن ما يُسمّى بـ"الصمت" يحيلنا إلى السياسة غير المرئية، أي كل ما يحدث بعيداً عما هو سياسي كما يقول الباحث في الإنثربولوجيا جايمس سكوت.
الظروف الاقتصادية والاجتماعية في المغرب حالياً، توحي بأن التوتر الحالي يمكن أن ينفجر في أي لحظة
ويرى توعلي، أن الناس، وراء صمت الشارع، تناقش النظام الذي لا يروق لهم أو الذي يسبب لهم متاعب في حياتهم اليومية وتنتقده. ويشرح أن هذا الشكل الاحتجاجي يأخذ أشكالاً عدة؛ كالمحادثات في الأسواق والمقاهي والمنازل، بالإضافة إلى التنكيت وردود الفعل اليومية الكئيبة التي تتم إثارتها بطرقهم الخاصة. ويضيف أن هذه الظواهر تشير إلى بحث متواصل عن صياغةٍ ما أو تشكيلٍ ما لبناء إطار مناسب لاندلاع الحركات الاحتجاجية المستقبلية.
فرز أمني واعتقالات تكبت حركية الشارع
في المقابل، يرى الناشط الحقوقي في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان سعيد حداد، أن السبب الرئيسي لهذا التراجع، برغم الاحتقان الملاحَظ في المجتمع المغربي والغلاء المعيشي، هي الاعتقالات وسنوات السجن التي وُزّعت على ناشطي الحركات الاجتماعية (حراك الريف، جرادة وزاكورة)، بالإضافة إلى اعتقال بعض الصحافيين والناشطين بسبب تدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي، ويشدد على أن الشعب على دراية بهذه السياسة القمعية التي تتعامل بها الدولة مع كل من يطالب بمطالب اجتماعية واقتصادية.
ويستحضر الناشط الحقوقي عبارة "مكاينش معامن؟" (التي يُقصد بها غياب شريك مضمون)، تتكرر على مسامعنا بشكل يومي كتفسير لصمت الشارع، ويقول إن العبارة لا أساس لها من الصحة، والصحيح أن المقاربة القمعية والزجرية هي السائدة وقد خلقت نوعاً من الرعب في صفوف الجماهير، كما أن الدولة لجأت أيضاً إلى استخدام الفرز الأمني من خلال حرمان مجموعة من الشباب الناشطين في بعض الحركات الاجتماعية من الوظائف العمومية.
وهذه المقاربة القمعية انعكست أيضاً على التنظيمات الحقوقية والنقابية في المغرب، بالإضافة إلى الحصار والتضييق على القوى الحية، كما هو الأمر مع التنظيمات التي لا تتوصل بالتراخيص القانونية الخاصة بعملها، والتنظيمات التي تُحرم من الاستفادة من القاعات العمومية، وعدم السماح لها بحق التنظيم وكل هذا ينعكس سلباً عليها، مما يؤدي إلى ضعف القاعدة الجماهيرية وتراجع التعبئة للتظاهرات وعدم استجابة الشعب لدعوات هذه التنظيمات إلى الوقفات الاحتجاجية.
انتهاء صلاحية الأحزاب والنقابات...
ويقول الباحث المغربي في العلوم الاجتماعية والسياسية في سويسرا، إن الواقع الاجتماعي الحالي يوفر الظروف الملائمة للحركات الاجتماعية المستقبلية، ويستدرك: "المشكلة تكمن في أن الوساطات السياسية (الأحزاب السياسية، والنقابات... إلخ)، التي لا تقوم بدورها الكامل في النقد والمواكبة الصحيحة والبناءة لهذه الحركات الاجتماعية لتحقيق مكاسبها وأهدافها، ويشير هنا إلى ما حصل في حراك الريف الذي غابت عنه هذه الوساطات.
الواقع الاجتماعي الحالي يوفر الظروف الملائمة للحركات الاجتماعية المستقبلية
كما أن إغلاق الفضاء العام لا يساعد أبداً في مواكبة التعبيرات والحركات الجماعية ونضجها. وبرغم أن بعض الأحزاب السياسية تريد أن تأخذ زمام المبادرة للعب هذا الدور، لكن تصادفها صعوبات تتلخص أساساً في الحذر الذي يقابلها من طرف الفاعلين في الحركات الاحتجاجية، فشعار "لا للدكاكين السياسية" الذي رُفع في الحراك، يعبّر بشكل قوي عن هذا الأمر، وفق الباحث.
ويقف حميد توعلي، عند عنف الدولة من خلال المقاربة البوليسية للحركات الجماعية وتسخير العدالة من أجل إدانة الناشطين عبر محاكمات زائفة وظالمة، واستخدام التعذيب، والتشويه وتجريم النشاط السياسي وهو ما يفسر حالة الخمول التي يشهدها الوضع الراهن.
ويشرح أن العناصر سالفة الذكر، تكبت التعبير عن التجارب الأخلاقية السلبية حسب الفيلسوف أكسيل هونيث، في انتظار بزوغها على الساحة السياسية أو في الفضاء العام، أما إذا تم الاستمرار في قمع التعبيرات فلن يتأخر في أخذ أشكال عنيفة، أو شكل آخر يكمن في تفاقم الباثولوجيا الاجتماعية، والمزيد من تدهور كل ما هو سياسي، وتالياً سيكون من الصعب جداً توقّع مآل الحركات الاجتماعية.
يتفاءل الناشط الحقوقي سعيد حداد، بالتجارب التاريخية المماثلة التي عاشها المغرب، بقوله: "مهما طال هذا الاستبداد والقمع وطغيان السلطوية، فسيأتي يوم وتنفجر الأوضاع فيه إما بشكل مؤطر أو غير مؤطر، ويستشهد أيضاً بالتجارب السابقة المصحوبة بالاعتقالات وأحكام الإعدام والمؤبد، والتي يقول إن الجماهير عادت بعدها إلى الشارع مجدداً لتطالب بالتغيير.
استخدام التعذيب، والتشويه وتجريم النشاط السياسي هو ما يفسر حالة الخمول التي يشهدها الوضع الراهن
ويؤكد المتحدث أن المقاربة الأمنية حلّ مؤقت وليست حلاً دائماً، خصوصاً مع تردّي الأوضاع الاقتصادية، وأن الفئات الاجتماعية المقهورة ستخرج إلى الشارع في ظل غياب البديل، ولن تخسر شيئاً سواء أكانت داخل السجن أو خارجه.
إذاً، في ظل التضييق والحصار الممارسَين على الناشطين والصحافيين والهيئات الحقوقية، وفي ظل غياب حركات اجتماعية محلية تطالب بمطالب اقتصادية واجتماعية محلية، لتتوسع بعد ذلك على المستوى الوطني كما هو الأمر سنة 2006، و2011، ومع حراك الريف وجرادة وزاكورة، تبقى وسائل التواصل الاجتماعي هي الفضاء البديل للاحتجاج والانتقاد برغم ما يمارَس على ناشطي هذه المواقع وصحافييها من تضييق واعتقالات.
وهنا يتساءل توعلي: ما هي الأشكال المستقبلية للحركات الاحتجاجية، خصوصاً أنها تنفلت أكثر فأكثر من قبضة الدولة والأحزاب السياسية؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ اسبوعينلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...